تُجمع التغطيات المصاحبة للقمة العربية على أن قضية
فلسطين ستحظى بمكانة لم تحظ بمثله طوال سنوات “الفوضى الخلاقة” الست الفائتة، وهو إجماع
لا يقلل من شأنه
اختلاف “صفحات الرأي” في تقدير حجم المنجز وطبيعة القرارات التي ستصدر
عن القمة بخصوص أقدم وأهم وأخطر صراع تشهده المنطقة منذ مائة عام أو يزيد.
وإذا كان لا بد من نسبة الفضل لأصحابه، يصبح الإقرار
بالدور الذي لعبته الدبلوماسية الأردنية في إعادة الاعتبار للقضية موضوعاً ومكانة على
جداول أعمال المؤتمر وما سبقه من اجتماعات تحضيرية على مستوى الوزراء والمندوبين، وما
شهدته القنوات الدبلوماسية من نشاط محموم خلال الأسابيع والأشهر القليلة الفائتة، ومن
تابع المواقف والتصريحات التي صدرت عن جلالة الملك، وترجمها وزير الخارجية على نحو
موفق، يدرك بلا شك، دور البلد المضيف في إعادة ترتيب جدول اعمال مؤتمر القادة العرب.
ولا شك أيضاً، أن الظروف الدولية والإقليمية، قد
ساعدت الأردن، ومعه السلطة الفلسطينية، على رفع منسوب الاهتمام بالمسألة الفلسطينية،
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أبدى اهتماماً بتحريك الملف الفلسطيني، وهو اختار
– كعادته – أن يدخل لهذا الملف من بوابة ملتبسة، وغالباً مثيرة للقلق والاستنكار، تارة
بحديثه عن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، وثانية من خلال إعطائه “ضوءً برتقالياً”
لأعمال التوسع الاستيطاني، وثالثة من خلال تركه الباب مفتوحاً لـ “حل الدولتين” أو
“الدولة الواحدة” أو أي حل آخر يرتضيه الطرفان ويتفقان عليه.
وزاد الطين بلّة، أن بعض العرب، أراد أن يبعث بإشارات
عن الاستعداد لإعادة النظر بمبادرة السلام العربية، أو إعادة صياغتها كما ذكر، وجرى
الترويج بطريقة غير مفهومة لمبادرة جديدة للسلام في المنطقة، ينوي الجانب الفلسطيني
التقدم بها للقمة، ورغم النفي المتكرر للجانب الفلسطيني لمثل هذه المواقف، إلا أن البعض
ظل على إصراره، بأن جديداً سيطرأ ومبادرة ستُقدم، وسيحملها القادة العرب إلى الرئيس
الأمريكي، عندما يتوافدون إلى واشنطن بدءاً من الأيام الأولى لشهر نيسان/ أبريل المقبل.
هنا يتوقف إجماع “التغطيات” الصحفية والإعلامية
للقمة، ليبدأ الخلاف على “صفحات الرأي” بين كتاب ومحللين ومراقبين، تذهب تقييماتهم
للقمة في كل اتجاه ... من قائل بأنها لن تخرج عن مألوف القمم السابقة، وأن جديد القمة
قديم، وقديم القمم لم يجلب نفعاً ولم يدرأ ضُرّاً ... إلى قائل، بأن حضور القضية الفلسطينية
بعد سنوات من الغياب والتغييب، هو بحد ذاته، مكسب لها ولأصحابها ... إلى تحليل يضع
القرارات والنتائج برمتها في سياق حالة التراجع والتآكل التي يعيشها النظام العربي
منذ سنوات (بل عقود)، والتي نقلت الجانب العربي من موقع الفاعل إلى موقع المفعول به،
خصوصاً في دول الأزمات النازفة والمفتوحة منذ سنوات ست على أقل تقدير.
على أية حال، ما كان للأردن أن “يخرج زير العمل
المشترك من بئر التآكل والتراجع”، فتلكم مهمة تحتاج معجزة في زمن انقطعت فيه معجزات
السماء، وإحياء النظام العربي وهو رميم، هي مهمة تحتاج إلى معجزة أو شفاعات جميع القديسين،
لكنه – الأردن - على الأقل، نجح في تحقيق امرين اثنين، بشهادة “إجماع التغطيات” وعلى
الرغم من انقسام “صفحات الرأي” ... الأردن نجح في تقديم تنظيم رفيع المستوى، وانجز
“فروضه” و”واجباته المنزلية” بكفاءة واقتدار، ونجح في تأمين أعلى نصاب للقمة منذ سنوات
طوال ... فالدبلوماسية الأردنية التي خبرت “السير في حقول الألغام” وتخطي الأزمات الأشد
تعقيداً، عرفت كيف تسير بحذر بين خطوط التماس والصدام التي تقسم العالم العربي، وأن
تجد مساحة مشتركة كافية لجذب 16 ملكاً وأميراً ورئيساً إلى أخفض بقعة على سطح الكرة
الأرضية.
ولا شك أن البيان الختامي للقمة، الذي بات بصيغته
شبه النهائية متداولاً، يعطي الانطباع بأن “وقفاً لحالة التدهور” قد تحقق، أقله لن
يجمع العرب هذه المرة على تقديم وجبة جديدة من التنازلات المجانية لإسرائيل، وإن كانت
قراراتهم، غير كافية لرد التحدي المتغطرس الذي تلقيه دولة الاحتلال والعنصرية والاستيطان
في وجوه الفلسطينيين، لن يتم الهبوط عن سقف المبادرة العربية ولا نية لإنفاذها من
“الياء إلى الألف” كما يريد نتنياهو، ولا التفريط بحل الدولتين والقدس والمقدسات، لكن
من أسف، نخشى أن الإجماع العربي لن يوفر هذه المرة أيضاً، الآليات والبرامج الكفيلة
بترجمة القرارات والتوجهات العربية، بما فيها دعم صناديق السلطة والقدس والانتفاضة
وتثبيت الصمود وتدعيم المقدسيين، وغير ذلك من قرارات ظلت ترحل من قمة إلى أخرى، من
دون جدوى.
وأحسب أن مخاطر انزلاق بعض العرب، في شباك مشاريع
ترامب – نتنياهو لن تتبدد في اليوم التالي للقمة، فقد عهدنا من تجربة العقود الماضية،
أن العرب يقررون شيئاً ثم يمضي كل منهم في سبيله، بحثاً عن أولوياته، من دون التفات
لقرارات الإجماع العربي، بل ومن دون اكتراث بأية تداعيات قد تنجم عن خرق هذا الإجماع
... الأمر الذي يملي على الفلسطينيين والأردنيين على حد سواء، أعلى درجات التنبه واليقظة،
فلا مشروع “الحل الإقليمي” قد دفن، ولا محاولات فرض التطبيع على العرب قبل جلاء إسرائيل
عن الأراضي المحتلة ستتلاشى
.