من قبل أن يذبح ، كان ميتا
|
يبكي ببغداد زمانا ميّتا
|
يبحث عن حجابه |
عن شاعر ببابه ،
|
يسمعه .. أنت الفتى
|
فلا يرى إلا عيونا من لظىّ
|
تملأ جوف القصر رعبا صامتا
|
إلا قتيلا ، لم يمت ، ولم يزل
|
يسأل بغداد .. متى الثأر ، متى ؟
|
بغداد درب صامت ، وقبّة على ضريح
|
ذبابة في الصيف ، لا يهزها تيّار ريح
|
نهر مضت عليه أعوام طوال لم يفض
|
وأغنيات محزنه ،
|
الحزن فيها راكد ، لا ينتفض !
|
وميّت ، هيكل إنسان قديم ،
|
سيف على صدر الجدار ، خنجر من النضار ،
|
أردية ملوّنه ،
|
غطّت ضلوعا من هشيم !
|
وامرأة تغلق في وجه المساء بابها
|
نبكي على أخشابه أحبابها
|
وأوجه منقبات ، لا تبوح
|
بغداد سور ، ما له باب
|
بغداد تحت السطح سرداب
|
الفجر فيه ، في سواد أحرف على الورق
|
والشمس فيه ، واستدارة الأفق
|
وشمعة تراقصت من حولها سود الظلال
|
وسبعة من الرجال
|
جباههم مجرى عرق
|
وجوههم معتمات لا تبوح
|
عيونهم لا تستريح
|
تنفذ في السرداب ، تعلو .. حيث بغداد تنوح
|
تمشي على نقش قديم في الخشب
|
(( عاش العرب))!
|
. . . . . . .
|
وأزّ في نهاية السرداب باب
|
وشدت العيون نحوه ، كأنها حراب
|
صدى خطى ، أفسد وقعها الكلال
|
القلب دق
|
(( النسر حط في دمشق ))
|
(( عدنان طير لا ينال )) !
|
***
|
من قاع حفرتي أغني ، يا أوائل النهار
|
أحلم كالبذور في الثرى بعيد الاخضرار
|
وكلما يئست من بعثي ، ومن صدق المدار
|
ندى ثراي دمع بغداد الانتظار
|
***
|
من قاع حفرتي رأيت الشمس تأتي كلّ يوم
|
تأتي ، ولا ترحم نائما سعيدا طيّ حلم
|
تأتي ، ولو لم يدعها كف ، ولم يصل فم
|
تأتي ، فكم طفل مشى ، وكم طوى الثرى هرم
|
من قاع حفرتي ، سمعت قصتي تطوي البلاد
|
كالطائر الليلي تبكيني ، وتبذر السهاد
|
بغداد !
|
طفلك القتيل ساهر تحت الرماد
|
منتظر أن تكتبي بالفأس تاريخ المعاد!
|
***
|
الموت ليس أن توارى في الثرى
|
ولا الحياة أن تسير فوقه
|
الزرع يبدأ الحياة في الثرى
|
ويبدأ الموت إذا ما شقّه
|
فامنح هواك للذي يحيا ،
|
وأعط للتراب ما استباحوا خنقه
|
فلن تموت يا مسيح ! إنما
|
على الصليب ينتهي من دّقة !
|
***
|
بغداد طفلها على باب الدفاع
|
لم يغتمض جفناه ، لم يسكن بجنبه ذراع
|
مرتفع ، وثائر الشعر ، وطلول الجراح
|
كأنه يخطب في جنوده يوم الصراع
|
كأنه ما زال هاربا يعاكس الرياح
|
يا .. يا صلاح !
|
يا .. يا صلاح !
|
أطفال بغداد بجانب الجدار يهمسون
|
رد علينا ! ان صمتك الطويل ، يقطع الصبر الجميل
|
رد علينا ! ما الذي فعلت في عام الرحيل
|
يا قائد الثوار ! يا حيران بالحلم النبيل !
|
هل يجمع العرب الشتات ؟
|
هل يدفنون قاتلا ، من قبل أن يموت .. مات ؟!
|
يا .. يا صلاح !
|
إلى اللقاء ، لن نقول .. الوداع !
|
***
|
بغداد ليل ما به نجم
|
بغداد فجر لاهب جهم
|
يا أهل بغداد اخرجوا .. لا تتركوه !
|
بغداد أرض قلب المحراث في دروبها ،
|
فأنبتت مليون ساق
|
تزاحمت ، والنوم في عيونها ،
|
وفي ثيابها روائح الزقاق
|
تزاحمت ، ما ويله عبد الإله ،
|
من ثورة القتلى ، ومن ثأر الحياه !
|
الميّت المسكين يرمي الموت في وجه الجنود
|
يبحث عن باب النجاه
|
لا تتركوه !
|
لا تتركوه !
|
لا ترجعوا من قصره سود الودوه
|
سدوا عيونه التي أغلقها دون الصباح
|
شلّوا يمينه التي كم حفرت حمر الجراح
|
يا .. يا صلاح
|
باسم جديد عدت يا شعب العراق
|
يا أيها الطفل القتيل ، قد بعثت من جديد
|
يا أهل بغداد اخرجوا .. اليوم عيد
|
عدوكم ظلّ على باب الدفاع
|
ظلّ بلا ملامح ، بلا ذراع
|
ظلّ تعانقه الطيور ، فادفنوه !
|
------
|
( سبتمبر ـ 1958)
|