الساعة الرابعة عصرا كنتُ في كتابة آخر ورقة من روايتي الجديدة وآمُل أن تلقى قبولا من وزارة الثقافة، من أجل البدء في عملية الطبع والنشر. بيتي اليوم ممتلئ بالناس.. هل
يا ترى حفصة قامت بإعداد وليمة ذكرى موت أبيها بدون علمي؟ لقد نبهتها مرارا ألاّ تفعل هذه الأشياء. وأنا في خضم فهم ما يجري لمحت السي عبد الخالق صديقي في العمل، بقبعته الشارلوكية منتحبا بملامحه وعليه أسىً ظاهر؛ دنوت منه وتأكدت بأنه هو.. ناديته باسمه فلم يسمعني، وضعت يدي على كتفه فلم يحس بشيء لعله من فعل الصدمة، فقد الإحساس مثلي.. ما الأمر؟ تركت عبد الخالق واتجهت للصالة وجدت كل الأصدقاء وزملاء العمل يُقدّمون العزاء لحفصة.. حفصة نفسها لم تُعِرْني اهتماما ربما لهول المناسبة الحزينة، التي أدت بحواسها للتشظي.. هل تكون أمها من فارقت الحياة؟
ـ كان رحمه الله والنِّعْم.
ـ هذا كلام لا نقاش فيه.. اللهم ارحمه وثبته عند السؤال.
سمعتُ الضيفان يتحدثان في ما بينهما؛ إذن فالمتوفى رجل وليس امرأة، ليست أم حفصة من ماتت.. هل يكون شقيقها؟ أم أحد أقاربها؟ منذ مدة لست أذكر فقدت الاتصال بأقاربها لم يكن بيننا خلاف أو ما شابه ولا أدري سبب الانقطاع. رأيت أخت حفصة وابنة عمها في حالة بكائية ولا بد أن المصاب جلل.. صعدتُ للطابق الثاني من البيت أُفتِّشُ عن عدنان وزينب ولداي، إذ لم ألحظ وجودهما في هذا الحدث، فلم أجد لهما أثرا وانتبهتُ للساعة ولليوم، فأدركتُ أن غيابهما مرهون بالمدرسة. نزلت الدرج وشاهدت قِصَع الكُسْكُس بَدَأَت تدخل الصالة من بيوت الجيران، فهي عادة في الأحياء الشعبية ومراعاة لأهل الفقيد في مصابهم كفعل إنساني. استدار الضيوف حول الطاولات بغطائها الناصع البياض والكراسي المتراصة بطريقة مستديرة.. وبدأ الأكل بين من يدعو بالرحمة ويكفكف دمعا ويَتَنَهَّد بحسرة. حفصة منشغلة ومُغيَّبة في الوقت ذاته، لم أستطع فكّ رموز حالتها اقتربتُ منها وتحدثتُ إليها فلم تجبني هي كذلك.. كأنني في حلم؛ كأنني شفاف أو هكذا خيّل إليّ؛ أسمع كلام الناس وأراهم لكنني لا أحس بنبضات قلبي ولا بثقل جسدي! لعلّ الاستيقاظ المتواصل في الكتابة أفقدني حسّي بكنهي. اتجهتُ للضيوف وتحديدا لطاولة السي عبد الخالق، فقد كان يجلس معه إلى الطاولة نفسها مديري في الشركة وبعض أصدقاء الوسط الثقافي الذين يكتبون ويكتتبون.. همس أحد الكَتَبَة في أذن من بجانبه بأن سي مسعود الأصفر لم يترك إرثا لأسرته، إلا هذا المنزل وبعض الدراهم التي سيهبها مدير الشركة كمعاونة لزوجته، وأن نشاطاته في المجال الثقافي كانت تُدرُّ عليه أموالا جانبية بفعل الدعم الذي يأخذه من الجهات المسؤولة، أضف إليها أرباحه من مبيعات رواياته.. استغربت للحديث وللاسم الذي ذكره إنه اسمي أنا «مسعود الأصفر»! ولكنني مستغرب أكثر من حديث هذا الرجل عن الدعم الذي كنت آخذه تحت عباءة النشاط الثقافي! صرختُ في وجهه قائلا:
يا ترى حفصة قامت بإعداد وليمة ذكرى موت أبيها بدون علمي؟ لقد نبهتها مرارا ألاّ تفعل هذه الأشياء. وأنا في خضم فهم ما يجري لمحت السي عبد الخالق صديقي في العمل، بقبعته الشارلوكية منتحبا بملامحه وعليه أسىً ظاهر؛ دنوت منه وتأكدت بأنه هو.. ناديته باسمه فلم يسمعني، وضعت يدي على كتفه فلم يحس بشيء لعله من فعل الصدمة، فقد الإحساس مثلي.. ما الأمر؟ تركت عبد الخالق واتجهت للصالة وجدت كل الأصدقاء وزملاء العمل يُقدّمون العزاء لحفصة.. حفصة نفسها لم تُعِرْني اهتماما ربما لهول المناسبة الحزينة، التي أدت بحواسها للتشظي.. هل تكون أمها من فارقت الحياة؟
ـ كان رحمه الله والنِّعْم.
ـ هذا كلام لا نقاش فيه.. اللهم ارحمه وثبته عند السؤال.
سمعتُ الضيفان يتحدثان في ما بينهما؛ إذن فالمتوفى رجل وليس امرأة، ليست أم حفصة من ماتت.. هل يكون شقيقها؟ أم أحد أقاربها؟ منذ مدة لست أذكر فقدت الاتصال بأقاربها لم يكن بيننا خلاف أو ما شابه ولا أدري سبب الانقطاع. رأيت أخت حفصة وابنة عمها في حالة بكائية ولا بد أن المصاب جلل.. صعدتُ للطابق الثاني من البيت أُفتِّشُ عن عدنان وزينب ولداي، إذ لم ألحظ وجودهما في هذا الحدث، فلم أجد لهما أثرا وانتبهتُ للساعة ولليوم، فأدركتُ أن غيابهما مرهون بالمدرسة. نزلت الدرج وشاهدت قِصَع الكُسْكُس بَدَأَت تدخل الصالة من بيوت الجيران، فهي عادة في الأحياء الشعبية ومراعاة لأهل الفقيد في مصابهم كفعل إنساني. استدار الضيوف حول الطاولات بغطائها الناصع البياض والكراسي المتراصة بطريقة مستديرة.. وبدأ الأكل بين من يدعو بالرحمة ويكفكف دمعا ويَتَنَهَّد بحسرة. حفصة منشغلة ومُغيَّبة في الوقت ذاته، لم أستطع فكّ رموز حالتها اقتربتُ منها وتحدثتُ إليها فلم تجبني هي كذلك.. كأنني في حلم؛ كأنني شفاف أو هكذا خيّل إليّ؛ أسمع كلام الناس وأراهم لكنني لا أحس بنبضات قلبي ولا بثقل جسدي! لعلّ الاستيقاظ المتواصل في الكتابة أفقدني حسّي بكنهي. اتجهتُ للضيوف وتحديدا لطاولة السي عبد الخالق، فقد كان يجلس معه إلى الطاولة نفسها مديري في الشركة وبعض أصدقاء الوسط الثقافي الذين يكتبون ويكتتبون.. همس أحد الكَتَبَة في أذن من بجانبه بأن سي مسعود الأصفر لم يترك إرثا لأسرته، إلا هذا المنزل وبعض الدراهم التي سيهبها مدير الشركة كمعاونة لزوجته، وأن نشاطاته في المجال الثقافي كانت تُدرُّ عليه أموالا جانبية بفعل الدعم الذي يأخذه من الجهات المسؤولة، أضف إليها أرباحه من مبيعات رواياته.. استغربت للحديث وللاسم الذي ذكره إنه اسمي أنا «مسعود الأصفر»! ولكنني مستغرب أكثر من حديث هذا الرجل عن الدعم الذي كنت آخذه تحت عباءة النشاط الثقافي! صرختُ في وجهه قائلا:
أتبحثُ عنْ قَرَعِ الوَهْمِ في شَعْرِ الحَقيقة يا هذا؟
يا للوجوه المستعارة قبل وبعد موتك يا مسعود! هذا الرجل اسمه فؤاد أذكر اسمه جيدا كان فظا غليظ القلب.. غليظ الفؤاد، وكان يَتَحَيّنُ الفُرَصَ ليُظْهِرَ نفسه كأديب وكم من أديب مُسْتَذْئِب.. يا لشساعة الإفلاس. حينها نطقت نعيمة صديقة عزيزة بأن على الأصدقاء أن ينظموا حفلا تأبينيا للفقيد، وصديق الكلمة مسعود الأصفر كاعتراف بالجميل.. وَيْ كأن ثقافة الاعتراف بالأحياء محرّمة لا تجوز إلا على الموتى! حين تكون على قيد الحياة تكون كشوك الصبّار في حناجرهم لا تستساغ مكانتك عند بعض البشر إلا حين تغادر عالمهم، كأنك تضيّق العيش عليهم.. أو كأنك تحبس عنهم الأوكسجين، رغم أن الفضاء أوسع من شهيقنا وزفيرنا منذ البدء وإلى الأبد. إلا أنني أرى أن الأمر طبيعي فالشيء الغريب هو أن تكون محبوبا لدى الجميع آنذاك ثمة شيء غير طبيعي فيك أنت.
الآن.. انتبهتُ لحفصة تلبس البياض؛ البياض يا حفصة لباسُ حدادٍ ووقار، فهمتُ الآن لقد غادرتك وغادرتكم بدون رجعة.. بل أنتم من غادرتموني! يقال بأن: «ضربتان على الرأس توجع».. ماذا أقول في حالتي هذه والضربتان محلهما قلبي؟ إذن فضربتان على القلب تقتل، وأنا قتيل؛ الآن صرتُ كائنا غيري.. كائنا بلا قلب ولا روح؛ سأكون آلة ميكانيكية جامدة وباردة حتى لا أُقْتَل مرة أخرى – هكذا أفضل- وأنا أصف حالي بعد هذا الحال والمآل أرى العالم متغيرا غير الذي كنت أراه وأنا على قيد الحياة، هذا العالم جامد كذلك وبارد مثل حالتي الفيزيائية الآن، رتيب وممل كعقارب الساعة.. لا شيء يثير للفرح أو الحزن؛ للضحك أو البكاء؛ للتحدي أو المقامرة؛ شيء واحد يجمعني بهذا العالم، وفي حالتي هذه أننا، نحن الاثنين، نثير الشفقة.. حقيقة لا أحب أن أكون في مثل هذا الوضع.. سحقا، ما هذا الهراء يشفقون عليّ في حياتي وبعد مماتي؟! لا أريد شفقة من أحد، عليّ التخلص من هذا الشعور كذلك.. ما الحل؟ لا الحياة ولا الممات يُنْصِفانني من كتلة المشاعر هذه.. أريد التخلص من جميع المشاعر والأحاسيس كآلة.. كألة تماما. ما الحل يا كرام في هذه الورطة؟ لحظتها تراءى لي مولانا جلال الدين الرومي بعمامته الفارسية وسحنته الناصعة البياض كأنه يحدثني بهمس: «الجسد كالأم.. حامل بطفل الروح.. والموت هو ألم المخاض.. وهو الزلزلة.. إجعل نفسك صافيا من أوصافك.. حتى ترى ذاتك الصافية.. دعك من الحديث عن الورود.. وتحدث عن البلبل الذي افترق عن الورود.. إنه تحت ظل النخلة.. منفصل عن الناس.. فانظر إلى ظل الله.. نائما في الظل».
ربّما علمتُ الآن ما عليّ فعله، سأخرج.. سأخرج من هذا النص قبل أن أتورّط أكثر!
يا للوجوه المستعارة قبل وبعد موتك يا مسعود! هذا الرجل اسمه فؤاد أذكر اسمه جيدا كان فظا غليظ القلب.. غليظ الفؤاد، وكان يَتَحَيّنُ الفُرَصَ ليُظْهِرَ نفسه كأديب وكم من أديب مُسْتَذْئِب.. يا لشساعة الإفلاس. حينها نطقت نعيمة صديقة عزيزة بأن على الأصدقاء أن ينظموا حفلا تأبينيا للفقيد، وصديق الكلمة مسعود الأصفر كاعتراف بالجميل.. وَيْ كأن ثقافة الاعتراف بالأحياء محرّمة لا تجوز إلا على الموتى! حين تكون على قيد الحياة تكون كشوك الصبّار في حناجرهم لا تستساغ مكانتك عند بعض البشر إلا حين تغادر عالمهم، كأنك تضيّق العيش عليهم.. أو كأنك تحبس عنهم الأوكسجين، رغم أن الفضاء أوسع من شهيقنا وزفيرنا منذ البدء وإلى الأبد. إلا أنني أرى أن الأمر طبيعي فالشيء الغريب هو أن تكون محبوبا لدى الجميع آنذاك ثمة شيء غير طبيعي فيك أنت.
الآن.. انتبهتُ لحفصة تلبس البياض؛ البياض يا حفصة لباسُ حدادٍ ووقار، فهمتُ الآن لقد غادرتك وغادرتكم بدون رجعة.. بل أنتم من غادرتموني! يقال بأن: «ضربتان على الرأس توجع».. ماذا أقول في حالتي هذه والضربتان محلهما قلبي؟ إذن فضربتان على القلب تقتل، وأنا قتيل؛ الآن صرتُ كائنا غيري.. كائنا بلا قلب ولا روح؛ سأكون آلة ميكانيكية جامدة وباردة حتى لا أُقْتَل مرة أخرى – هكذا أفضل- وأنا أصف حالي بعد هذا الحال والمآل أرى العالم متغيرا غير الذي كنت أراه وأنا على قيد الحياة، هذا العالم جامد كذلك وبارد مثل حالتي الفيزيائية الآن، رتيب وممل كعقارب الساعة.. لا شيء يثير للفرح أو الحزن؛ للضحك أو البكاء؛ للتحدي أو المقامرة؛ شيء واحد يجمعني بهذا العالم، وفي حالتي هذه أننا، نحن الاثنين، نثير الشفقة.. حقيقة لا أحب أن أكون في مثل هذا الوضع.. سحقا، ما هذا الهراء يشفقون عليّ في حياتي وبعد مماتي؟! لا أريد شفقة من أحد، عليّ التخلص من هذا الشعور كذلك.. ما الحل؟ لا الحياة ولا الممات يُنْصِفانني من كتلة المشاعر هذه.. أريد التخلص من جميع المشاعر والأحاسيس كآلة.. كألة تماما. ما الحل يا كرام في هذه الورطة؟ لحظتها تراءى لي مولانا جلال الدين الرومي بعمامته الفارسية وسحنته الناصعة البياض كأنه يحدثني بهمس: «الجسد كالأم.. حامل بطفل الروح.. والموت هو ألم المخاض.. وهو الزلزلة.. إجعل نفسك صافيا من أوصافك.. حتى ترى ذاتك الصافية.. دعك من الحديث عن الورود.. وتحدث عن البلبل الذي افترق عن الورود.. إنه تحت ظل النخلة.. منفصل عن الناس.. فانظر إلى ظل الله.. نائما في الظل».
ربّما علمتُ الآن ما عليّ فعله، سأخرج.. سأخرج من هذا النص قبل أن أتورّط أكثر!
٭ قاصة من المغرب