مند إعلان انقلاب شرذمة
من العسكر في تركيا يوم الجمعة 15 يوليوز 2016، ضد الرئيس الشرعي رجب طيب أردوغان؛
حصل ارتباك في العالم، دولا وحكومات،
أحزابا ومنظمات، أفرادا وشخصيات، بشأن الموقف
الذي يتعين اتخاذه، من الانقلاب قبل فشله، ومن منفذيه، ومن المُنْقُلَب عليهم؛ رموز
حزب العدالة والتنمية التركي؛ الماسكين بزمام السلطة الشرعية؛ بناء على أصوات الشعب
المحصاة من الصناديق الزجاجية؛ وقد كان الحرج ظاهرا، والترقب كبيرا، لاسيما بالنسبة
للدول العظمى، ودول المحيط الاقليمي، العربية والإسلامية، والغربية، لأنها آثرت عدم التسرع بإبداء رأي قد تدفع ثمنه غاليا بعد انجلاء
السحب عن سماء المحاولة الانقلابية ...لذا، تناقلت وكالات الإعلام الدولية والعربية
المرموقة، قصاصات أخبار من بعض القوى العالمية؛ والتي لم تكشف مواقفها المبدئة المناهضة
للانقلاب على الأقل في ساعاته الأولى، لاشك أن هذا الخيار التكتمي والتحفظي؛ الذي التزم
التريث وعدم الاندفاع؛ مفهوم، ومسوغ، ومستساغ، لدى كثير من المراقبين والمتابعين لشأن
العلاقات الدولية؛ لاسيما بالنسبة للدول الكبرى التي تراهن دائما وأبدا، على مصالحها
الحيوية، في أي نقطة في العالم، فما بالك إذا
تعلق الأمر بتركيا ذات الموقع الاستراتيجي الكبير؛ والتي هي من جهة عضو في الحلف الأطلسي،
ومن جهة أخرى، أمام جوار اقليمي ملتهب؛ بسبب الحرب الأهلية في سوريا، والاضطرابات المستمرة
في العراق؛ خاصة بعد أعلان ما سمي بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي؛ والذي
لم تسلم تركيا نفسها، من هجماته الإرهابية، دون أن ننسى الوضع المتشنج بين روسيا وتركيا
بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية خاصة، ومقتل ربانها بواسطة السلاح التركي....
لذا، فهذه الدول الكبرى،
تحسب لك موقف سياسي ألف حساب وحساب، وتتحاشى التصريحات الانفعالية والمتسرعة؛ والتي
ستحسب ضدها باعتبارها أخطاء دبلوماسية فادحة؛ والتي من شأنها أن تجر على اقتصاداتها
ومنافعها الحيوية الويلات، لكن الأمر غير المستساغ بالفعل، هو جنوح بعض الأحزاب السياسية،
والمنظمات الحقوقية المدينة، وبعض المثقفين في الغرب، وفي عالمنا العربي والإسلامي،
الذين يصنفون أنفسهم في خانة التقدمية والتنوير،
إلى الصمت المطبق والمريب، في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة وبعدها، وهو رد الفعل
الغريب الذي يدفع المتابع والملاحظ على حد سواء؛
إلى التساؤل الجدي حول أسباب هذه الانتقائية الغامضة والمتلونة في شجب السلوكات
المضادة لحقوق الإنسان، والقيم الكونية المتعارف عليها عالميا، من قبيل الديموقراطية،
واحترام إرادة الشعوب في خياراتها واختياراتها، هل نحن مع هذه المكتسبات، حين يتعلق
الأمر بمن يتقاسمون معنا الايديولوجيا ذاتها، والاتجاه السياسي والمذهب الفكري؛ وضد
هذه المكتسبات إذا كانت تتعلق بمن نختلف معهم في المذهب والفكرة والاتجاه السياسي والاعتقادي
؟
ألا يشبه صمت بعض هؤلاء
خلال حادث الانقلاب الفاشل بتركيا، صمتهم أثناء انقلاب العسكر بمصر؟
هل نحن من أنصار الديموقراطية
وحقوق الإنسان الكونية؛ بغض النظر عن لون هذا
الإنسان ونحلته وملته، باعتبارها مبادئ كونية لا تقبل التجزئة، أو نحن مع ما يوافق
هوانا، ويخدم ميولاتنا، ومذاهبنا واتجاهاتنا الفكرية والسياسية والعقدية؟؟؟
إن هذا السلوك غير المفهوم
والانتقائي؛ يعبر في الحقيقة عن الازدواجية في الخطاب والممارسة، ويعكسهما، ولقد لمسناه
عند بعض الأحزاب والمنظمات وبعض الشخصيات المعروفة هنا وهناك؛ والتي آثرت إما الصمت المريب خلال الحدث الجلل، أو الانتقال للدفاع عن الانقلابيين وليس المنقلب
عليهم؛ تحت راية الدفاع عن حقوق الإنسان!!!، كما تفعل بعض القنوات الإعلامية الغربية
التي تزعم منافحتها عن المواثيق الدولية لحقوق بني آدم.
لقد شجبنا الانقلاب
الفاشل في تركيا، كما فعلنا مع ما سبقه من انقلابات، سواء في شمال إفريقيا، أو في المشرق
العربي، أو في أمريكا اللاتينية، أو في غيرها من البلدان والقارات والأمم...وسنفعل
السلوك ذاته، ونتخذ الموقف نفسه، دون اعتبار للانتماء السياسي، أو المذهب الحزبي أو
الفكري أو العقدي، أو الملة أو النحلة، أو لون البشرة....وإني أتحدث هنا عن مواقف الطبقة
المتنورة المثقفة في المجتمعات المتحضرة، وتلك التي تبحث لها عن موطن قدم في سلاليم
النماء، ولا أشير إلى اتجاهات الدول والكيانات السياسية الكبرى؛ على اعتبار أنها كما
سبقت الإشارة، تخضع في ردود فعلها، وتوجهاتها، لمتغيرات وحسابات جيوسياسية واقتصادية
واستراتيجة خاصة بها...
ونحن هنا لا نستثني
– طبعا – المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، والهيآت المنوطة
بإرساء السلام والأمن في المعمور، والتي يجب أن تكون سباقة للتنديد بالانقلابات على
إرادة الشعوب؛ المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع الموثوق بها ومنها، والمشهود لها
بالنزاهة والشفافية، واحترام المعايير العالمية المرجعية في هذا المجال .
لكن السؤال الجوهري
ههنا، لماذا يجب أن ندين الانقلابات في العالم بأسره؟
بداية لابد من الاتفاق
والتوافق على كون الإدانة التلقائية والعفوية وبدون استثناء أو انتقاء، للانقلابات
في العالم بأسره، والانقلابات العسكرية خاصة، على السلطة السياسية القائمة، والشرعية،
بواسطة الصناديق الشفافة والمعترف بنزاهتها عالميا، من لدن المنظمات الدولية ذات المصداقية،
يجب في نظري، أن تكون، مبدأ أساسا وراسخا غير قابل للتفاوض أو المراجعة أو التجزيء،
بالنسبة لجميع المؤمنين بحقوق الإنسان وفق مفهومها الكوني، وبقيم الديموقراطية والحداثة،
والحريصين على تقديم إرادة الشعوب في اختيار حاكميها، ومحاسبتهم، وعزلهم، وفق القانون
الأسمى للدول، والمتمثل في دساتيرها التي تعتمدها الشعوب بمقتضى الاستفتاء أو أي إجراء
مماثل....
إننا حين نجمع على وجوب
إدانة الانقلابات بشكل واضح وصريح، لا يقبل التأويل، وبدون مواربة أو لعب على حبلين،
كالذي ينتظر انتهاء عملية الانقلاب ليبعث رسائل ايجابية إلى الذي مالت إليه موازين
القوى ..فإننا نريد تأكيد ضرورة الإجماع على رفض سلوك الانقلاب في حد ذاته ولذاته،
وليس في ارتباطه بالمُنْقَلَب عليهم (بفتح القاف)، لأن مرجعيتنا في الحكم والاتجاه،
تستند على ما نؤمن به من قيم كونية لحقوق الإنسان، وعلى مبادئ الديموقرطية وقيمها لا
غير...وهذا ما يميز المواقف، ويجعلها أحيانا متباينة ومتضادة، وأحيانا أخرى، بالنسبة لبعضهم، تكون التصريحات المدلى بها غير
متطابقة مع ما يقتضيه السياق والأحوال....
فالذي يؤسس مواقفه على
مرجعيات المفاهيم الكونية لحقوق الإنسان، لن يناصر الانقلاب حيثما كان، ومهما تكن الجهة
الصادر عنها، أو المنقلب عليها، لكن الذي يجعل الإيمان بالمنظومة الكونية لحقوق الإنسان،
ومبادئها السامية ، شعارا ظرفيا ومناسباتيا، سرعان ما يسقط قناعه عند حدوث الانقلاب،
فنراه يفضل عوض شجب الانقلاب وإدانته، يفتش عن تصفية حساباته الايديولجية والمذهبية
مع المُنْقََلب عليهم، وتجده يسعى لعد مثالبهم، وسرد أخطائهم، ويتيه بين دروب الربح
والخسارة، ووراء دعم هذا الجانب وإدانة ذاك....
إننا ندين الانقلابات
مهما كانت البقعة في العالم التي تحصل فيها،
لأن الانقلابات شرور كلها، الانقلابات ارتكاس بالبشرية إلى العهود البدائية والهمجية، حيث كانت الغلبة للأقوى، بغض
النظر عن مصادر هذه القوة وأشكالها وأنواعها، سواء كانت معنوية أو مادية ...
الانقلاب أسلوب مضاد
للحضارة البشرية التي تم بناؤها بفضل تراكمات نضالات وتضحيات الأجيال والأمم في كل
العهود والأزمان..
الانقلاب هدم للإنسان،
وقيم الإنسان، واستلاء بالغصب والعنف والقتل والدمار وإراقة الدماء، على الحكم...
أي حكم هذا الذي يكون
عن طريق الدبابة والطائرة والرشاشات، يؤسس على الجماجم والهياكل وبرك الدماء ...
والذي مايزال مرتابا
في مخاطر الانقلاب، وآثاره السلبية والخطيرة، يكفيه أن ينظر سلوكات الانقلابيين بعد
الانقلاب ويتأملها جيدا، إن الانقلابيين، إن
هم نجحوا، ماذا يفعلون؟
يعلنون على الفور الأحكام
العرفية، أو حالة الطوارئ خارج القوانين والدساتير، ولآجال غير محددة.
يقومون باعتقال الناس،
وعقد محاكمات عسكرية لهم، تنتهي عادة بعشرات، بل بمئات أحكام الإعدام الجائرة والمفتعلة،
والغريب أنهم يجدون التهم جاهزة، يكفي أن يعبر الناس ولو بالإشارة والتلميح أنهم غير
راضين عن الانقلاب، حتى تجدهم وراء القضبان .
أما الإعلام والصحافة،
فلا يتردد الانقلابيون في إغلاق منابره، وملاحقة رجاله ونسائه، لاسيما إذا لم أبوا
أن يكونوا ضمن جوقة المطبلين والمزمرين للانقلابيين..
ويجري بعد ذلك تعطيل
الدستور، وقد يتجهون لتغيير الدستور الشرعي بآخر يخدم العسكر الذين قاموا بالانقلاب
على السلطة الشرعية..
ثم يتوقف المسلسل الديموقراطي،
وينطلق الحكم الفردي الذي لا يقبل الاحتجاج أو الرفض أو المعارضة...
إننا حين نرفض الانقلابات،
لا نستثني في ذلك التدخلات الخارجية، وغزو
الدول المستضعفة؛ من أجل تغيير الأنظمة التي لا تساير هوى الاحتلال، ومصالحه الحيوية،
وها نحن نرى اليوم، كيف أصبحت الدول التي احتلت أراضيها، وأطيح بحكامها، بواسطة الاستعانة
بالقوى الخارجية، التي لا هم لها سوى البحث عن منافعها؛ من الثروات والخيرات، والدفاع عن مناطق نفوذها،
غارقة في الدماء ، والفوضى والاقتتال الطائفي ...إن العالم مطالب بتجريم الانقلابات
في اي مكان في العالم وذلك بسن تشريعات تمنع الاعتراف بالانقلابيين وسلطتهم، وتمنعهم
من إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول، وتسمح بملاحقتهم جنائيا على ما اقترفوه من
قتل ودمار ....
(*) أستاذ باحث
dr.medbenlahcen@gmail.com