-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

البحث عن الماء في العصر الجاهلي ووفرتها في "سيدة الماء " لمنعم الأزرق : ميساء أنيس طربيه


يشكل الماء العنصر الأساسي لوجود الكائنات الحية، ويتميز بعدة خصائص تسمح باستمرار الوجود على هذا الكوكب. ومن بين هذه الخصائص أنّه يمتاز بالمرونة، التماسك، الانسابية، العذوبة، الحركة، والحياة وغيرها. لذا كان العربي منذ العصر الجاهلي في حالة بحث دائم عن الماء، فلا يستقر المكان إلّا بوجود الماء، يشكل عدم وجود الماء قلقًا وجوديًا، وحالة استنفار للترحال والسفر، وتأكيدًا على أهميته، يبرر فَقد الماء والحاجة إليه ظاهرة السراب، فعند الفقد يتهيأ للعربي وهم الماء في الصحراء القاحلة. ولهذه الخصائص تأثير مهم على الشاعر وعلى نتاجه أي القصيدة، وهذا ما سنلاحظه وسنبرزه من خلال دراسة معمقة لقصيدة "سيدة الماء" لمنعم الأزرق، الّتي سادها الماء وأحاطها من كلّ صوب، والّتي اخترقت قضية الفقد للماء في العصر الجاهلي من خلال تلاشي سقف الأحلام والأوهام بإشارة في القصيدة الى معلقة امرؤ القيس الّذي كان يحتل مكانة مهمة في الشعر وبين شعراء عصره، وهو صاحب أشهر معلقة ومطلعها "قفا نبكِ" وكلمة "قفا" هي الاشارة الّتي أحالتنا الى معلقته.

أبرزت ثنائية الفقد والوفرة للماء خصائص القصيدة الرّقمية بالمقارنة مع العصر الجاهلي عامةً، ومعلقة امرؤ القيس خاصة، واضافة إلى ما سبق، تكثر في قصيدة "سيدة الماء" رموز وإشارات دينية تحيلنا إلى آيات قرآنية، وكأنها إشارة واضحة الى ابراز القصيدة الرقمية خارج إطار الوثنية.

أما المنهج المعتمد في هذه الدراسة هو المقاربة الوسائطية أو الميديولوجيا[1] وهي عبارة عن نظرية علمية تجمع بين الثقافة والتقنيّة، وتحيل "الكلمة" على علم الوسائط، وتظم هذه النظرية ثلاثة عشر مستوىً وهي: التوريق، التشذير، الشكليّ والفنيّ والجماليّ، الموضوعاتيّ، الوسائط، التقنيّ، المرجعيّ، التفاعلي، اللوغاريتمي، الترابطي، التحريك، التناص، الوظيفي[2].

تطرح هذه الدراسة عدة اشكاليات أو قضايا، وأبرزها هي احالة مزدوجة من جهة احالة خصائص الماء الى القصيدة الرقمية، ومن جهة أخرى احالة خصائص الفقد للماء الى القصيدة الجاهلية.

- كيف وظف منعم الأزرق قضيتي الوفرة والفقد للماء في ابراز خصائص القصيدة الرقمية والقصيدة الجاهلية؟

تبدأ القصيدة بشاشة زرقاء تحيلنا في البداية الى لون البحر وعمق المحيط وعالم التكنولوجيا، يظهر هذا اللّون في عمق البحر والمحيط أما في عالم التكنولوجيا فالشاشة الزرقاء تعني عطل ما في الكمبيوتر، ومنها أن النظام يحتاج الى تحديث وهذه اشارة افتتاحية إلى المتلقي لكي يتعامل مع القصيدة الرقمية بشكل مختلف مع مرور الزّمن وتطور الرؤيا، وبعد ذلك يظهر عنوان القصيدة "سيدة الماء"، ولكن اللّافت هو لون العنوان الّذي يتضمن اللّون الأسود والرمادي والقليل من اللّون الأبيض، هذا يضعنا أمام أسئلة كثيرة ومنها لماذا لم يصبغ المؤلف عنوان قصيدته بلون الماء لتنسجم والمضمون، لنجد أن النسخة الأولى لهذا العنوان لا ترتبط بالقصيدة الرقمية وهذه النسخة القديمة للقصيدة تحتاج الى التحديث، "فسيدة الماء" الأولى ليست كسيدة الماء الّتي ستتكشف خصائصها تباعًا في التحليل. ويُظهر هذا الكادر أيضًا بالاضافة إلى عنوان القصيدة نوعها أي قصيدة رقمية، وتحتها نجد ذكر تاريخ اصدارها سنة 2007، تحمل هذه الاشارة في مضمونها أن أي قراءة لهذه القصيدة بالتتابع الزّمني يجب أن تخضع إلى التحديث نظرًا لسرعة التطور التكنولوجي، تحتل هذه المعلومات والبيانات وسط الشاشة لتبرز التوازن بين هذه العناصر من جهة وإلى التوازن بين القصيدة والرقمية من جهة أخرى، أما اسم المؤلف برز على يسار الشاشة بين نوع القصيدة والاصدار، وتماهى اسم المؤلف مع خلفية الشاشة الزرقاء، ونرى على الشاشة ضوئين دائريين عن اليمين وعن اليسار يتحدان مع بعضهما البعض وهذه اشارة إلى اتحاد القصيدة مع الرقمنة والتقنية أو نتاج الشرق مع نتاج الغرب، ليعطي هذا الاتحاد شكل قرص الشمس باللون الأبيض لحظة الغروب مع بعض الغيم، وكأن هذا الغروب للنسخة الأولى لسيدة الماء.

ننتقل إلى الكادر الثاني، تحتل خلفية الشاشة صورة تبقى حتى نهاية القصيدة، هذه الخلفية الديناميكية والمستقرة ارتكزت عليها العناصر الأخرى من الكلمة، الحركة، اللون، الاضاءة، والمكونات الأخرى الّتي أضيفت تباعًا. تتألف مكونات هذه الخلفية من عدة مستويات، الجزء القريب إلى النظر يتكون من ماء وصخور عن جهة اليمين ويمثل الشرق، فتجمع الماء على شكل مستنقع دائري هذا الشكل يدل على ركود القصيدة العربية في شكلها ومضمونها، أما جهة اليسار وتمثل الغرب نجد في الصورة الماء يأخذ شكل الموج في حالة ارتفاع وانزياح عن الصخور، وهذا يدل على أن القصيدة الرقمية في الغرب تجاوزت الحواجز وأخذت طريق التطور والتقدم؛ وكلما انتقلنا الى عمق الصورة أو الجزء الأبعد نجد البحر وحركة كثيفة للغيوم، ولكن وسط هذا الضّباب والضّبابيّة ثمّة نافذة دائرية ثابتة نوعًا ما حتى نهاية القصيدة تأخذ أحيانًا شكل نافذة أو بداخلها صورة وأحيانًا أخرى تأخذ شكل حدقة العين وهي بالتالي الّتي تمنحنا الادراك البصري، ولكنها أي النافذة هي المحرك لكل المتغيرات في القصيدة في آن. يدفعنا هذا المشهد المائي إلى البحث في خصائص ومميزات الماء من أجل الولوج إلى خصائص ومميزات هذه القصيدة خاصةً والقصيدة الرقمية عامةً. بالعودة إلى هذا الكادر وداخل هذه الدائرة/النافذة نجد الضوء يسطع من داخلها متجهًا نحو الرائي/المتلقي، هذا الضوء البعيد وكأنه الأمل الّذي يأتي من المستقبل، وعندما يخفت الضوء نجد في الداخل تكرارًا للمشهد والضوء أبعد، ويظهر على الشاشة عبارة (تموت على العشب) تتماهى حركة العبارة مع حركة السقوط، أما لونها نصفها أبيض ونصفها بني وهذا يشير الى لون التراب، والورقة حين تسقط عن الشجرة تموت على العشب، وبهذا المعنى يؤدّي الموت الى نتيجتين الأولى وهي موت الورقة بوجه التقنية والنتيجة الثانية هي أن القصيدة الرقمية مع مؤثراتها السّمعيّة والبصريّة والحركيّة، تموت حين توضع على الورقة، وبعد اضمحلال العبارة يعود الضوء بقوة في الكادر الثالث ويظهر العنوان الثاني وربما الحقيقي للقصيدة وهو "سيدة الماء" باللون الأبيض والأزرق الفاتح والغامق، وتنفصل الأحرف بحركة دائرية وتعود لتشكل الكلمة نفسها، هذه المرة سيدة الماء بلون الماء وكأنها غسلت عنها اللون الأسود والرمادي، وفي الكادر الرابع نلاحظ صورة داخل الدائرة لامرأة تمتلك عينين وفمين تظهر عدة مرات وتختفي، فالرؤية في الصورة غير واضحة وكأنه انقسام في النظر والكلام، وفوق هذه الصورة وأسفلها نجد عبارة (ما من سراب/ يدثر عفتها) ونلاحظ ايضًا ازدواجية في العبارة قبل أن تستقر، تدل العبارة على أن سيدة الماء سواءًا كانت القصيدة أم الرؤية هي حقيقية وليست سرابًا، وكما ذكرنا آنفا أن السراب كان موجودًا في الصحراء في حالة الضمأ ونقص الماء أما هنا وفرة الماء أعطى القصيدة انسيابية ووضوح في الرؤية، أما الكادر الخامس يبدأ باقفال الدائرة باللون الأبيض وبداخلها لون أزرق غامق وعميق وبعيد، وتأتي عبارة (قد تمر على القلب) وتأخذ العبارة حركة التفكيك للأحرف والعودة لتشكيل نفس العبارة، و(قد) قبل الفعل المضارع تفيد التحقيق/التشكيك، وهذه العبارة تدعونا للتعامل بمنطق العقل لا بمنطق العصبية القبلية الّتي كانت سائدة في العصر الجاهلي وانعكست بالتالي على مواضيع وأغراض القصيدة الجاهلية، واكمالاً للعبارة السابقة (كوكبة/ جنود الفراعنة الأقدمين/ من جنود الفراعنة الأقدمين) الكوكبة الأولى لجنود الفراعنة الأقدمين ويقصد هنا قرية النمل الّتي تتميز بالتنظيم وحسن الادارة، وهي أقدم أنموذج للتنظيم وانسجام أفرادها مع بعضهم البعض، وهنا تناص لسورة النمل الّتي وردت في القرآن، أما الكوكبة الثّانية وهي من جنود الفراعنة الأقدمين، و(من) وردت عند تكرار الجملة وكانت باللون الأسود والرمادي وهي تشبه بذلك ألوان النسخة الأولى للعنوان سيدة الماء أي أنها ترتبط بالجنود المحافظين والمتمسكين بالانموذج القديم، وفرعون لقب للحاكم  في مصر القديمة لأسباب تعود الى الميول العقائدية والاستئثار بالحكم. يأتي الكادر السادس وقد عادت الدائرة تكشف عن ضوء بعيد، وعبارة (ولكن مكر المرايا) حيث عاد تفكيك الأحرف ولكنها تذهب باتجاه اليمين والمعاكس لشكل الحرف العربي، وتذكرنا هذه العبارة بمقولة جلال الدين الرومي (الحقيقة كانت مرآة بيد الله وقعت وتشظت، كل فرد أخذ قطعة منها، نظر اليها وخال أنه يملكها كاملة)، وهنا تظهر الاشكالية مع القصيدة الجاهلية، وخاصة عندما يكمل العبارة ب( على سقف احلامها) وتتلاشى نحو الأعلى نحو السماء، ونلاحظ بقاء كلمة (قفا) الّتي تحيلنا الى مطلع أشهر معلقة في العصر الجاهلي، وهذه العبارة وتحليلها انما يحيلنا الى الاشكالية الّتي طرحها طه حسين حول الشعر الجاهلي. أما الكادر السابع عاد الضوء الّذي يحجب ما خلف الدائرة، وظهر على الماء عن اليمين وعن اليسار عشب وأزهار، وأماكن الأزهار عن اليمين على مستنقع الماء وعن اليسار أعلى الموجة، لتدل على أمل الربيع والحياة والتجدد، ونلاحظ بعض الأزهار منفردة تنتقل من اليمين الى اليسار، هذه الحركة تدل على انتقال القصيدة والمتلقي الى الجهة الأخرى حيث القصيدة الرقمية المتجددة والمرنة والمنسجمة مع ترددات الحبّ والحياة، ونجد العبارة المرافقة تجسد هذا المعنى (يتفتت حبا /كزهر الحليب /براديو الحبيب) وعبارة يتفتت حبا توسطت الدائرة وباقي العبارة تصاعدت واختفت، بالتزامن مع تفكك أحرف يتفتت حبا وخروجها بانتظام خارج الدائرة أي خارج النمطية وتعود الى الاستقرار ولكن قبل أن تصل الى السطر تتداخل مع الكادر الثامن لتظهر داخلها عين زرقاء وعادة ما تستخدم لابعاد الحسد، وخلف صورة العين لون أسود والّذي يدل على الليل بالتزامن مع العبارة (كلما النّاس ناموا) وظهرت حركة العبارة مثل اندماج نسختن لكل كلمة أو الكلمة وظلها، ففي الليل لا ظلال، وهذه قصيدة ضوئية لذا هي أسطع في الليل، وهذا يتوافق مع الكادر التاسع، حيث أصبحت الدائرة حدقة عين تتسع وتضيق، وترافقها عبارة (ستصحو مواجدها/ خلف نهر جرى) وهذا يتوافق مع ما ذكرناه أي أن القصيدة الرقمية قصيدة ضوئية تتوهج في الليل، وتدل عبارة خلف نهر جرى أي أن نهر التطور الرقمي متقدم ومتطور ولا يتأثر إذا كان المتلقي تفاعلي او معارض. في الكادر العاشر نلاحظ صورة الشمس داخل الدائرة لتشير الى يوم جديد وفجر جديد على القصيدة، وترافقها عبارة (كلما الأرض ضاقت) وأخذت هذه العبارة بعضًا من شعاع الشمس، ولكنها تدل على الهم والحزن وفي حالة الضيق يشعر الانسان وكأن الأرض ضاقت به، ولكن بصورة أكبر وارتباطًا مع القصيدة، فالأرض تجسد مستوى الورقة على العشب، فالورقة أصبحت ضيقة مقابل ما يريد أن يحققه الانسان في هذا العصر لذا يحتاج الى فضاء ارحب واوسع للتعبير، والكادر الحادي عشر يكمل المعنى حيث عبارة (تكون) داخل الدائرة مع نبض واتساع وهذه الحركة تعيدنا الى الكادر السابق حيث العين تأخذ الشكل نفسه، وعادة الحزن الداخلي يظهر على العين في شكل دموع، لتأتي حركة عبارة (شفاه السريرة/ ذاقت) وهنا انقلاب من ماء العين المالح الى ماء عذب الّذي لوّن كلمة ذاقت.

خلاصة القول، جسّدت  هذه القصيدة دورة حركة الماء من سطح الأرض الى تبخرها وتشكلها غيومًا وعودتها عذبة، وتشبه بذلك دورة حياة القصيدة، وشكل العنوان الدليل على ذلك، وبهذه الحركة تماهت خصائص الماء من انسيابية ومرونة وتماسك مع خصائص القصيدة الرقمية، مع الاشارة في القصيدة الى فقد القصيدة الجاهلية لهذه الخصائص، وعبرت عن ذلك من خلال السراب ومكر المرايا أي الوهم بامتلاك تلك القصيدة لاسرار الماء وخصائصها.



[1] المقاربة الميديولوجية: هي مقاربة وسائطية، تعنى بدراسة الأدب الرقمي دراسة تشريحية متكاملة المستويات.

[2] م.س. جميل حمداوي، الأدب الرقمي بين النظرية والتطبيق، ص145، 166.

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا