اسمٌ من عيار ثقيل وعريق لكاتب ماراطوني النفَس والقلم ، نيّفت تآليفه الأدبية على
الخمسين . وهو رقم قياسي لم يشترعه فيما أزعم
سوى قلة قليلة من الكتّاب المغاربة ،
أستحضر منهم عبد الكريم غلاب ومبارك ربيع وأحمد المديني ..
وهذا الكمّ الزاخر – الزاهر من العطاء الأدبي
ممْهورٌ بجودة أدبية ولغوية وبنائية راقية في
الكتابة . فهو اذن كمّ مُعضّد بالكيْف . بتجويد وتجديد الكتابة .
ونادرا ما تستقيم هذه المعادلة الصعبة الحَرون
لدى الكتاب والمبدعين .
هذا ميْسم أول لهذا الكاتب الوازن – المتميّز
العابرِ للأجيال والمُبحر في أرخبيل الكتابة
والإبداع منذ
أكثر من ستة عقود سمان ، لا يعتريه كلال ولا ينضُب له معين .
الميسم الثاني ، أنه مُبحر في أكثر من جزيرة
أدبية في هذا الأرخبيل الفسيح ، قاصّا وروائيا
وناقدا – باحثا
وكاتبا لأدب الطفولة ، وهو الطفل الدائم
الساكن في عمقه وطويّته .
وكل كاتب أصيل ، يسكنه طفل مشاغب طليق .
وفي كل هذه المدارات الأدبية التي انتجعها
التازي ، كان سهمه نافذا لا يخطيء ضالّته .
ومثل هذا الكمّ الوفير – النمير من الإنتاج
الأدبي عطفا ، دليل على أن الكتابة هي الشغل
الشاغل للتازي وهمّه الجميل الذي يلازمه آناء
الليل وأطراف النهار . وكأن الرجل ناسكٌ
في محراب
الكتابة .
يقول في أحد حواراته /
( أتنفس الهواء أثناء الكتابة وأعيش
الحياة ، وأشعر بالضياع في اليوم الذي لا أكتب فيه ، ما يجعلني أكتب كل يوم .
والكتابة بالنسبة لي ليست مجرد تعبير عن قضية ما ، بل هي
جمالية الحياة التي تجعل من الأدب أدبا ، لأن
معالجة الأديب للقضايا ليست كمعالجة عالم الاجتماع أو
الاقتصاد أو المحلل السياسي ، فالاختلاف يكمن في أننا نُضفي طابع الجمالية على اللغة من خلال البناء الروائي .. )
دارين شبير/ نت - جريدة البيان الإماراتية – 11 – 7 - 2014
هكذا تغدو الكتابة عند التازي قسيما للحياة .
أو بالأحرى حياة في الحياة . حياة مضاعفة .
إنه على غرار شيخه وخِلّه غابرييل غارسيا
ماركيز يحيا ليكتب ويسرد ، ويكتب ويسرد ليحيا . ( vivir para contarla )
وقد اختار التازي ، وهو سليلُ الحداثة وغذيّها
، الكتابة في أخطر وأشهر شكلين أدبيين حداثيين ، وهما القصة القصيرة والرواية . من حيث كان الشعر يَطْرِز
لغته واستعاراته .
اختار القصة القصيرة باعتبارها كبسولة العصر
الإبداعية ، والشكلَ المطابق للهوامش الاجتماعية المشتتة والمتوترة المنعزلة ، حسب فرانك أوكونور وعبد
الله العروي .
واختار الرواية ، باعتبارها ملحمة العصر
والأزمنة الحديثة ، حسب هيجل ولوكاش ، ولأنها توسّع فُسحة الكتابة والبوح والغوص
فيما سطرته القصة القصيرة إيماء وتلميحا .
وقد بدأ التازي مساره الأدبي قاصّا نابها ، قبل
أن يُدير الدفّة صوب الرواية ، بعد أن امتلأ
الخزّان وطفح كيلُ الوقت .
وأذكرُ أن أول قصة طلع بها على الناس ، كانت
بعنوان ( تمُوء كالقطط ) سنة 1966
بالملحق الثقافي لجريدة (الأنباء) .
وتستثيرهذه الإشارة شجَنا نوستالجيا خاصأ عندي
. فقد كانت أول قصة أنشرها بعنوان
(نهاية حب ) سنة 1963 بجريدة (صوت المغرب ) .
والمفارقة ، أن تكون بداية ناشيء مُقترنة ب
(نهاية حب ) .
ومن حيث واصل التازي وفاءه لمشروعه السردي
الرائع ، خذلتُ مشروعي السردي الوليد
وعُوقبتُ بنكْد النقد . وكل مُيسّر لما خُلق له .
وقد كانت قصة (تموء كالقطط) للتازي بمثابة
القطر الذي يسبق الغيث . حيث تهاطلت نصوصه القصصية على الملاحق الثقافية لكبريات الجرائد والمجلات
المغربية والعربية .
فهو اذن كاتب مُخضرم عابر للحدود والأجيال ،
متحدّر من ضفاف الستينيات من القرن الماضي ، ومحسوب تحقيبيا periodisation على جيل
السبعينيات الذي أشرُف بالانتماء إليه .
وللأمانة التاريخية أقول ، إن التازي كان من
أسبق القاصين المغاربة إلى قرْع جرس الحداثة القصصية وتجديد دماء القصة القصيرة المغربية . ومجموعته
القصصية الأولى الرائدة ( أوصال الشجر المقطوعة ) الصادرة سنة 1975 ، والمتضمّنة
لنصوص ستينية
مبكّرة ، شاهدة على ذلك .
علما بأن الطفرات والقطائع الأدبية ليست من
توقيع فرد بذاته ، ولكن من توقيع جيل أو
مرحلة برمّتها . والاستثناء الوارد هنا ، أن (
من فاتك بليلة فاتك بحيلة ) .
والإبداع الأدبي كما هومعلوم ، حِيل وابتداع وابتكار
و"صناعة" وفق عبارة ابن سلام الجمحي .
ولأن الرواية مرآة تجوب الشوارع ، كما قال
ستاندال ، فقد جعلها التازي مِطلّا مركزيا
بانوراميا لهمومه الفكرية والوجودية والإبداعية .
جعلها مرآة تجوب شوارع الحياة والذات ومدائن
الأعماق .
فكان عبر رواياته صدَى السنين الحاكي . كانت
رواياته تراجيعَ إبداعية جميلة وشجية للسنين الحوافل التي عاشها وسبر اغوارها وأسرارها ، وفتوحاتها
وانكساراتها ..
وما أكثر وأشرسَ الانكسارات التي توالت على
المشهد العربي ، بعد أن دخل مكرُ التاريخ
على الخط ، وقلب المشهد رأسا على عقب .
تلك هي مزرعة الألغام الروائية التي جاب عبرها
التازي وأضرابُه من الروائيين المغاربة والعرب بعامة .
وجديرٌ بالتنويه ، أن التازي لمع وطلع أدبيا في
مرحلة ساخنة كان الالتزام والواقعية من عناوينها الرئيسة . وكان التازي بدَهيا
، منحازا لقيم جيله التنويرية والتغييرية .
لكن التازي كان منحازا أدبيا وإبداعيا في
المقابل ، لجمالية الحداثة وشعريتها الاختراقية ، فلم يكن سواء في قصصه أو رواياته
، حكّاء واقعيا فظّا عالي الصوت ، بل كان فنانا رهيف الحس
واللغة ، شغلُه الشاغل ، الكتابة في أعلى درجات توهّجها وبهجتها .
ومن ثمّ ، حين نقرأ التازي قصصيا وروائيا نقرأ
من جهة ، واقعنا وحمَأنا المسنون منشورافوق السطور وخلف السطور .
كما نقرأ من جهة ثانية وأساسية ، مُتعة الكتابة
ومباهجها ، وفق تعبيررولان بارت .
* * *
هل تُراني أجزلتُ المديح – المُريح لمحمد
عزالدين التازي ؟
ما أظن بتاتا أن هذه الملحوظة واردة في حضرة
كاتب كبير من عيار محمد عز الدين التازي ، سليل فاس ( زهرة الآس / عنوان ثلاثية روائية له ) ، الذي
صرف زهرة عمره في خدمة الأدب المغربي والعربي ، في أزمنة عربية
وعالمية كالحة – جائحة ، لا تُبقي ولا تذر ، لوّاحة للبشر .
ولصديقي التاريخي أقول /
كانت الكتابة باستمرار رفيقتك الأثيرة الأميرة
في الحياة .
هذه الكتابة بالتحديد ، هي التي ستمنح اسمك
عشبة الخلود المنشود .
ذلك هو مجد الكتابة والكتّاب .
لك العمر كله .