-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

محمد أسليـم: الثورة الرقمية: نوع بشري جديد أم إبدال أدبي جديد؟

محمد أسليـم: الثورة الرقمية: نوع بشري جديد أم إبدال أدبي جديد؟
لقائي بالأدب الرقمي هو لقاء عرضي، يدخل في إطار تأمل عام، لأن اهتمامي بالرقمية يتم من زاوية مخالفة للمتخصصين بالأدب في دائرته الضيقة، فما يشغلني بصفة خاصة وفي المقام الأول هو: ما هو الإنسان وماذا يفعل وإلى أين يسير؟ للإجابة عن هذا السؤال، يمكن اقتراح مشهد يتألف تظهر فيه ثلاثة مراحل على الأقل:
- مرحلة ما قبل الإنسان، هي مرحلة ظهور الحياة على وجه الأرض، في هذا الصدد جميع البيولوجيون على أن «الحي كما نعرفه اليوم هو ثمرة تطورات استغرقت عدة ملايير من السنين»[1]، ويقال إن ظهور الجنس وأول الأشكال الحيوانية قد ظهرت منذ حوالي 1.6 مليار سنة[2]، وأن في دماغنا جزيئات تعود إلى 2.5 مليار سنة[3]. يمكن طرح سؤال: هل يمكن الحديث عن حياة في المرحلة ما قبل العضوية؟ يقدم العلم الآن إجابات، بحيث يجري الحديث عن ذاكرة الماء[4]، وذاكرة الرمل[5]، كما استقى يونغ نماذجه ما قبل العضوية[6]، وإذا صحت هذه الأطروحة، فيبقى مجال البحث مفتوحا لمعرفة الموروث فينا (الذاكري لا العضوي) من تلك الحقبة السحيقة، من جهة، والمشترك بيننا وبين من يحيط بنا ممن تجمعنا بهم قرابات، مثل الفقريات، والثدييات، الخ. في هذا الصدد، على سبيل المثال، يرى البعض أن التعاطف عندنا قد ورثناه من الثدييات منذ حوالي 000 170 سنة: «بدأ البيولوجيون والباحثون في العلوم المعرفية بالكاد أن يلتقطوا سلوكات تعاطفية بدائية في فئة الثدييات بكاملها – عند الحيوانات التي تربي صغارها. ويشيرون إلى أن الرئيسيات، وخاصة بني الإنسان، بقشرتهن المخية الحديثة الأكثر تطورا، هم «مجهزون من أجل التعاطف» بالخصوص»[7]. وقد تكون هذه المرحلة هي المنسي الأكبر الذي قد لا يقوى على استعادته في الوقت الراهن سوى الشعراء. ربما بشكل لا شعوري، عندما يأتوننا بصور يتجاور فيها العضوي بالنباتي بالماء، ويتنقولن بسهولة بين الأزمنة، الخ. يعسر على العقل فهمها أو تفسيرها. وإذا ما طويت صفحة الأدب أو تحول الإنسان إلى نوع جديد، فسيتم ذلك دون معرفة أي شيء عنها.
- المرحلة الثانية، وهي حقبة ما قبل النيوليتية؛ أقدم ما وصلنا منها جمجمة عمرها 7 ملايين سنة؛ منذ حوالي 2 مليون سنة. استعمل إنسان اسمه «الماهر homo-habilis» أولى الأدوات[8]، ومنذ 1.8 مليون سنة تعمم استعمال الأدوات بين أصناف عدة من البشر[9]، ومنذ 000 500 سنة، تم اكتشاف النار[10]. خلال هذه المرحلة تعايشت العديد من المخلوقات التي كانت تسير على قدمين[11]، وتصنع أدوات، بل وفيها من كان يتكلم. وقد كان الحجر هو أبرز تلك الأدوات. وإذا كانت الحضارة تنحدر من التقنية، فإن فيسلوفا، مثل سلوتردايك، يرى أن الإنسان قد «انحدر من الحجر أو من الأداة الصلبة - مادام استعمال الحجر هو الذي دشن التقنية النموذجية البشرية»[12].
إلى هذه المرحلة يُعود ظهور نوعنا المسمى بـ «الإنسان العاقل»، ويقدر تاريخ هذا الظهور ما بين 40000 سنة[13] إلى 200000 ألف عام[14]. ويتم ربط ظهورنا، وتمييزنا عن باقي المخلوقات الإنسانية التي سبقته، بثلاثة عناصر يقال إنها هي ما جعلتنا «إنسانا عاقلا»: أ) تحولات بيولوجية (المشي على قدمين، وتحول جيني أفضى إلى الكلام)؛ ب) صنع الأدات؛ ج) ثم ابتكار اللغة.
بيد أن تأمل تاريخ ظهور بعض هذه العناصر يفضي إلى أنها لم تظهر فجأة، ودفعة واحدة، عند «الإنسان العاقل»؛ فاكتشاف النار يعود إلى 000 500 سنة، وهي فترة تسبق ظهورنا بوقت طويل، واللغة كانت تستعمل عند إنسان آخر قد عاصرنا، هو إنسان النياندرتال الذي كان هو الآخر يتكلم، ويمارس الطقوس والشعائر، ويصنع الأدوات، لكنه انقرض منذ حوالي 000 28 سنة بعدما عمَّر 000 200 سنة[15].
وددتُ من هذه التوطئة القول بأننا إن كنا هنا اليوم، فذلك لأننا استأثرنا، إن جاز التعبير، بمجموعة من الابتكارات التي اكتفشها بشر آخرون غيرنا، منهم من عاش قبلنا وانقرض، ومنهم من عاصرنا، فعمرنا بينما انقرضوا[16]. بالطريقة نفسها، على نحو ما سنرى بعد قليل، قد يستاثر البعض اليوم بمجموع ميراث البشرية للتحول إلى نوع آخر. وتشكل الثورة الرقمية الذريعة الكبرى لإجراء هذا النوع من التحول الذي له اليوم دعاة وحركات ومختبرات.
- أما المرحلة الثالثة، فهي ما يصطلح عليها بالثورة النيوليتية (أو العصر الحجري الحديث)، تفصلنا عنها حوالي 000 10 سنة، وتميزت بثلاثة أفعال أساسية، بها دخول الإنسان دورة الحضارة التي نعيشها الآن. هذه الأفعال هي: اكتشاف الزراعة، والكتابة، والنظام (الدولة، وتقسيم العمل). في هذه المرحلة، منذ حوالي 8000 إلى 7000 سنة اكتشف الإنسان الكتابة، وباكتشافها يكون قد ابتكر وسيطا ماديا لحفظ ما كانت وسيلة حفظه الوحيدة، هي الذاكرة البيولوجية (الحفظ عن ظهر قلب).
أولى الكتابات كانت عبارة عن طلاسم سحرية ورسائل قصيرة جدا، أقدم ما يُعرف منها عُثرَ عليه في الصين[17]، وكتب على قشرة بطن سلحفاة. وقد لزم مرور وقت طويل، استغرق من 5000 سنة إلى 3000 سنة، كي تتطور تقنيات الكتابة بما يكفي، وتتنقل بين مجموعة متنوعة من الحوامل (السلحفاة، عظام، لحاء شجر، الخ.) كي نحصل على أول نص «أدبي»[18] مكتوب، وهو ملحمة جلجامش التي يعود تدوينها إلى 4000 سنة فقط، وتم كتابتها على ألواح طينية، بكتابة مسمارية، وهما اكتشافان سومريان. بولوج «الأدب» دورة الكتابة هل تمَّ تدوين سائر الإنتاجات الأدبية التي تم تناقلها شفويا على مدى 000 96 عام؟ ثم ما تم تدوينه، بعد سلسلات طويلة من الرواة وأزمنة من التناقل الشفوي، هل أمنَ من التحريف والزيادة والنقصان؟ هذا السؤال أكتفي بطرحه.
كانت تلك هي أولى أكبر محطة كبرى للكتابة، تلتها نقلة نوعية باكتشاف الكوديكس، حوالي 200 سنة قبل الميلاد، ومنه ينحدر كتابنا الحالي. ما هو نوعي في تلك القفزة هو قدرة الكتاب على استيعاب عدد كبير من النصوص، في عدد كبير من الصفحات تكتب على وجهين، وقابليته للحمل والنقل، متخطيا حاجز المكان. في هذا الحامل ستزداد كمية النصوص المدونة، وعبره سيصلنا مجموع ميراث قدماء الإغريق والعرب، الذي كان يتولى كتابته حرفيون يزاولون مهنة الوراقة.
تلت هذه المرحلة محطة أخرى شكلت قفزة عملاقة، وتمثلت في اختراع المطبعة في متصف القرن 15 على يد الألماني يوهان جتنبرغ. ويتمثل وجه القفزة هنا في أن الكتابة دخلت طور المرحلة الميكانيكية، فصار بالإمكان، ولأول مرة في التاريخ، إنتاج عشرات آلاف النسخ المتطابقة من الكتاب الواحد، ما ترتب عنه ظهور المؤلف وحقوق الملكية الفكرية، والإصلاح الديني وفي أوروبا والثورة الصناعية والأنوار الذي يعيش العالم اليوم على إيقاع فرض قيمه قسرا من الدن الغرب ومد العولمة.
والمرحلة التي نعيشها اليوم، تطرح أكثر من علامة استفهام. إنها مرحلة جديدة يمكن تسميتها بـ «العصر الرقمي»، يمكن اعتبارها نهاية للثورة النيولوتية، وامتدادا (أو تطورا) للقفزة التي حققتها المطبعة، بقدر ما يمكن اعتبارها اكتمالا لدورة الإنسان العاقل وبداية لظهور إنسان جديد، وبالتالي فإن جاز تشبيهها بإحدى المراحل التاريخية التي قطعها النوع البشري فقد لا تشبهها سوى تلك المرحلة الانتقالية التي «انفصل» فيها الإنسان الحالي «العاقل» عن نظرائه، ممن عاصروه، وساروا على قدمين، واخترعوا أدوات وتكلموا.
أول مؤشرات هذا التحول هو ظهور فعل جديد، هذا الفعل يمكن تسميته بـ «الرقمية» أو «الحوسبة». إذا كان ظهور الإنسان العاقل قد نتج عن القيام بثلاثة أفعال، هي: الوقوف، والصناعة، والكلام، وكانت الثورة النيوليتية التي دخل بها هذا الإنسان العقال تتحدد في ثلاثة أفعال أخرى، هي: «الزراعة»، «والكتابة»، «والنظام»، فالثورة الرقمية تؤشر على ظهور مجموعة أفعال جديدة، لا يمكن أن نتبين منها اليوم سوى أولها، وهو فعل «الرقمنة» (أو «الحوسبة»)، ستتلوه بالتأكيد أفعال أخرى يمكن أن تفضي إلى نقلة نوعية للجنس البشري، بحيث قد يخرج من رحم هذه الثورة إنسان جديد. وبالفعل فالحديث عن «ما بعد الإنسان» هو حديث جار الآن.
هذا هو السياق العام الذي أضع فيه علاقة الأدب بالتكنولوجيا، أو بتعبير آخر إن أي تناول للأدب الرقمي لا بد أن يتم في ثلاثة محاور، هي: تاريخ التقنية، وتاريخ الأدب، ثم ما يسمى بالإعلام.
يجري الحديث اليوم عن «الإبدال الإعلامي»، باعتباره أحد الإبدالات الناشئة في فترة ما بعد الحداثة، بعد الأزمة التي عرفتها هذه الأخيرة، منذ منتصف القرن الماضي[19].
يتألف الإبدال، باختصار شديد، من نظرية، تقدم تصورا وتمثلا للإنسان وللعالم، تفسر أصل الأشياء وكيفية اشتغالها، وأدوات للاشتغال. ويتشكل تاريخ العلم من سلسلة متواصلة من الانتقالات من إبدال إلى آخر. يتم الانتقال من إبدال (أ) إلى إبدال آخر (ب)، عندما تتعذر مواصلة الاشتغال بالنماذج التفسيرية للنظام القديم وأدوات اشتغاله، وبذلك يكون الانتقال إلى إبدال جديد، هو أيضا انتقال من تصور للوجود وللعالم والإنسان إلى تصور آخر مختلف جديد، واستبدال لأدوات عمل معتمدة وشائعة بأخرى جديدة تستحدث مع المنظومة الجديدة. وتاريخ العلم يشتمل على عدد من أمثلة النوع من الانتقالات. وقد وضح ذلك توماس كوهن حيثيات هذه الانتقالات في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية»[20].
ويمكن توضيح هذا الانتقال من إبدال لآخر، بمثال التحول من «إبدال مركزية الأرض» (أو «نموذج بطليموس») إلى إبدال «مركزية الشمس» الذي حدث في القرن السابع عشر.
كان نموذج مركزية الأرض ينبني على تصور للعالم والإنسان، بموجبه، كل ما يجري في العالم السفلي هو نتيجة لحركات الكواكب، وبالتالي فمن معرفة هذه الحركات يمكن التنبؤ بما سيقع. وعلى ضوء تلك المعرفة كانت تتخذ قرارات حاسمة أحيانا. ومن ثمة، فقد كان بعض الأمراء والملوك يتخذون من المنجمين مستشارين لهم. فعلى سبيل المثال، بهذه الصفة، اشتغل كبلر في بلاط الإمبراطور الروماني رودولف الثاني، وهي صفة تعادل المستشار الاقتصاي ومستشاري الدفاع اليوم. كان كوبرنيك يبني توقعاته بعمليات حسابية تستند إلى ملاحظات عالم فلكي اسمه تيكو براي[21].
وكانت أدوات اشتغال هذا النموذج هي الملاحظة بالعين المجردة، ثم الحساب. لكن، بفضل تطوير صناعة أدوات الرصد، جمَّع تيكو براي آلاف الملاحظات الدقيقة، فوجد كبلر صعوبة في التوفيق بينها وبين العمليات الحسابية المبنية على التصور القائم، وهو مركزية الأرض ودوران باقي الكواكب النظام الشمسي حولها، فاضطر إلى إدخال تعديلات على هذا التصور، فاستقامت الحسابات. ونشر ذلك في كتاب له سنة 1609. بيد أن هذا الكتاب لم يُحدث أي تغيير يُذكر، وظل الإبدال القديم قائما.
بعد ذلك، بحوالي ثلاثة عقود (1636) ابتكر جاليلو أداة جديدة للملاحظة، عبارة عن نظارة فلكية منها ينحدر منها التلسكوب المعاصر، فتبين له صواب أطروحة كوبرنيك، ونشر ذلك في كتابه «حوار بين النظامين»، بيد أنه تحت ضغط الكنيسة اضطر للتراجع عن القول بمركزية الأرض.
بعد مرور 75 سنة عن كتاب كبلر، ومرور 48 عام عن صدور كتاب جاليلي، ونتيجة ظهور إكراهات عملية ملحة، تتمثل في حاجة الملاحين إلى خرائط للسماء مضبوطة ودقيقة، طرحت قضايا جديدة، فأدى السعي إلى حلها بنيوتن إلى اكتشاف نظرية الجاذبية التي أظهرت بشكل قاطع كروية الأرض ودورانها حول الشمس. أخيرا، حظى الإبدال الجديد بالااعتراف والتبني من لدن أوساط سياسية، والقبول من لدن الأوساط العلمية المحافظة، بل وحتى من الكنيسة نفسها[22] (علما بأنها لم تقدم اعتذارها الرسمي عما ارتكبته في حقل جاليلو إلا في عام [23]1993).
يستخلص مما سبق أن الانتقال من إبدال (أو نموذج) لا يتم بين عشية وضحاها، وأنه لا يتم بسهولة، ويصادف مقاومات عدة، بسبب أن العلماء لا يهتمون في المقام الأول بتغيير الإبدالات القائمة، لأن ما يهمهم هو نجاح تطبيقاته العملية، والتي تكون فعالة في معظمها، فلا يتم قبول الانتقال إلى الإبدال الجديد إلا عندما تتراكم كبوات التطبيقات العملية للنظام القديم لدرجة يصير من غير المجدي الاستمرار في تبنيه أمام نموذج تفسير جديد، يقدم أدوات جديدة واصطلاحات جديدة، أو يعطي للقديمة معان جديدة، أكثر فعالية، تستند إلى تصورات وتمثلات جديدة... علما بأنَّ الانتقال إلى إبدال جديد لا يهدم ويلغي جميع أدوات اشتغال سابقه وجميع عناصر بنائه النظري؛ فنسبية إنشتاين، على سبيل المثال، وإن قضت أركان جاذبية نيوتن، فحسابات هذا الأخير لازالت تعتمد إلى اليوم في إطلاق المركبات الفضائية[24]. وفي ظل نموذج مركزية الأرض، الذي ساد على امتداد 2000 سنة، عاشت حضارات عديدة، مثل الحضارة الإغريقية والرومانية والعربية، وحققت إنجازات كبرى.

في عودة إلى ما يشكل إطارا عاما للتحول الذي يعرفه الأدب اليوم، وهو الإبدال الإعلامي، يشكل هذا الأخير نقلة نوعية تتمثل في المرور من المجتمع الصناعي إلى مجتمع الإعلام والمعرفة، وهو مرور يأتي بصورة وتمثل جديدين للعالم وللإنسان، كما يقدم أدوات اشتغال جديدة، بدأت تفرز طرق عمل جديدة. الصورة والتمثل الجديدان هما: فضاء المعلومة، وأدوات الاشتغال هي الأجهزة الرقمية والشبكات.
يمكن اعتبار الثورة الرقمية ثورة رابعة، بعد ثورات كوبرنيك وداروين وفرويد، من حيث أنها تؤسس فضاء خامسا، إضافة إلى فضاءات الماء والهواء والتراب والحياة[25]، هو فضاء المعلومة info-sphère. بموجبه ما من شيء يوجد في الكون، حيا كان أم جمادا، في الأرض أو في السماء، إلا ويخرن معلومة ويرسلها[26]. ووجود الأشياء صار لا يتحدد من حيث كونها مادة، بل من حيث كونها معلومة[27]. في هذا الصدد، لم يعد العلم يقول الصحيح أو الخطأ، بل صار مجرد معلومة قابلة للمتاجرة[28].
والأدوات الرقمية التي توفرها الثورة الرقمية (هواتف، حاسوب، شبكات)، غيرت مفهومي الزمان والمكان وعلاقة الفرد بالجماعة. لأول مرة في تاريخ الجنس البشري، صار نوعنا يتواصل بإشارات[29] les signaux، تبلغ سرعتها سرعة الضوء.
ثمة من يرى أن الأدب في ظل الثورة الرقمية يدخل إبدالا جديدا، بمعنى أن تعريف النص الأدبي، وماهية الأدب، وأدوات تحليل النص الأدبي هي بصدد معرفة تحول كبير جدا، ما قد يقتضي طرح السؤال: هل سيبقى ما اعتبرناه لحد اليوم أدبا أم أنته سيصير شيئا آخر غير الأدب؟ هل نواصل تحليل الأدب بالأدوات الموروثة عن مرحلة الكتاب أم سيقتضي الأمر توظيف أدوات جديدة تماما؟ لن أجازف بتقديم جواب نهائي لهذا السؤال، وفي المقابل سأحاول طرح بعض الخطوط للتأمل والتفكير.
يعرف الأدب تحولا جذريا، على صعيدين: الأدب المتعارف عليه، وما يسعى إلى التأسيس تحت اسم «الأدب الرقمي».
فالأدب الأول بصدد الانتقال بكميات هائلة من الرفوف المادية إلى الفضاء الافتراضي، ما يجعل مشكلة القراءة تطرحُ على نحو غير مسبوق. كيف يمكن الإحاطة بموضوع يتوفر بشأنه كم كبير جدا من الوثائق؟ (للإشارة، فقد كان السعي لتذليل هذه العقبة هو ما طرح فكرة النص التشعبي (أو المترابط) في صورتها الجنينية مع فارنيفار بوش)[30]. ما فائدة طرق مؤلف واحد في بحث جامعي في الوقت الذي تتوفر فيه عشرات الكتب، في الخط الأدبي نفسه، أو مجموعة مؤلفات عصر ما في الوقت الذي تكون فيه مجموع مؤلفات العصر نفسه في المتناول؟ لربما تطلب الأمر أن نتحول إلى بشر آخرين. في هذا الصدد، ثمة من يعمل في مختبرات، ويتطلع إلى أن يجعل محرك غوغل شريحة في دماغ الإنسان[31]، كما ثمة من يطرح أننا مع الوسائط الرقمية الجديدة قد خرجنا من عصر المراسلات إلى ما بعده ومن عصر الأدب على ما بعده[32]. وصاحب هذا الطرح بالمناسبة هو أحد ممثلي جناح العلوم الإنسانية في ما يسمى بالنزعة ما بعد الإنسانية Posthumanisme.

بالإضافة إلى الأدب السابق، ظهر أدب جديد لا يغادر الحاسوب كتابة ونشرا وقراءة، هناك بـ «الأدب المعلوماتي»، وهناك من يسميه بـ «المعلوماتية الأدبية»؛
في ما وراء السعي إلى تجنيس هذا الأدب والتكهن بمستقبله، ربما وجب النظر إليه من زاويتين: تطوره في صلته بالحاسوب الذي تخضع صناعته لقانون (هو ما يسمى بقانون مور)، ومنطق تطور التقنية الذي يخضع له هذا الحاسوب بما هو منتوج تقني.
ظهر هذا الأدب غداة اختراع أول حاسوب، في عام 1952، وأخذت أول نصوصه شكل ما يصطلح عليه اليوم بالأدب التوليدي، حيث أنتج اسوب، يشغل بناية كاملها، ينتج يوميا قصيدة حب واحدة على مدار سنة بكاملها[33]. وكان القصد من وراء مبرمجيه إظهار إمكانية توفر الآلة على ذكاء اصطناعي، ومن ثمة إمكانية اضطلاعها بعملية التأليف بدل الإنسان. ويمكن ربط هذا القصد بمرامي حركة ما يسمى بالنزعة الإنسانية العابرة posthumanisme التي لها أجنحة عدة، بعضها يمضي إلى حد الجهر بأن المرمى البعيد، والمسيرة العادية للتطور ستفضي إلى الخروج من الشرط البيولوجي لفائدة وجود آلي[34].
في سنة 1959، أنتج الألماني تيو لوتز أول نص توليدي، لغرض أدبي محض، ويتخذ بعض منظري الأدب الرقمي هذا النص ومبدعيه مرجعا للدعوة إلى ارتياد الأدب الرقمي (هل يمكن الحديث عن سعي لأنسنة الأدب مقابل خلفية التوليد السابق؟)، بدل ترك كبريات الشركات تفرض نوع الأدب والقيم التي تشاء[35].
في منتصف الثمانينيات، تم تجهيز الحواسيب بشاشات العرض والوسائط المتعددة، ظهرت النصوص المتحركة، كما ظهر أول رواية تعتمد تقنية النص التشعبي (مترابط)؛
بإطلاق شبكة الأنترنت في سنة 1993، ظهرت النصوص الجماعية؛
في غضون ذلك، وبفعل تسارع تطور صناعة الأجهة والبرمجيات، ماتت نصوص وصارت غير مقروءة بالمرة، أو صارت مختلفة كليا عما كانت عليه أيام إبداعها[36].
على امتداد هذه المسيرة الممتدة، من 1946، تاريخ صناعة أول حاسوب إلى اليوم، تحول الحاسوب من ذلك الجهاز الذي كان يشغل بناية بكاملها إلى حجم هاتف ذكي، تبعا لقانون مور، وهو: أكفأ حاسوب ما تمضي عليه 18 شهرا إلا ويظهر حاسوب آخر يفوقه كفاءة بمرتين ويصغره في الحجم بمرتين. يُستنتج من ذلك أن شكل وحجم حجم حواسيبنا الحالية لن يكون هو الأخير، فالحديث جار اليوم صناعة حواسيب كمية[37] وأخرى في حجم حبة الرمل[38]، والسؤال هو أي شيء سيصبح الأدب آنذاك؟ هذا من جهة،
من أخرى: يُعتمد في إنتاج نصوص الأدب الرقمي اليوم لوحة المفاتيح والفأرة، وبرامج في بعض أنواع هذا الأدب، كالفلاش لإنتاج النصوص المشهدية متعددة الوسائط، بيد أنه أمام احتمال اختفاء لوحة المفاتيح والفأرة لفائدة تعامل صوتي مباشر مع الحاسوب، أو تعويض كامل لحواسيبنا الحالية بالحواسيب اللوحية tablettes، أي نصوص أدبية رقمية ستظهر؟
من جهة ثالثة، يبين تاريخ التقنية أنها تخضع لمنطق هو التطور نحو تشكيل أنساق، بحيث يصير تاريخ التقنية هو تاريخ لثوراتها، وتاريخ ثوراتها هو تاريخ للأنساقها[39]. يتألف النسق التقني من مجموعة كبيرة من الاختراعات التقنية المنفردة التي يبدعها الإنسان في أوقات متباعدة بهذا القدر أو ذاك، ثم يؤول بها الأمر في نهاية المطاف إلى أن تجتمع في جهاز واحد. فالعربة السومرية، على سبيل المثال، جهاز تجتمع فيه ابتكارات عدة، بعضها يعود إلى فترة تدجين الحصان، وأخرى إلى اكتشاف الحديد، وثالثة لصناعة الخشب، والتعامل مع الجلد، الخ. على النحو نفسه فحاسوب اليوم هو، على حد تعبير البعض، جهاز كلي تتجمع فيه مجموعة من الابتكارات التي يعود بعضها إلى القرن التاسع عشر، مثل التلغراف، ومجموعة أخرى من الاختراعات التي تمت في القرن العشرين، مثل أجهزة تسجيل الصوت، وقراءته، والكاميرا، والهاتف، الخ... وبذلك، فهو يكون أول رُكن ظهر من أركان نسق تقني جديد قيد التأسيس، مع الثورة الرقمية. بذلك، فمثلما قد تكون الحوسبة (أوالرقمنة) هي الفعل الأول في سلسلة أفعال لتحول النوع البشري، لا نعرف بعد ما سيليها، يكون الحاسوب هو الركن الأول في النسق التكنولوجي قيد التأسيس الذي لا يمكن التكهن بباقي أركانه مادامت الثورة الرقمية بكل ما أحدثته من تغييرات جذرية إلى اليوم لازالت في بداياتها.
[1] François Jacob, Qu est-ce que la vie ?:
http://www.canal-u.tv/video/universite_de_tous_les_savoirs/qu_est_ce_que_la_vie.880
[2] Histoire de l’évolution et de la vie sur terre :
http://www.fermedesetoiles.com/documents/supports/histoire-et-evolution-de-la-terre-et-de-la-vie.pdf
[3] ???
[4] أثبت ذلك مختبريا العالم الفرنسي جاك بنفنيست، وتقلت الأوساط العلمية ذلك بسخرية كبيرة، ورفض شديد، قبل أن يتبنى المشروع لوك منتانييه، الحائز على جازئة نويل في عام؟؟؟، وهو بصدد مواصلته الآن في أمريكا. حول بنفنست، ينظر الشريط:
Jacques Benveniste et la Memoire de L Eau :
https://www.youtube.com/watch?v=4PNMUaF-DxY
وحول مواصلة لوك منتانييه للمشروع، ينظر الشريط:
Jacques Benveniste avait raison !
http://www.youtube.com/watch?v=CioPltEbGCA
[5] Silicium Organique G5 Qui a peur de Loïc le Ribault ?
https://www.youtube.com/watch?v=PiHuozHWEQE
[6] «النماذج العليا [عند يونغ] هي لا شخصية، ولا تشارك في الزمن التاريخي للفرد، بل في زمن النوع، بل وحتى في زمن الحياة العضوية»
Mircea Eliade, Mythes ? rêves et mystères, ???; p. 57.
[7] Jeremy Rifkin, Une nouvelle conscience pour un monde en crise. Vers une civilisation de l’empathie, Paris, Nouveaux horizoons, 2011, p. 16.
[8] http://soutien67.free.fr/histoire/pages/prehistoire/prehistoire.htm#signet01 />[9] نفسه.
[10] نفسه.
[11] » De nombreuses espèces humaines ont coexisté. C’est du moins ce que pense la majorité des scientifiques. En Afrique, tout d’abord, il y a 1,8 million d’années, au Kenya, Homo habilis vit non loin d’Homo rudolfensis. Mais, un autre cousin parcourt lui aussi la savane africaine: Australopithecus boisei, l’un des derniers représentants des australopithèques apparus il y a plus de 4 millions d’années«, Homo sapiens, Origines. Migrations et évolution:
http://www.dinosoria.com/homme_moderne.htm
[12] Peter Sloterdijk, Règles pour le parc humain. Une lettre en réponse à la lettre sur l’humanisme, trad. O. Mannoni, Paris, Éditions mille et une nuits, 1999, p. 50.
[13] Le plus vieil Homo sapiens a 400 000 ans, Le Monde, 29/12/2010 :
http://www.lemonde.fr/planete/article/2010/12/29/le-plus-vieil-homo-sapiens-a-400-000-ans_1458878_3244.html

[14] ينظر على سبيل المثال:
- Evolution Homo sapiens - Homme moderne Homo sapiens : 200 000 ans dévolution :
http://www.hominides.com/html/dossiers/evolution-homo-sapiens.php
[15] http://www.dinosoria.com/neandertal_histoire.htm />[16] Edgar Morin (et autres), «Le complexe d’Adam et Adam le complexe», in L’unité de l’homme, 3. Pour une anthroplogie fondamentale, Paris, Seuil, Pointd, 1974 ; pp. 271-284.
وكذلك:
- Jean-Paul Baquiast, Les paradoxed du sapiens», le 03/10/2008 :
http://www.automatesintelligents.com/echanges/2008/oct/sapiens.html

Les paradoxes du sapiens, ????
[17] ???
[18] نضع الكلمة بين مزدوجتين لأن الأدب لم يكن آنذاك قد انفصل بعد على الأسطورة والسحر والدين والتأملات الفلسفية. كانت النصوص المدونة مزيجا من ذلك كله (مهابهارتا ورامايانا الهنود، أفستا الفرس، أوديسا وإلياذة هوميروس، وكلها دونت في فترات متقاربة نسبيا، في مرحلة ظهور أولى الإمبراطوريات).
[19] La crise de la modernité et l’émergence de nouveaux paradigmesز
http://www.millenaire3.com/fileadmin/user_upload/syntheses/Nouveaux_Paradigmes2010.pdf
[20]
[21]
[22] يمكن العثور على هذه المعلومات في الشريط الوثائقي:
L’histoire fabuleuse de la science, 1. Quest ce que lUnivers?:
https://www.youtube.com/watch?v=0I1V8YbmPRs
كما يمكن الاطلاع على وصف لهذا الانتقال (من إبدال مركزية الأرض إلى إبدال مركزية الشمس)، فضلا عن ذكر إبدالات أخرى في تاريخ العلم، في الدرس:
- Six questions clés de philosophie des sciences, Changements de paradigme et histoire des sciences : Et si on changeait de paradigme ?:
http://rpn.univ-lorraine.fr/UOH/PHILOSOHIES_DES_SCIENCES/co/paradigme.html
[23] كارل ساغان، كوكب الأرض نقطة بهتة، زرقاء، سلسة عالم المعرفة، العدد، الشهر، ؟؟، ص؟؟؟.
[24] ????
[25]
[26]
[27] La révolution numérique considérée comme une quatrième révolution :
???
[28]
[29]
[30]
[31]
[32] يتعلق الأمر بالفيلسوف بيتر سلوتردايك في كتابه الآنف الذي أثار جدلا كبيرا.
[33]
[34]
[35] Philippe Bootz, La poésie numérique :
[36]
[37]
[38]


[39]

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا