من قال إن
اللغة قادرة على اختزال كل ما هو جوّاني؟ لكن رغم قصورها، سأحاول أن أجبرها على
مطاوعة ما أشعر به وفاء لذكرى الراحل الذي لم ولن يرحل، إنه الفيلسوف خالد بوزوبع
فنان.
بعد تضحية
دفعت ثمنها غاليا –على المستوى المهني- التحقت بكلية الآداب ظهر مهراز، وكانت سنتي
الأخيرة بهذه الكلية سنة تعرفي على هذا المفكر. كان اللقاء الأول به في الأسدس
الأول من موسم 2015/2016، في درس الذكاء الاصطناعي. لم يكن درسه ولا طريقته في
إلقاءه كباقي الدروس، لقد كان متميزا لغة وفكرا وتساؤلا. عندما انتهت محاضرته
الأولى خرجت وأنا أعاني نوعا من الصداع، لم أكن قادرا على استيعاب كل ما قاله، لقد
أشعرني بنوع من الاستفزاز الفكري. لم أستسلم لهذا الصداع بل أصريت على مواصلة حضور
محاضراته إلى أن تعودت على طريقته في تقديم المحاضرة. بعد ذلك، أصبح حضور محاضراته
بمثابة الإدمان، كنت أنتظر وصول يوم الجمعة بفارغ الصبر. كنا ننتظر دخوله سائقا
سيارته "الهوندا" المميزة أمام مدخل السيارات بالكلية، يظهر المعلم
فينتابني وأصدقائي شعور بالغبطة، يوقف سيارته فتنزل زوجته القديرة أو السيدة كما
يحلو له أن يناديها، تفتح الباب الخلفي للسيارة فتُنزل كرسيه المتحرك، تُرَكِّبه
ثم تقدمه بمحاذاة باب السائق، يبذل المعلم مجهودا لكي ينزل من السيارة ويركب كرسيه
المتحرك، أتابع هذه العملية بنوع من الرومانسية على مدى خمس سنوات، تدفع السيدة
الكرسي بالمعلم إلى القاعة المخصصة للمحاضرة، تفتح الحقيبة فتخرج حاسوبه الأبيض،
يحددا موعد عودتها إليه ثم يقوم بربط الحاسب بالعاكس الضوئي، يطلب من أحدنا أن يطفأ
الأضواء ويغلق الباب، يتم ذلك فتبدأ المغامرة المعرفية المتميزة بقلة الحضور الكمي.
كان يقدم في حصته الأولى برنامج العمل ثم يردف قائلا: "ليس هناك ما
نخفيه" فيفصح عن المراجع التي سيعتمدها وعن المواقع الخاصة بتحميل الكتب،
كانت مقدمة الدرس تطول أحيانا إلى منتصف الأسدس، لم ينه البرنامج يوما، لأنه لا
يقبل أن يتغاضى عن غموض ما أو يمر عليه دون توضيحه. تبدأ المحاضرة التي كانت
تفاعلية أساسا، لقد كان يشركنا دوما في بناء الدرس وكان يحاصر عقولنا بأسئلة نرى
أجوبتها المختلفة متعادلة، فكان من الصعب ترجيح جواب على آخر دون أن نتوفر على
التبرير الذي رجحنا من خلاله جوابا على حساب آخر. لقد كان يقول دائما "نحن
نتفلسف، وهكذا ينبغي أن يكون الدرس الفلسفي. أنا لا أقدم لكم معطيات جاهزة، أنا
أزودكم بالآليات". وفعلا، شيئا فشيئا أدمنّا التساؤل حول كل شيء، نعم كل شيء.
بعد حصولي على الإجازة، غادرت الكلية لكنني لم أغادر حصصه كما لم يكن بدوره
يغادرني، لقد كان معي دائما، وما يزال كذلك ولن يزول. التحقت بعدها بمؤسسة جامعية
بنفس المدينة، وكالعادة كان يوم الجمعة يوما مقدسا قداسة منزلته عند المسلمين.
تواصلت اللقاءات ودائما ما كان المشهد هو هو، لكن المحاضرة كانت دائما متميزة، لقد
كان ذا عقل يقوم بعمليات معقدة، كان رياضيا-منطقيا بارعا. لم يكن يستعرض قول
الفلاسفة فقط، بل كان يناقشهم، ولن أنسى يوم قدم لنا اعتراض كارناب على الكوجيتو
الديكارتي حين قال: "أنا الآن وضعت أمامي كارناب وديكارت، وقد تتهمونني بأنني
أميل إلى ديكارت، لكن ديكارت كان على حق". مرت السنة الثانية بسرعة، ولم يكن
الوقت يسعفه لإتمام البرنامج. غادرت فاس نحو مكناس لإتمام الدراسة، لكنني لم أخلف
أبدا موعدي معه يوم الجمعة. استمرت محاضراته التي كان يغلب عليها الطابع الصوري،
كانت الرموز المنطقية-الرياضية تبدو غريبة وغامضة في آن، لكنها والحق يقال أقدر
على كشف قصور اللغة الطبيعية، لم يعد لدي أدنى إشكال مع هذه الصورنة، كنت وأصدقائي
نسجل محاضراته صوتا وكتابة من أجل إعادة الاستماع إليها لاحقا، ومن أجل إرسالها
للطلبة الشغوفين به الذين رمتهم الأقدار
خارج فاس. لقد كان السؤال شيمة محاضراته، كانت الأسئلة تطغى على الأجوبة، وما
الغريب في ذلك إذا كانت الفلسفة أصلا تساؤلا؟ لقد كان يعمل ضمنيا بحكمة سبق أن
أفصح لنا عنها الحكيم عز العرب لحكيم بناني –أستاذ بنفس الكلية- حين قال لنا:
"خير ما نقدمه للفيلسوف هو أن نطرح عليه السؤال". انتهيت من الدراسة التي
دامت سنتين بمكناس، فعدت إلى هذه الكلية الأم من أجل التسجيل بسلك الدكتوراه، وكم
كنت متشرفا حين كتب لي –بطلب مني- المعلم
تزكية –من ضمن شروط ملف الترشيح- للتسجيل بها، سلمني إياها قائلا:
"بالتوفيق". استمرت محاضراته برسم موسم 2019-2020 حول "مبادئ
الرياضيات؛ عن السؤال الوجودي: من التأسيس المنطقي إلى البناء الحدسي" إلى
غاية يناير 2020، إذ كان مقررا أن يختتم الأسدس بمحاضرتين إضافيتين يومي 7 و10
يناير، إلا أنني تفاجأت يوم 6 يناير برسالة على بريدي الإلكتروني يخبرني فيها بأنه
أصيب بنزلة برد وبأنه لن يقدم الحصتين على أمل تعويضهما بداية الموسم الربيعي،
تمنيت له الشفاء العاجل وكلي شوق لبداية الموسم الربيعي. في يوم 19 يناير تلقيت
اتصالا من أحد أصقائي الأوفياء لمحاضراته، يخبرني فيها بأن المعلم مات ! رجّ بي المكان فلم أصدق نفسي، والدموع تنزل
من عينيّ تفقدت هاتفي فوجدت الخبر منشورا من طرف عدة أساتذة وأصدقاء، أحسست بإحساس
أعجز عن ترجمته لنفسي أكثر من عجزي عن التعبير عنه كلاما. لقد قدم لنا المعلم خدمة
تنضاف إلى ما قدمه لنا أساتذتنا الكرام، لكنه ترك فيّ أثرا فريدا. أجدني محظوظا
بالتعلم على يديه الحظ الذي لم أنله مع المرحوم جمال الدين العلوي ومع المرحوم
إدريس المنصوري ومع المرحوم محمد مساعد. لن أنساك معلمي لأنك ميت جسدا حيّ روحاً.
لن أنساك لأنك تطوعت وأضفت لنا برنامجا دراسيا إلى جانب البرنامج المسطر. لن أنساك
لأنك كنت الأستاذ والإنسان الذي لا تهمه صفة أو لقب من يكون أمامه بقدر ما تهمه
طريقته في التفكير والتصرف. إذا كان الموت
"نهاية" وجود فزيائي معين، فإن موتك معلمي هو بداية أكثر منها نهاية. لن
أنساك لأنك أشعلت فينا فتيل التفكير الفلسفي.
لقد كنت تختم
محاضراتك بالقول : "أشكركم"، وبدوري أختم هذه السطور بالقول: أشكرك.