لمحمد برادة
بديعة الطاهري. كلية الآداب والعلوم
الإنسانية.
جامعة ابن زهر .
أكادير
عتبة إلى الكاتب
محمد برادة من المبدعين الذين ينسجون العوالم الروائية بوعي
كبير بالسرد ودروبه . تنصهر في كتابته
الموهبة والثقافة والصنعة والوعي بإشكالات الواقع وأسئلته. تختفي الصنعة وراء سرد
ممتع يعيد للحكاية ألقها. ويتوارى النقد خلف بنية روائية متنوعة ومختلفة باختلاف
تجاربه الروائية، وتلقي المعرفة بظلالها الخفية والخفيفة على عوالم نصوصه لتجعل
القارئ يتأمل هذه العوالم، ويملأ بياضها وينثر طبقاتها النصية. لاننفي وجود
المشترك بين هذه النصوص، وهو الوعي بالشكل الروائي باعتباره فضاء لتصارع الأفكار
والأصوات والإديولوجيات؛[2] ،
لكنه تصور لا يستفرد
بنصوصه؛ لأن بها ظلال تصورات أخرى.
فرواياته تعبر أيضا عن صراع الشخصيات داخل
المجتمع ، وانحطاطها [3]،
وسعيها إلى البحث عن بعض القيم ، وتحقيق رغبات تكون في بعض الأحيان وليدة الرغبة في محاكاة وسيط قد
يكون داخليا أو خارجيا[4] .
يمرهذا الوعي النظري عبر مصفاة الذات التي تعرف كيف تعدل وتضيف وتصهر هذا المزيج بشكل يجعله إطارا طبيعيا تنسج داخله الأحداث،
وتحاك الشخصيات والفضاءات التي عبرها يصوغ الكاتب ما يشغله من قلق فكري. وتلك حالة
غير غريبة عن مبدع يدرك أن الإبداع ليس
مجرد تجريب لقواعد جاهزة، وإنما هو المعرفة والقدرة على الإضافة والاختلاف. مبدع
وقارئ نهم للإبداعات العربية والعالمية، ومترجم وناقد، وتلك مرجعيات تفيد الابداع عامة والرواية خاصة.
عتبة إلى تجنيس الرواية .
إذا كان الإيهام بالواقع قدر الرواية ، فإن
الرواية الجديدة حاولت في الكثير من
نماذجها تكسير هذا الأفق الذي طبع الإبداع لمدة ،واستبدلته باستراتيجية تسعى إلى
الإيهام بالخيال سواء في النصوص التي جددت
عوالمها باستثمار عوالم عجيبة أوغرائبية أو فانطاستيكية ، أوأخرى تنتمي إلى
الخيال العلمي، أوغيرها من النصوص التي
أدركت أن الأسلوب الواقعي الكلاسيكي بإمكاناته الأولى القائمة بصفة خاصة على
الإيهام بالواقع قد استنفدت ، وأن وظيفة السرد عامة ليست استعادة حقيقة أو عالم موجود سلفا ، بل هو القدرة على تطويع
المادة المعطاة للإدراك والتأمل، لخلق شيء
جديد[5].
لم تكن الرواية في تطورها تسير وفق خطية تتيح
رسم معالم الكتابة وأنماطها بصفاء . قد تبدأ العناصر الجديدة في الظهور في أوج
ازدهار القديم، ثم تتطور لتعطي شكلا مغايرا لا ينفي استمرار القديم إلى جانبه،
وتظهر نماذج أخرى تطور عناصر سابقة لخلق أفق كتابة مغايرة. نمثل للحالة الأخيرة
بما يعرف في الساحة النقدية بالتخييل الذاتي الذي استثمر عناصر موجودة في الكتابات
الذاتية والسيرة خاصة ، واقترح أبعادا
جديدة تضع المسافة بينه وبين السيرة
الذاتية . إذا كانت هذه الأخيرة راهنت على الأقل في بعض مغايراتها على المطابقة
الكلية بين الذات الكاتبة والذات الساردة، فان ما سعى إليه التخييل الذاتي هو
توسيع هذه المسافة بتزويد القارئ بمعطيات تحول دون المطابقة بين المحفلين، عبر
الاشتغال المثمر على التخييل. لكن التخييل الذاتي ظل مراهنا على العديد من الحقائق
الموضوعية كإدراج أحداث ووقائع تاريخية وشخصيات تنتمي إلى الواقع الفعلي وكل ما
يرسخ المادة القصصية على مستوى الواقع الموضوعي. ونحن نعتقد أن رواية بعيدا من
الضوضاء قريبا من السكات قريبة من هذا الصنف من الكتابة رغم أن الكاتب حسم في
أمر تجنيسها، وأبرم منذ البداية عقدا بينه وبين القارئ يقر بهويتها الروائية.
إن مثل هذا التصنيف الذي نقترحه، لا يمكن أن
يكون قد غاب عن الكاتب، . و حسم التجنيس ربما يرتبط بوعيه بما تتيحه
روايته من ومضات مغايرة تجعلها تختلف نوعا ما عن التخيل الذاتي ، أو ربما هو رهانه على تواطؤ النقاد
الذي جعله يسحب من قبل توصيف محكيات عن عمله مثل صيف لن يتكررليدرجها في
جنس الرواية ، واستعدادهم للمصادقة بالإيجاب على العمل باعتباره رواية.
يمكن اعتبار
هذه الرواية ببعدها الذاتي
استمرارا وتجديدا في الوقت ذاته لبعض كتابات محمد برادة .فقد اهتم بالسيرة الذاتية
وجعلها مكونا في بعض نصوصه منها لعبة النسيان ومثل صيف لن يتكرر.وحتى
عندما لا تكون السيرة الذاتية الشخصية، أو بعض معالمها مدار نصوص برادة، فان البعد السيري لا يختفي من نصوصه، إذ يركز
دوما على سير شخصيات متخيلة ، لأنه -وكما
اشرت سابقا- مدرك لماهية الرواية التي هي سيرة ذاتية قبل أن تكون تاريخا اجتماعيا
كما يرى لكاتش. بل نعتقد أن ظلال السيرة لا تمثل دائما في الأحداث الواقعية، وإنما
في الرؤى والإديولوجيات . فالنصوص في نهاية المطاف تحمل ولو بشكل غير مباشر تصور
المبدع للعالم ، وتفكيره في الأسئلة التي تشغله.
يختارالكاتب
لهذا العمل فسحة الاختلاف والتميز عن بعض أعماله السابقة وعما يعرف عامة
بالتخييل الذاتي، لأنه حاول انتزاع الذات من بعدها الفردي ليصبغ عليها بعدا جماعيا
. فالرواية، ورغم أنها تدور حول أربع شخصيات، تترجم تجارب جماعية مختلفة جمعها
التاريخ والمجتمع والثقافة والسياسة . وبناء عليه، فالعنصر السيري
هنا لا يرتبط بذات الكاتب وإنما بالذات الجماعية بالمفهوم النقدي[6]،
إذ كل شخصية تعبر عن بنيات ذهنية لفئات اجتماعية لها قواسم مشتركة ، أوهي الذات
الجماعية أيضا باعتبارها مجموعات بشرية تنتمي إلى وطن واحد هو المغرب
وما دام محور
الندوة هو الالتزام ، فلا بد من الإشارة إلى أنه يتخذ عند محمد برادة بعيدين :
-بعد فني وآخر إديولوجي .
يرتبط البعد الأول باشتغال الكاتب على الشكل الروائي
بطريقتين:
- تكون الأولى ضمنية يترجمها وعيه النقدي بأن حياة
الرواية واستمرارها مرتبط ببحثها الدؤوب عن أشكال جديدة .
والثانية صريحة .عبر ما يتيحه السرد من مساحة نصية يناقش
خلاها الكاتب جغرافية الكتابة ومسالكها
وهواجسها .وهي عوالم يفترض أن تكون
كواليس في النص لا يطلع عليها سوى الكاتب، لكنها في الرواية جزء مكون لعالم الرواية يتابعه
القارئ بمعية السارد الذي يضطلع بدور الكاتب التخيلي .نحن هنا أمام تنضيد سردي
يأتلف فيه المستوى التلفظي والسردي. تقنية غير غربية عن الإبداع، حاول الكاتب
تمديد إمكاناتها ؛ بحيث لم يكتف بجعل السارد /الكاتب في النص شخصية محايدة عن الأحداث
، بل جعله شخصية تشكل جزءا من الحكاية، ليخلصه بذكاء من موقع الكاتب المحايد ويجعل
منه شخصية تخدم الأطروحة التي تدافع عنها
الرواية، وهي مساءلة التاريخ المغربي من قبل أربع
شخصيات ترسخ زمنيا بفترة تبدأ قبل
الاستعمار لتمتد إلى السنوات الأخيرة .
ويسعى السارد /الكاتب التخييلي من خلال الجهر بمشروع
الكتابة إلى مساعدة القارئ ودعوته إلى اكتشاف طريقة في القول يدرك أنها متباينة
بين الشخصيات . طريقة يختلف استقبالها أيضا بين القراء لتعددهم . لأن الشخصيات لا تكتفي بحكي الأحداث ، ولكنها تسرب إدراكها
للعالم. ولا يكون هذا الاختيار الجمالي
الذي يعرضه الكاتب التخييلي على القارئ مجرد وسيلة للتجريب ، وإنما له بعد دلالي
يكمن في أن الرواية تدفع القارئ إلى البحث
عن أوجه للحقيقة موزعة بين شخصيات متعددة لا يمكن حصرها في الشخصيات الرئيسة
الساردة وحسب ، ويتيح له فرصة الشك والسؤال والسخرية . فالرواية لا تقدم إلى
القارئ معرفة تامة أو جوابا يطمئن إليه ،
وإنما تغريه ، وتستدرجه بشكل تخييلي إلى
استكناه ماجرى وما يجري والتفكير فيه ،لأن السرد، وكما يرى بول ريكور، وسيلة من بين وسائل فهم الوجود[7] .
-المستوى الإديولوجي
روايات محمد برادة -وكما قلنا سابقا -تصنع مادتها من الإنصات
إلى همس المجتمع ونبضه . سنده القلق الفكري والأسئلة التي تحركه ككاتب ملتزم"
يبحث، ضمـنيا، عن أجوبة تـُـسعفه على مواجهة ما يـعيشه
هـو ومُجتمعه في سيرورة الحاضر واحتــمالات المستـقبل"
وتندرج هذه الرواية في هذا الإطار. تنطلق من الماضي لتعانق الحاضر القريب
.تركز على الذات ولكنها تخلصها من الخاص في أفق الاحتفاء بالعام.
توهمنا الرواية
عبر عناوينها أنها تهتم بأربع شخصيات تنتمي إلى تواريخ متتالية تبدأ من عهد
الاستعمار وتمتد إلى الفترة الراهنة. كما يوهم الحكي بسيرورة متصاعدة وفقا للتقسيم
المقترح . سكينة أوحى ببعض ظلالها منذ
البداية العنوان: بعيدا من الضوضاء
قريبا من السكات .
نتبين من قراءة
الرواية أننا في فضاء يجمع شخصيات متعددة
وأصواتا مختلفة ، ووجهات نظر متباينة،
ويصبح التقسيم خدعة ، أو هو استراتيجية سردية تحاول ضبط إيقاع الأسئلة
المتلاحقة حول الذات والمجتمع والتاريخ والهوية والسلطة والسياسة .
يضعنا النص منذ البداية أمام وجهة نظر تخلخل هذا السكون
المخادع. إنها نظرة المؤرخ الرحماني الذي جايل جميع هذه الشخصيات. نظرة تعرب عن
الارتباك والغموض والقلق إزاء الماضي والحاضر . فيحاول مواجهة هذه الحالات
الوجودية بالكتابة لمحاولة فهم الواقع .كما يدخل الكاتب التخيلي منذ البداية محملا
بوجهات نظرة تتراوح ما بين اليقين والتعميم يعقد من خلالها الصلة بين الماضي
والحاضر يقول " أميل إلى الاعتقاد أن الانتقال تعثر. لأن شروطه لم تكتمل عندما كان الشعب في غمرة أحداث
متلاحقة يصعب التحكم فيها أو تخمين عواقبها، وبعد أن انحسرت الموجة وهدأ الايقاع المتسارع ، أخذت خيوط الاأفعال
والمواقف تتضح تدريجيا لتضيء ما كان غامضا ولتؤشر على مرحلة اخرى كانت بدورها
قائمة على تلك التي سبقتها " الرواية ص 0 1"
لكنه ينسحب بعد أن حدثنا عن حياته الخاصة ليدعنا مع
شخصيات روايته. وهي شخصيات مرجعية .تحدد بأسمائها
ووظائفها. ولها بطاقة سميائية غنية تملؤها سمات تحدد وضعها الاجتماعي ،والثقافي،
والاقتصادي والعاطفي. إنها شخصيات لا تتوقف عن الامتلاء الذي تضاعفه أفعالها وأفكارها
وأحاسيسها المجهورة والصامتة . امتلاء يحتفي به الترسيخ الفضائي. .فهي شخصيات تعيش
في مكان وزمان محددين بوضوح. إنه المغرب منذ الاستعمار إلى حدود 2011 ،الذي تؤثثه أحداث حقيقية على
المستوى الوطني والعالمي .فالنص فضاء لأهم
الأحداث التي طبعت المغرب، نذكر بعضها زيارة الملك محمد الخامس إلى طنجة 1947،
نفيه الى كورسيكا عودته الى المغرب ، الإعلان عن الاستقلال، الانقلابين العسكريين،
الإضرابات في المغرب ، فضلا عن أحداث تهم بعض الأحزاب السياسية خاصة الاتحاد
الاشتراكي، والإشارة إلى شخصيات واقعية منها البكاي لهبيل، المهدي بنبركة، أوشخصيات أجنبية
تنتمي إلى الحقل السياسي أو الأدبي أو الفلسفي.
و يشكل هذا التاريخ الموضوعي وسيلة تتيح الانفلات من السرد الذاتي ، كما يساعد
القارئ على تبين الموقع الذي تتخذه هذه الشخصيات إزاء الواقع وما يعتمل فيه من
أحداث ، باعتبارها نتاج هذه المراحل المختلفة يمكن اعتماده لفهم بعض ما يجري حاليا
من انتكاسات مختلفة المستويات .
تتقاطع بعض هذه
الشخصيات على المستوى الطبقي، إذ تنتمي
إلى الطبقة البورجوازية إما بفضل الانتماء الأسري، مثل توفيق الصادقي ونبيهة سمعان، أو بفضل الوضع الثقافي الذي ييسر هذا الانتماء كما هو شان فالح الحمزاوي. و تلتقي هذه الشخصيات
أيضا في كونها تحمل الهواجس
والتطلعات نفسها . إذ تتراوح رغباتها ما بين الطموح الذاتي
والمصالح الشخصية الماثلة في الحفاظ على المكتسبات التي حققتها . فتوفيق الصادقي عاش في حمأة الانفجارات
والحركات الثورية ضد فرنسا، لكنه ظل حريصا
على أن يستغل كل الظروف لتأمين مكانته
وحمايتها يقول : إلا أن صوتا داخليا يذكرني
دوما بان الأسبقية هي للنجاح في مهنتي وتشييد مستقبلي " [8]
بل هو نموذج للشخصية الانتهازية التي تجعل مصلحتها
الذاتية فوق مصلحة الوطن. يقول وهو يعايش
الحركات الثورية ضد فرنسا " أخشى أن تتغير الأحوال بسرعة قبل أن أبلغ المكانة
البارزة في الجهاز الكبير الذي يسير شؤون البلاد ويضفي الهيبة والجدية من خلال
التنظيمات العصرية التي أرست دعائمها الحماية؟"[9] و لا
يتغير موقفه هذا في عهد الاستقلال. فما يربكه ليست الأحداث الجسيمة التي يعرفها
المغرب من تضييق على الحريات ومحكامات كان
شاهدا عليها، وما شابها من تضليل وتلفيق
خلال سنوات امتدت أكثر من عقد من الزمن ،
وغيرها من الأحداث المتمثلة في الاتنفاضات التي عرفتها بض المدن، وحالة الحصار
السياسي، وإنما خوفه على مصالحه يقول " أنا توفيق الصادقي أعلن بأعلى صوتي :
أنا حانق حائر مضطرب. كنت أعلق املا على الاستقلال في أن يجعلني أستفيد من الجهود
التي بذلتها في الدراسة وإعالة الأسرة وإذا به يضعني أمام متاهات مضيعة ويطرح علي أسئلة
معقدة لم أألفها "[10]
ولا يختلف فالح الحمزاوي عن توفيق الصادقي . فقد كان
بدوره مسكونا بالطموح الذاتي رغم انتمائه اليساري .يقول " أنا " مشدود أكثر
إلى تاريخي الشخصي .علي أن أحميه من التدهور والتداعي. أحرص على أن أرتقي أكثر، أو
على الأقل أن أحافظ على ما" اكتسبته "
وأصبح ضمن منجزاتي الخاصة ( ولا يهم في نهاية التحليل الطريق التي نسلكها
لتحقيق ذلك )....أحس أنني اتجه اكثر صوب حماية الذات "[11]
بل نجده يسعى إلى أن يورث هذا الموقف لابنه يقول " انا أريدك ان تهتم بتدعيم
وتوسيع مكانة ثروة العائلة مستفيدا من الإمكانات التي أوفرها لك ومن تخصصك في
الفلاحة لتصبح اسما لامعا يحوز احترام الناس والمؤسسات ، لأن التقدير بات مرتبطا
بالموقع الذي توجد فيه وبالثروة التي تحتضنها "[12]
و تشترك في هذا
الموقف الانتهازي شخصيات أخرى حتى وإن لم تكن فاعلة بشكل كبير في السرد ،فهي تارة
جل الفاعلين السياسيين باختلاف انتماءاتهم .فهم
رغم مناوشاتهم وصراعهم سرعان ما يتصالحون ويتفقون على ضرورة" إبقاء
الأوضاع على ما هي عليه .......والتذكير بفضائل الاعتدال "[13]، أوهي
أخرى أشخاص محددون ويتعلق الأمر بوزراء من الاتحاد الاشتراكي حتى وإن لم يعين النص
صراحة هذا الحزب .يقول : إن فئة المستوزرين والذين ذاقوا البزولة واستطابوا
الكراسي سرعان ما زعموا أن الانسحاب هو تخل عن برنامج الإنقاذ الذي طرحه الحزب ،
ومن ثم ضرورة المشاركة في الحكومة الجديدة للسهر على تطبيق ما بدؤوه !"[14] أما
نبيهة سمعان فهي نموذج للشخصية المغتربة
عن الفعل السياسي بشكل واع وبإصرار تقول:" إلأ انني لم أكن أحس أن الالتزام السياسي هو ما يستجيب إلى تغيير المجتمع"[15] فتختار
طريقة أخرى لفهم المجتمع وتغييره وهي النظريات
النفسية الغربية. ولكنها في حماة هذا البحث تنخرط في بحث عن ملذات الجسد وشهواتهـ تعيش متمردة على التقاليد وعلى هوية موروثة تراها
"متآكلة شاحبة "حسب تعريفها .ويكشف
سردها عن غربيتها. فهي لا تفهم الذات إلا عبر ما يقوله الآخر. لذلك جاء سردها في
شكل استعراض لأفكار ونظريات تقرؤها في العديد من الكتب الفكرية القيمة.وربما هذا
ما عمق غربتها التي تعيها هي الأخرى تقول "أشعر أنني لا انتمي إلى وطن بقدر
ما أنتمي إلى اختيار ثقافي مهني "[16]
ولا ننكر أن التمرد لدى هذه الشخصية كان مبكرا لديها. بدأت بذوره منذ
المراهقة، ولكنه وعي كونه تكوينها في المدارس الفرنسية.
ولا نستثني من هذه الحالة الشاب الراجي. فأول ما يطالعنا
به هي فتوحاته الجنسية مع نساء مختلفات السن والانتماء الثقافي، ولكنهن كلهن ميسورات
الحال : تاجرة ،صيدلية ، طالبة من عائلة
ميسورة.
و تجمع هذه
الشخصيات -إلى جانب ماقلناه عنها- الحيرة والقلق
والتمزق بين طموحات الذات وإكراهات الواقع .تمر الأحداث الكبرى على شاشة
حياتها اليومية ويتفاوت تأثيرها عليها بحكم الموقع تارة ،م القناعات أخرى .كما تعيش
في حالات أخرى منسحبة من الفعل السياسي .تتفرج بالرغم من أن خطابها لا يخلو من نقد
لاذع لبعض الأحداث والمواقف.
وتحفل الرواية بشخصيات أخرى تتحدد في إطار الاختلاف أحيانا
والتعارض أخرى مع هذه الفئة الأولى فنكون بذلك إزاء ثنائيات :
- توفيق الصادقي المعجب بالمرجعية الفرنسية مقابل خاله
الذي يرى في المرجعية الإسلامية
العربية وسيلة للخروج من المغرب إلى التقدم او بتعبيره لارتياد حضارة القرن .
فالح الحمزاوي اليساري المعتدل إزاء صديقه حفيظ اليساري
الثوري
-توفيق الصادقي، مقابل أخيه علي اليساري الذي لا يتوانى عن النقد
والثورة التي أدت بالأخوين إلى حد القطيعة. وتشترك هذه الفئة الأخيرة في
كونها تنتهي جميعها بخيبة أمل. وذلك هو
قدر البطل الإشكالي الذي يبحث باستمرار عن قيم لا وجود لها. فالخال ينزوي أكثر فأكثر.
وعلي يختار المنفى بدل العودة ، وحفيظ يعيش منعزلا منطويا على خيبة لما آلت إليه أوضاع
الحزب( ص 214)
ولا تكتمل الفئة الأولى من الشخصيات إلا في إطار علاقة التقابل
بين الأنا والآخر الأجنبي الذي يشكل مرآة
تنعكس فيها هجنة الأنا وارتباكها وابتذالها. وهذا ما يتجلى انطلاقا من علاقة توفيق
بصهره الفرنسي .وفالح في علاقته بالوزير الفرنسي .إذ تمر العلاقة دائما عبر الطقوس
نفسها؛ إكرام الآخر ماديا، ورفض هذا الاخير لهذا الكرم لأنه يأتي بشكل مبتذل يكشف تفسخ الأنا وتنزلها الأخلاقي
تارة والثقافي أخرى. ولا نستثنى نبيهة سمعان من هذه الثنائية . ولكن بطريقة مغايرة
. إذ لا تتحدد رغباتها إلا انطلاقا من الآخرالذي يملي عليها هذه الرغباتها . بل
ويشكل وسيطا تحاكيه وهنا نشير إلى معظم الأديبات والمفكرات اللوات أعجبت بسيرتهن وصارن
لها نموذجا .
تظل الفئة الأولى
من الشخصيات هي الأكثر حضورا
على المستوى السردي .لأن الأحداث
تأتينا عبر وعيها وصوتها. كما أنها وسيط
بيننا وبين باقي الأصوات السردية التي يختفي بعضها بشكل كلي: الخال، الوزير
الفرنسي، أو أنها أنها تطل علينا بين الحين والآخر ولكن بشكل سريع (علي و حفيظ)
أما الكاتب المتخيل فيتخذ مسافة مما سمع وما كتب . ثم يتدرج بين حالات ثلاث: خيبة الأمل
مما سمعه وعاشه ، والأمل الذي بعثته
حركة عشرين فبراير، ثم الشك والتراجع الذي سيؤدي به إلى طريقة أخرى يواجه
بها الحالات الاجتماعية والوجودية، هي كتابة رواية تعانق أصولها الأولى غير الملحمية ،لأن مثل ذلك يؤدي إلى انتفاء الصراع
في عالم به الكثير من التناقضات، وقد يفقد
العمل الروائي شكله وجوهره المؤسس على التصدع . إن الأمر يتعلق في الحقيقة بأصولها
البارودية القائمة على الإنشاد والسخرية[17].
ولكن الكاتب التخيلي يبحث عنها فيما يتيحه له التراث المغربي من شكل
شفوي يصرخ عبره" ضد التكبيرات
والتهليلات والولاءات المتدفقة في كل ساعة وحين ضد الاستنجاد بمن في السماء ،ضد
الاباء الذين لا لغة يلوكونها سوى ما
ورثوه عن الأجداد"[18]، والصراخ هنا له معادله في الأصل الروائي وهو السخرية من كل الثوابت والمقدسات .
يوجد إلى جانب الكاتب المتخيل الكاتب الضمني الذي لا
يتلفظ ولا يشارك في الحدث ، ولكنه يبني وجهة نظره بوضع كلام الشخصيات موضع الشك
والسؤال عبر علامات الترقيم التي تصاحب
الكلام، والتي توضع في غير محلها المعتاد لكنها تشتغل قرينة تنبه
القارئ وتدعوه إلى تأمل ما تقوله
الشخصية، واتخاذ مسافة منه ، وذلك ما تفي به علامة الاستفهام والتعجب والمزوجتين . يقول توفيق الصادقي " أخشى أن
تتغير الأحوال بسرعة قبل أن أبلغ المكانة البارزة
في الجهاز الكبير الذي يسير شؤون البلاد ويضفي الهيبة والجدية من خلال
التنظيمات العصرية التي أرست دعائمها الحماية ؟ " يفترض أن تختم الجملة بنقطة،
لكننا نجد مكانها علامة استفهام. ووفي ملفوظ آخر يقول توفيق إن فرنسا هي "
المنارة التي ستخلص بلاده من عقايبل القرون الوسطى وتدفعها لاستقبال أنوار القرن
العشرين ! "[19] فبدل
النقطة هناك علامة التعجب. وتتكرر الحلات
التي يوضع فيها كلام الشخصية بين مزدوجيتن أو قوسين أوغيرهما. .فالشخصية تتكلم
وتفكر دون أن يقاطع كلامها. لكن هذا
المحفل الخفي يستنكر ويستهجن المواقف عبرعلامة التعجب و الاستفهام والمزدوجتين التي تشي بمعنى إضافي ، أو إضاءة مغايرة تترجم
الاستنكار والاستهجان والتحفظ إزاء ما تقوله الشخصية .
تقول الرواية أشياء كثيرة لا يمكنني في مثل هذا المقام
ان ألم بها. ولكن ما أريد أن أنتهي به هي أنها تستعيد لحظات تاريخية يملأها القمع
والانتهازية والخيانة التي يشترك فيها الكل بدرجات متباينة .وتثير قضايا مختلفة
تهم الهوية ، والمرأة والجنس والصراع حول السلطة وانكسار الأحلام والقيم والتصدع
الذي أصاب الأحزاب اليسارية، بل الهوية المغربية الموزعة بين ظاهر وكينونة. تطرح
هذه القضايا من خلال منظور الشخصيات
المختلفة. فالرواية تتبنى دمقرطة السرد الذي تكتفي فيه الشخصيات بحكي ما تعرفه أو ما كانت شاهدة
عليه. هي محكيات مختلفة تأتي في أساليب متنوعة تختزل دور السارد الرئيس فيصبح صوتا إلى جانب الأصوات
الأخرى.
و كما تفكرالرواية في الواقع تفكر في شكلها . تقترح شكلا يقتضيه
معنى العالم الذي تحدثنا عنه. عالم متدهور لا تملك الحقيقة فيه وجودها. وهذا ما يحعل
السرد يختار شخصيات تبحث عن قيم مزيفة ، لتأتي الرواية تعبيرا عن خيبة أمل تجعل
السرد يتسرب في كثير من الأحيان عبر أفكار
الشخصيات ومشاعرها .كما نكون إزاء تعدد
صوتي تصدح خلاله مواقف ورؤى متباينة
ومتغيرة .
أنه نص يمور بالأسئلة
الفكرية التي تهم الهوية والتاريخ والزمن والقضايا الفنية، منها اللغة بايقاعاتها ومستوياتها
وبنائها وازدواجيتها وصورها المختلفة التي تجعل منها لغة حوارية .فضلا عن قضايا أخرى مثل الترقيم، والتناص وغيرها
من القضايا التي تستدعي دراسات أخرى إن شاء الله.
[1] المداخلة التي قدمتها
ضمن الندوة الدولية حول الكاتب وأشكال الالتزام أيام 21-22-23-ماي -2015 بكلية
الاداب أكادير
[3] انظر
Georges Lukacs : La théorie du roman. Gallimard 1989
Lucien Goldman : Pour une sociologie du roman, Paris, Gallimard, 1964
[4]René
Girard : Mensonge romantique et vérité romanesque, ed Bernard
Grasset1961
[5]هيدن وايت : "ميتافزيقا السردية .الزمان والرمز في
فلسفة التاريخ عند ريكور"،ضمن كتاب جماعي : الوجود والزمان والسرد.فلسفة
بول ريكور، ترجمة سعيد الغانمي .الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ،
1999ن، ص: 200
[6]Lucien
Goldman : Le dieu caché.Galimard, 1976.
[7] كيفن فانهوزر
اسلاف فلسفة ريكور انظر الوجود والمان والسرد مجموعة من المؤلفين ترجمة وتقديم سعيد الغانمي ص78_
[8] الرواية ص 47
[9] نفسه ص47
[10] نفسه ص
: 54
[11] الرواية ص54
[12] نفسه ص،150
[13] نفسه،
ص149،
[14] نفسه ، صن 129
[15] نفسه ،صن160
[16] نفسه ص، 205
[17] ما يفترض منطقيا في الشكل الروائي
[18] الرواية ن صن220
[19]الرواية ، ص 33