-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

مفاتيح الانعتاق في شعر مليكة العاصمي : د. سعيد العوادي

خاص بالمجلة
مفاتيح الانعتاق في شعر مليكة العاصمي : د. سعيد العوادي 
وجدت دوني الأقفال الصدئة
على قلوبكم
وجدتها
مصاريع الزمن
وجدت في طريقي أثرا
لأقدام الغزاة السابقين
لكن خطوتي طرية معطاء
تعد التجربة الشعرية للشاعرة المغربية مليكة العاصمي من العلامات الفارقة في تاريخ الإبداع النسائي، ليس على مستوى بلدها المغرب فحسب، بل كذلك على المستوى العربي.
ظلت العاصمي مخلصة للكتابة الشعرية منذ بدايات الستينيات من القرن الماضي إلى اليوم دون كلل أو نصب، على الرغم من انشغالاتها السياسية الكثيرة داخل مدينة مراكش أو خارجها في الرباط. وكيف لها أن تتوقف عن الإبداع الشعري وهو المتنفس الوحيد الذي تتجدد به الذات ويعيد إليها توازنها الوجودي بعدما أنهكتها براثن السياسة فملأتها بغائر الجراح وعميق الثقوب.
لا يفهم من المتنفس الشعري في تجربة العاصمي مجرد بوح يعنيها هي فقط، أو خربشات تكتب في لحظات الفراغ لتزجية الوقت. بقدر ما يجهر بتمكن كبير من أدوات الصناعة الشعرية أسلوبا ورؤية، مما يجعل لهذه المبدعة قدما راسخة في خارطة الشعر العربي الحداثي.
ومن هذا المنطلق، لم ينحصر إنجازها الشعري في قالب واحد مكرور، إذ سعت في كل ديوان جديد أن تطل على قارئها بنفس إبداعي متجدد يرتقي في سلم الشعر من الخَطابية الزاعقة أو الغنائية الهائمة إلى الحوارية المنتجة والدرامية الصراعية. إن المراقب لتجربة العاصمي الشعرية لا يسعه إلا أن يرصد السفر السندبادي لهذه المبدعة من أجل الوصول إلى عاصمة الشعر.
وقد أثمر هذا السفر والتجوال عددا من الدواوين الشعرية جمعتها وزارة الثقافة المغربية في أعمال كاملة وصلت مساحتها إلى ستمائة وأربعين صفحة، ضمت خمسة دواوين وهي: "كتابات خارج أسوار العالم (1987)" و "أصوات حنجرة ميتة (1988)" و "شيء... له أسماء (1997)" و "دماء الشمس وبورتريهات لأسماء مؤجلة (2001)" و "كتاب العصف (2008)". كما توزعت فيها مجموعة من التقديمات النقدية والاحتفائية والتعريفية التي أضاءت جوانب مختلفة من التجربة الشعرية لمليكة العاصمي، وصدرت عن أساتذة ونقاد هم: محمد الأديب ونجيب العوفي ومحمد الصباغ ومحمد السرغيني وإدريس الناقوري وعبد الكريم غلاب وصبري حافظ.
1/ مليكة العاصمي: امرأة الصفوف الأولى
لم ترض مليكة العاصمي بالعيش في ظل الهامش كما فعلت نساء كثيرات من جيلها وغير جيلها، بل سعت جاهدة إلى أن تتقدم صوب حَرّ المركز الحارق إلى أن وصلت إلى صفوفه الأمامية معبرة عن صوتها الأنثوي ومدافعة عن القضايا النسائية ومنخرطة في المسؤوليات السياسية والتدبيرية. ونحن ندرك صعوبة هذا التقدم على الرجل، فما بالك بالمرأة التي تعيش في كنف مجتمع أبيسي ذكوري له عقدة وجودية مع الفكر المؤنث.
وبإصرار هذه المرأة المناضلة على الخروج من مناطق الظلام إلى منطقة الضوء كان لزاما أن تتعرض لمضايقات عديدة من سدنة الفكر الذكوري وصلت إلى حد التجسس على عوالم شعرها والمطابقة المرآوية الساذجة بين الصورة التخييلية التحررية المعبر عنها في خطاب الشعر والصورة الحقيقية المتجلية في الواقع الحياتي، مستفيدين من بؤس النقد وتفشي الجهل والأمية للمرادفة الغبية بين الشِّعر والشَّعر.
على الرغم من هذه المضايقات اللاذعة اعتصمت العاصمي بالصبر وبعد النظر إلى أن حققت رصيدا مهما من الأهداف تعاضد مع رصيد مناضلين آخرين ومناضلات أخريات فكان عاملا مساعدا على تغيير وجه المغرب من وجه تقليدي أغبر إلى وجه حداثي مشرق.
إن وصف هذه المرأة المناضلة بـ "امرأة الصفوف الأولى" هو وصف موضوعي لا صلة له بالمجاملات أو التحذلق اللغوي. وسنلمع إلى بعض ما يدل على أنها كانت في الصفوف الأولى في الحركة الثقافية والسياسية المغربية[1]:
·       أول امرأة تصدر جريدة.
·       أول امرأة تدرس بالجامعة.
·       أول امرأة تقدم مشروعا لتعديل مدونة الأحوال الشخصية.
·       أول امرأة متميزة بحركيتها الثقافية والسياسية لسنة 2000.
·       أول امرأة تكتب الشعر الحداثي.
كما أنها كانت مرشحة لتكون في مواقع أخرى أولى كالوزارة وقيادة الحزب، لكن المتربصين بها لم يستهويهم هذا التقدم الكاسح فأقاموا أمامها العوائق والمطبات.
والأكيد أن وجودها في الصفوف الأمامية في مواقع مختلفة سيكون له بالغ الأثر في بناء شخصية متميزة حنّكتها التجارب المختلفة، فتوضحت لها الرؤية وتعمقت لها الرؤى مما سيؤهل خطابها الشعري للاصطباغ بأصباغ لافتة للانتباه، كما سينبئ عن شكل جديد في الكتابة النسائية.
2/ مليكة العاصمي: شاعرة النضال الناعم
اتخذت موضوعة القضايا المجتمعية والسياسية وطنيا وعربيا مساحة دلالية بارزة في الخطاب الشعري لمليكة العاصمي؛ لأنها بمثابة هم تعيشه في حياتها السياسية اليومية. ويأتي الشعر ليكون وسيلة أخرى للنضال الناعم القائم على لغة الشعر الشفيفة القادرة على التعرية الساخرة لتناقضات الواقع المرير ورصد رايات العصر القاتم التي تعلو بمفاهيم القذارة والغثيان والتشيؤ والاستلاب والكراهية...
والجميل في هذه التجربة الشعرية أن العاصمي لم تنحصر عند رصد الظواهر المختلة ووصفها كما نجد ذلك عند شعراء آخرين ممن تحوّل شعرهم إلى بكائيات جديدة أو مرثيات معاصرة. بل إن الشاعرة سعت إلى اقتراح بعض الحلول الممكنة للخروج من هذا العالم الآسن إلى عالم أكثر إنسانية..ولسان حالها يقول مع الشاعر المغربي الكبير محمد بنطلحة[2]:
أنا من هرقت فوق الأرض
قارورة المعنى
وبقراءتنا للأعمال الكاملة للشاعرة ألفينا أن كل ديوان يقدم حلا جديدا بطريقة صريحة أو ضمنية؛ وهو ما اصطلحنا عليه بمفاتيح الانعتاق[3]. وسنعمل على رصد هذه المفاتيح التي تقترحها الدواوين الخمسة.
2-1/ مفتاح اليقظة وديوان "كتابات خارج أسوار العالم":
يعري هذا الديوان العالمَ الموبوء الذي تحول فيه الإنسان الضعيف إلى عبد خانع داخل زنزانة ذات أسوار ضاغطة، فـ"هناك دائما سيد مادام هناك عبد"[4] كما تقول العاصمي.
وعلى الشعر أن يضطلع بمهمته كاملة في كسر جدار الصمت وإعلاء صوت الحق مجلجلا في الأعالي لإنقاذ الإنسان من هذا الجبروت والطغيان الملتبس بأكثر من وجه وقناع. لكن الذات الشاعرة لن تجد السبيل سالكا مفروشا بالورود، والأرصفة ملأى بالجموع المرحّبة. وإنما على العكس من ذلك ستجد أمامها الجدار السميك المنتصب. ولذلك عنونت أول قصيدة في الديوان بـ"الجدار" دلالة على العوائق المادية والرمزية التي تتفنن في صناعتها قوى الظلام.
إن الشاعرة المناضلة هي ملاّح يواجه جسارة الأمواج وضراوة الرياح التي تصده عن التقدم والحركة. تقول الشاعرة[5]:
أبحرت في عيونكم أنا
ملاح هذي اللجة التعيسْ
يواجه الأمواج في ضراوة الرياحْ
وجدت البحر مُربدا عبوسْ
ولأن كل تغيير للسائد والمألوف لا يبدأ بمواجهته قبل ضبط مفاصله الكبرى وجزئياته الصغرى، فإن الشاعرة تقترح مفتاح اليقظة للانتقال من الرؤية الضبابية إلى الرؤية الواضحة، ضبطا لمكامن الخلل ومواطن القوة. تقول[6]:
من قال بأن الراحة في النوم
ألا أخبركم: "أن الراحة في اليقظة
حين نُفَتّح أعيننا ونصارع هذا العالم
حتى نبتز اللذة
حين نخوض بأحشاء الأرض، ونحتال
على الجدران وعتبات الأرصفة العمياء
لكي لا تصدمنا
تثور الشاعرة على ما تعارفت عليه الجماعة في أن الراحة في النوم، مُرجعة الراحة إلى نقيض النوم وهو اليقظة. ثم ينصرف الديوان إلى رصد جملة من المظاهر التي يجب ضبطها وفهم كنهها الذي يخفى على الكثيرين؛ لأنه يتزيا بأزياء براقة تخفي مكنوناته الحقيقية.
من هذه المظاهر "داء التحامر" الذي يعد "وباء" لم يلتفت إليه الطب أو علم الأوبئة، ينتقل من السادة إلى العبيد فيقتل الوجود الإنساني . تقول العاصمي[7]:
الحيوانُ من فصيلة الحمير
يجلس في الأريكة الكبرى
لكي يحاضر الرعاعْ
وينهقَ الشعارات الكبارْ
الداء ينتشرْ
داء التحامرْ
ينفثه المريض في النهيقْ
أعراضه: أن يتبلّد الإحساسْ،
ثم تموت النظرة الحنونه
وتستطيل الآذانْ
وينبت  الشَّعر على الجلودْ،
ثم يصير الشخص من فصيلة الحميرْ، يليق للركوبْ،
يحمل أثقال السادة الكبارْ،
يظل خانعا، وظهره مطية للآخرينْ،
وينقل التراب والحجرْ،
والجير والمتاعْ،
لأن قصر السيد المطاعْ
يحلم أن يغالب القلاعْ
كما تلفت العاصمي الانتباه إلى مظهر آخر يعيشه الإنسان الحديث؛ وهو بمثابة استعارة تصورية كبرى باصطلاح اللسانيات المعرفية: "الحياة زنزانة" لا غير، تسجن الحشود الكثيرة وترمي بها في الضيق والظلام والاختناق[8]:
زنزانة الحياة ضاقتْ
أظلمتْ
التعبُ المزري يموت في أوصالنا
ننام مصلوبينْ
نعيش مصلوبين في قوائم الجدارْ
نموت مصلوبينْ
ثقبٌ وحيد في زنازن الأيتامْ
يطمسه السجانْ
كما يريد أوصياؤنا اللئامْ
إلهنا الكبيرْ
ها آدمٌ،
أبونا..
يختنقْ..
ومن مظاهر اليقظة أيضا عند الشاعرة أن "قتامة الإنسان من قتامة الحياة". فالتعاسة التي تعيشها الشاعرة ويعيشها الإنسان المعاصر عموما آتية من الواقع الهش المقيد بالجهل والفقر والانحراف والغباء. تقول[9]:
قتامتي اكتسبتها من الحياة القاتمه
من جوع حارتي التي تعيش بالغُصصْ
من الصغار البؤساء يقتاتون بـ(المُخاطْ)
قتامتي
من دَكنة الحياة في كهوف الفقراءْ
2-2/ مفتاح المحبة وديوان "أصوات حنجرة ميتة":
يشكل هذا الديوان الثاني منعطفا جديدا في التجربة الشعرية للعاصمي، إذ يتخفف من البعد الخطابي ويغلب عليه طابع الهمس والغنائية. لذلك يحضر فيه مفتاح المحبة، وتصغي فيه الذات الشاعرة إلى نبضها الداخلي فرحة تارة وحزينة أخرى.
تقترح الشاعرة مفتاحا جديدا للانعتاق من القسوة واللإنسانية التي تلف العالم. ودليل ذلك أنها تفتتح ديوانها بأربعة أسطر شعرية هي:
وألهبَ السياط ظهري
ثم صحت:
"حب"
وجدتُ نفسي في النعيم
وقد كانت قد ختمت بهذه الأسطر آخر قصيدة في الديوان، والتي عنونتها عنوانا دالا فيما نحن بصدد التدليل عليه وهو "المحبة: كلمة السر".
يأتي الحب هنا ترياقا صوفيا تعود أصوله إلى الحلاج والسهروردي وغيرهما من الصوفيين الذين شددوا على مركزية المحبة في صياغة الوجود الإنساني. وعندما تغيب المحبة في أشكالها المختلفة تغدو أصواتنا نابعة من حنجرة ميتة. فكلما ماتت المحبة في دواخل الإنسان مات الإنسان نفسه وفقد وجوده الخلاق.
بغياب الحب عن عالمنا، يتفشى السأم والملل وتغدو علاقاتنا المختلفة من غير معنى. تقول الشاعرة[10]:
تفضلْ، فقد أتعبتني الحياةْ
وهدَّت بنفسي صدى الكبرياءْ
تراخى صمودي، ملَلت العلاقاتِ
عِفت الصداقات والأصدقاءْ
بل إن غيابه عن مؤسسة الزواج، يجعل الباب مشرعا أمام الأحزان التي تنهش الزوجين والأطفال جميعا[11]:
تتقززينْ
لأن يلامس جسمك الغض الصغيرْ
من في خريف الأربعينْ
وتُقَبِّلين بثغرك المزمومِ
ينسكب المطر
يسري إليكِ وتشربيني
من أجل هذا تكرهيني
وإذا زار الحب فإن زيارته شحيحة سرعان ما تعيد الذات إلى سابق أزماتها، بل ربما ضاعفت من انتكاساتها[12]:
حبكَ حمّى
حبكَ حمّى يا صديق
كلما
غدا يدِّب في شراييني انتعاشْ
تزورني فأنتكسْ
ثم أعود بانتكاسي للفراشْ
وفي ظل تبخر الحب من واقعنا المعيش، لا نملك حيال ذلك سوى استرجاعه عن طريق الحلم[13]:
حلمتُ يا صديقي بك ضاغطا يدي
منحنيا على الفراشْ
مكثتَ ساعة من قبل أن تضيعْ
تخلّفت عن الركب وعدت كي تمد لي
يدكْ
دفنتَ كفي بجناحي أرضك الطيبة
المكهربه
2-3/ مفتاح الإبداع وديوان "شيء... له أسماء":
تطل علينا مليكة العاصمي من خلال هذا الديوان الثالث بنفس شعري راسخ ترفده بمقومات أسلوبية جديدة مثل التكرار والاستفهام والكاليغرافية، وبمقومات تناصية لم نعهدها في الديوانين السالفين من قبيل التناصات القرآنية في قصيدتي "زلزلة على قرن الثور" و"مريم"، والتناصات الشعرية في قصيدة "مريم"، وتناصات الثقافة الشعبية في "مدائن عاد/ مدائن ثمود".
وبالنظر إلى تطور المقومات الشعرية في هذا الديوان، فإن مفتاح الانعتاق الذي عودتنا الشاعرة على التصريح به فيما مضى توارى بين الأسطر الشعرية وبدا البحث عنه فيما يشبه بحثا داخل متاهة لا قرار لها.
لم يعد المفتاح متجليا في موضع ما من الديوان، وإنما أصبح متحللا في الديوان بأسره؛ أي غدا الديوان هو المفتاح والمفتاح هو الديوان. فمفتاح الإبداع ( تتحقق به المرأة بعدما عانت من التجربتين الفردية الخاصة، والاجتماعية العامة في الديوانين السابقين، دون أن تتحقق. فهذا الديوان هو ديوان تحققها على مستوى من المستويات ، ليس التحقق بالشعر إلا أحدها فحسب)[14].
قد يدل العنوان "شيء ... له أسماء" على الإبداع الشعري، وقد يقوي ترجيحنا أن أول قصيدة في الديوان جاءت بعنوان "إبداع"؛ إذ يرتقي هذا الأخير بالذات الشاعرة من حالة الحزن والألم والتشاؤم إلى حالة التوهج والبوح والانعتاق[15]:
أتموج
 كالبحر المتلاطم
عند المد
وتتلاحق أنوائي
عارمة
ويشعشع نوري
أتألق
كالبرق الراكض
من خلف الغيمهْ
أتوهج
كالمشكاة بنور الله
وأمعن في غيّي
أتربع
سيدة الإبداع
على نهد النجمة
يكتمل جنوني وفنوني
باكتمال الفنون والجنون لسيدة الإبداع، تخترق الذات المبدعة الآفاق غير آبهة بمصيرها، ويجلي ذلك قصيدتها "ديوان الأقانيم"؛ حيث تتجمع في ذاتها أقانيم ثلاثة مخصوصة، وهي: أقنوم الدخان وأقنوم الرعد وأقنوم البارجة[16].
فمن خلال الأقنوم الأول يظهر عبورها لعالم البَّر، فتستحيل إلى دخان بعدما قهرتها شعلتها حارقة[17]:
وأطاردهن الرياح
لتطفين ناري
فتتركنني
جسدا
من
دخانْ
وعبر الأقنوم الثاني تخترق عالم السماء، فتتحول إلى نثار هواء من هول الارتجاج مع الأجرام الصلدة[18]:
يزمجر
رعدي
أتصدع
من هول الصدمة بين الأجرام
صاعقةً
أتقصّفُ
وبوساطة الأقنوم الثالث تمخر عباب عالم البحر[19]:
أُسرِج
سفني
وبوارجي الحربية
في وجه الأمواج
وأدخل
معمعة الطوفانِ
لكنها تتفسخ في الأخير. . مما يدل على أن أقانيم الإبداع تحمل قوة هائلة، بقدر ما تستطيع اختراق العوالم فهي تفجر الذات الحاملة لها كذلك. وهذا يذكرنا بأولئك الذين شبهوا الإبداع بالشمعة التي تحترق من أجل إنارة المكان للآخرين.
2-4/ مفتاح الصبر وديوان "دماء الشمس":
يتابع الديوان الرابع مسيرة الارتقاء في سلم الشعر. وكأن العاصمي تردد مع الحطيئة ملك الهجاء: الشعر صعب وطويل سلمه.
يضيف ديوان "دماء الشمس" جرعة جمالية جديدة إلى الدواوين السابقة، حيث تضاعف اللغة الشعرية من مخزونها التخييلي والتناصي، فيتقوى حضور القناع الحيواني في قصيدة "بورتريهات لأسماء مؤجلة" ليكون معادلا موضوعيا لأشياء كثيرة. فقناع الكلب يرمز إلى كل خانع وعبد[20]:
الكلبُ
يمارس طقسَ قبيلته:
يلعق
كاحل صاحبه
وقناع الثعبان يرمز للغاويات والغاويين[21]:
ملمسهم
 أملسْ
ألوانهم مزركشهْ
أشكالهم
تغوي بخفة في الرقصْ
حين يزغردونْ
يغرِّرونْ
وحين يرقصونْ
تضرب صعقة الموتْ
وقد حققت قصيدة "نوار الشمس" منسوبا تخييليا عاليا، فكانت قناعا بالغ الروعة للذات الشاعرة في التعبير عن مكنونات الأنوثة المبدعة[22]:
منذ تفتّح فلَق الإصباح تفتّحتُ
وفجّرني خيط ذهبي غازلني
وتبرعم في نوارتي الصفراءْ
فتّحتُ بذوري
نواياتي ونذوري
يختفي مرة أخرى مفتاح الانعتاق عن القارئ، لكن القراءة الفاحصة من شأنها أن تلتقطه عبر مشيرات دلالية وأسلوبية في الديوان. إنه مفتاح الصبر؛ لأن الانعتاق ليس بالأمر الهين، فهو مفتقر إلى الصبر والتجلد. وفي قصيدة "انتظار" الدالة بعنوانها دعوة إلى الصبر[23]:
غنّتْ مجاهل روحكَ
اصغِ إليها
وكن صابرا يا فتى الوجدِ
ولا تبتئسْ
وتجلّد قليلا ليوم المناحةِ
وكيف لا يكون الشاعر صبورا محكوما بالانتظار وهو "مكافح" صاحب رسالة تغييرية خطيرة[24]:
مددت كفِّي
لأصيد الماءَ
في سمائهِ
من قبل
أن تسحبه المُزنةُ

 إلا أن رسالة الشاعر لا تعجب حُراس السائد والمألوف، فيغدو الشاعر عندهم هدفا للإبادة والقتل. تقول العاصمي[25]:
وأنا مطلوبٌ حيّا
مرصودٌ
هدف للقناصينْ
وسهامِ الجهلاءْ
وفتاوى الحكماءْ
ورغم كل المحاولات القذرة التي تريد النيل من الشاعر ورسالته الحضارية، سيبقى الشعر متشحا بالصبر لكي يؤثر في الآخرين، وستبقى رسالة الشاعر في حياته كما في مماته قادرة على البعث والتحويل وتدمير قوى الظلم المتربصة[26]:
الشعر رداؤكَ
حين تفيض بك الروحُ
إلى بارئها
ستجندل أعداءكَ
بالصمت القاتلِ
واللغة المقتولةِ
تحت أصابعكَ
ستحفرها كالوشمِ
على خرطوم السفلهْ
وستجدع أنف أبي الهولْ
2-5/ مفتاح الأمل وديوان "كتاب العصف":
يعد ديوان "كتاب العصف" آخر الدواوين التي جمعتها الأعمال الكاملة للشاعرة مليكة العاصمي، وقد ضم في جنباته توليفة من التقنيات الجمالية والرؤى الشعرية التي تحصلت في الدواوين الأربعة. وأضاف إليها الاحتفاء بالمكان من خلال شعرية تتجاوز الوصف البارد الذي تطفو فيه المكونات المكانية نحو السطح مثل بقع زيتية تعلو صفاء الماء إلى كتابة تستقطر الدلالات وتستخلص المعاني عبر تفاعل الذات مع المكان. وقد كان هذا ديدن الشاعرة مع مدينتي مراكش وطنجة. ويكفي أن نمثل لشعرية المكان عند العاصمي بمقطع من قصيدة تحمل اسم مدينتها "مراكش"[27]:
تخرجينَ من الليل مثل اليواقيت والجِنّياتْ
أنتِ مثل الصبايا الخرائدِ
تستترين بما تزدهي به أعطافك المثقلاتُ
بنضج التسابيح
بالمُهج الراقصات على رعشة اسمكِ
حين تراودها همهمات المريدين والمولهينْ
أو يرتلها الواقفون ببابكِ
وِرْداً
لقد عودتنا الشاعرة في دواوينها الأخيرة أن تخبئ المفتاح، وهكذا الحال مع مفتاح الأمل الذي انزلق إلى دهاليز القصيد، فألفينا بعض الإشارات المنبئة عن وجوده نحو قول الشاعرة في أول قصيدة من الديوان[28]:
ونحن في انتظارهمْ
نعالج الآمالَ والقصائدَ المنفعلةِ
يقتلنا الوقتُ المقيت ساعةً
نقتله لحظةً
رغم صرخات الشاعرة وتأوهاتها في الديوان، فإن بصيص الأمل كان حاضرا ومضيئا كالحباحب في ظلمة الليل؛ أو كما قالت الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون[29]:
الأمل مخلوق له ريش
روح سامية علوية
تغني اللحن بلا كلمات
الأملُ
ذاك الذي أبقى الكثيرين منا
مبتهجين
الأملُ
أنا سمعته في الأرض المملة
وعلى ذاك البحر الغريب
إن الأمل حاضر فينا رغم أنف الأرض المملة والبحر الغريب. يأخذ أشكالا كثيرة  لعل من ألطفها الجنون الساخر[30]:
أقفزُ فوق الشهب مع الجني المتقافزِ
في رأسي
وأطير مع الطيرِ
وأفتن خَلق اللهْ
أصفع هذا
أنتف هذا
أقمش هذا

سعت هذه القراءة للأعمال الكاملة للشاعرة المبدعة مليكة العاصمي وعلى مدار خمسة دواوين رائقة ومونقة في أن تتبع  ما تقترحه الشاعرة من مفاتيح للانعتاق والخلاص من هذا العالم المريض. فلم يتجه هذا الانعتاق صوب الهروب أو الانكفاء على الذات، بقدر ما اتجه نحو المواجهة البناءة المؤمنة بالتغيير.
فرضت الطبيعة الشعرية التلميحية والموارِبة أن تتوارى أغلب هذه المفاتيح في سراديب الشعر ودهاليزه، متمنعة عن الخروج، مشترطة على قارئها ترويض القصيد والصبر على الجفول والجموح. وقد حاولنا أن نروض وأن نصبر، فمنحنا القصيد مفتاحا واحدا لكل ديوان، فكان الغنم خمسة مفاتيح هي: اليقظة والمحبة والإبداع والصبر والأمل.
إنها مفاتيح النضال الناعم الذي تقترحه الشاعرة الأنثى متقاطعة مع كبار الفلاسفة والمتصوفة، دون أن تضحي بماء الشعر الذي ظل متدفقا رقراقا في جداول الدواوين الخمسة. بل إن العاصمي قد كانت في كل مرة تتجه صوب عاصمة الشعر متجولة في أرجائها وبساتينها، حتى حق له أن تُتوج سيدة للإبداع كما باحت في قصيدتها "إبداع"
سيرة ذاتية مختصرة
·      الدكتور سعيد العوادي.
·      أستاذ البلاغة و تحليل الخطاب، بكلية اللغة العربية-جامعة القرويين/المملكة المغربية.
·      عضو مركز "تنمية اللغة العربية".
·      مدير المؤتمر الدولي : "التفكير النحوي و البلاغي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للبيضاوي.
·      شارك في عدد من الملتقيات العلمية المهتمة بتحليل الخطاب في المغرب وخارجه.
·      العنوان المهني:كلية اللغة العربية ، ص ب 1483 ، مراكش ، المغرب .
·      العنوان الإلكتروني : balaghat.1976@gmail.com
·      الهاتف: 212615707200
·      من أعماله :
-     الفردية :
-     حركية البديع في الخطاب الشعري: من التحسين إلى التكوين. وصل إلى اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد لهذه السنة.
-     أسئلة البديع :عودة إلى النصوص البلاغية الأولى.
-     الصورة البلاغية :قراءة حجاجية لعلم البيان/قيد النشر.
-     الجماعية :
-     الحِجاج و الاستدلال الحجاجي : البلاغة الجديدة.
-     المغايرة في الكتابة المغربية الجديدة.

-     الحِجاج مفهومه و مجالاته /تأليف جماعي/الطبعة الثانية المحكمة.



[1] - استقينا هذه المعلومات من تقديم محمد الأديب، الأعمال الشعرية الكاملة: مليكة العاصمي، منشورات وزارة الثقافة المغربية، ط1، 2009، صص 11-22.
[2] - ديوان "قليلا أكثر"، دار الثقافة، ط1، 2007، ص 22.
[3] - أشار الناقد صبري حافظ إلى مفتاحين سماهما "سِرَّين" في قراءته العميقة للديوانين الثاني والثالث، ينظر "تحولات التجربة الشعرية"، الأعمال الكاملة، ص 400.
[4] - مقدمة الديوان، ص47.
[5] - قصيدة "الجدار"، ص 53.
[6] - قصيدة "الفرحة خارج القلب"، ص 71.
[7] - قصيدة "الوباء"، صص 78-80.
[8] - قصيدة "الاستسلام"، صص 84-85.
[9] - قصيدة "تعاسة"، ص 86.
[10] - قصيدة "سأم"، ص 215.
[11] - قصيدة "الشنق في مواسم الفرح"، ص 220.
[12] - قصيدة "الانتكاس"، ص 189.
[13] - قصيدة "الحمى في القلب والرأس"، ص 170.
[14] - تحولات التجربة الشعرية، صبري حافظ، ص 400  .
[15] - قصيدة "إبداع"، صص 244-245.
[16] - سفينة حربية ضارية.
[17] - قصيدة "ديوان الأقانيم"، ص 294.
[18] - القصيدة نفسها، ص 295.
[19] - القصيدة نفسها، صص 298-299.
[20] - قصيدة "بورتريهات لأسماء مؤجلة"، ص 494.
[21] - القصيدة نفسها، صص 500-501.
[22] - قصيدة "نوار الشمس"، ص 482.
[23] - قصيدة "انتظار"، ص 469.
[24] - قصيدة "كفاح"، ص 450.
[25] - قصيدة "طائر النار"، ص 439.
[26] - قصيدة "الخرطوم"، صص 440-441.
[27] - ص 579.
[28] - قصيدة "مقصلة"، صص 517-518.
[29] - قصيدة "الأمل مخلوق له ريش"، ترجمة: محمد الأزهري، من أرشيف مجلة الرافد الإلكتروني.
[30] - قصيدة "جنون"، ص 571.

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا