هكذا هبت رياح الحداثة على المغرب...من بوابة طنجة. محمد أديب السلاوي
-1-
لربما تكون مدينة طنجة، بموقعها الحضاري / التاريخي
/ الجغرافي، المطل على القارة الأوروبية، من
الأسباب التي جعلتها، من أكثر المدن المغربية استيعابا لمفاهيم
"الحداثة"
وتقاربا مع قيمها الثقافية والفنية والاجتماعية...والحضارية عامة.
على فضاء هذه المدينة، التي استقطبت مبكرا أفواجا
من الأدباء والفنانين والسياسيين والتجار والمقاولين الغربيين / أوربيين وأمريكيين،
ظهرت العلامات الأولى لقيم الحداثة ومفاهيمها كما هي في العالم الحديث، إذ سبقت بذلك
كل المدن العتيقة بالمغرب الراهن.
على فضاء هذه المدينة، تم ظهور أول جريدة ورقية
مغربية (سنة 1907)، وتم ظهور أول فنان تشكيلي مغربي / محمد بن علي الرباطي (سنة
1908)، وتم تشييد أول مسرح حديث بالمغرب / مسرح سيرفانطس (سنة 1913) وتم تأسيس أول
فريق رياضي مغربي لكرة القدم ( سنة 1914) وأول قاعة للعرض التشكيلي (سنة 1917).
وعلى فضاء هذه المدينة، تم تأسيس أول فندق مصنف بالمغرب، وأول مقهى مصنفة،
وأول حانة مصنفة بالمغرب أيضا.
وعلى فضاء هذه المدينة، تم تشييد أولى المؤسسات
البنكية المغربية والدولية، وأولى الشركات التجارية والصناعية والسياحية وعلى فضائها
أيضا تم فتح أولى سفارات العالم الحديث بالمغرب،
وأولى مؤسسات التواصل والبريد بالمغرب نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين.
وثقافيا، لا يمكن أن ننسى أن مدينة طنجة هي المدينة
الأولى بالمغرب التي عرفت إذاعة حرة / (إذاعة طنجة). وهي الأولى التي أعطتنا
"رواية" عالمية / رواية الخبز الحافي لمحمد شكري، التي استقطبت القراء والمترجمين
من حوالي أربعين دولة.
-2-
هكذا شكلت مدينة طنجة مدخلا أساسيا للحداثة بالمغرب
الجديد، ليس فقط لأنها استقطبت قامات إبداعية / ثقافية غربية في نهاية القرن التاسع
عشر، و مطلع القرن العشرين، ولكن أيضا لأنها فتحت ذراعيها على المدارس والاتجاهات والمفاهيم
الثقافية الحديثة، التي وضعت مدينة طنجة، في موقع ريادي / لا يمكن الاختلاف حوله.
لذلك سيكون من السهل على الباحث / الملاحظ، لمس
التطورات التي عرفتها هذه المدينة ،خلال هذه الفترة من التاريخ وهو ما يوازي من حيث
قيمته، الانعكاسات التي تحكمت في تحديد هوية هذه المدينة، وشخصيتها ورؤاها الاجتماعية،
ونعني بذلك التطورات الاقتصادية والسياسية التي برزت انعكاساتها، على الإنتاج في فضاءات
جديدة / حداثية بمفاهيم وأشكال جديدة، والذي عكست بسرعة وقوة أساليب مغايرة لأنماط
الحياة في مغرب القرن العشرين، كما عكست موقعها من وضع المغرب الجديد على الخريطة الإنسانية.
لا نستطيع أن ننفي هنا، الدور الإيجابي الذي لعبه
الفنانون والأدباء والسياسيون والإعلاميون الغربيون، الذين اتخذوا من عاصمة البوغاز
/ طنجة موقعا لهم حتى قبل أن تتحول إلى عاصمة للسياحة، شمال المغرب سواء من حيث تنشيط
الحركة الثقافية الحديثة، أو من خلال إعداد أجيال جديدة من الأدباء والفنانين المغاربة،
مدمجين في مناهج الحداثة وأساليبها العولمية، أو من حيث إذكاء تجاربهم الإبداعية، وإعطائها
وجها جديدا ومشرقا محليا وعالميا.
إن رائد الفن التشكيلي الحديث، محمد بن علي الرباطي
( 1861-1939) كرائد الرواية المغربية الحديثة محمد شكري ( 1935-2003 ) لا يشكلون فقط
أسماء عابرة في تاريخنا الثقافي، إنهم مؤسسون لثقافة جديدة / وضعوا المغرب على قائمة
الحداثة في المجال الثقافي بالعالم الحديث.
ولاشك، إن حتمية الأخذ والعطاء، كما تحكمت في الفكر
والأدب والعلوم الإنسانية خلال هذه الفترة الحالكة من التاريخ بمدينة طنجة، تحكمت في
الصناعة والتجارة والسياحة...وفي الإبداعات البصرية واللغوية، التي ازدادت على أرض
هذه المدينة العتيقة، بل أن هذه الإبداعات والصنائع هي متعددة ومتنوعة وذات مرجعيات
وطنية وعالمية، مختلفة / متداخلة ومتشابكة، كانت المحور الأساسي لكل أخذ ولكل عطاء،
على فضاءاتها.
إن الحركية المتطورة للثقافة والفنون والصناعة والتجارة،
المتمثلة فيما احتضنته مدينة طنجة، خلال العقود العشرة الماضية، من إبداعات ومبدعين،
من صناعات وصناعيين وحرفيين، مرت / تمر بمرحلة غنية، بما تحفل به من أسماء ومدارس واتجاهات
وأساليب وقيم حضارية، حيث استطاعت في هذا الظرف التاريخي، التجدر في الطموحات، وفي
مختلف التناقضات التي عاشها / يعيشها المجتمع المغربي، قبل وبعد فترة الحماية، والانتقال
بهذه المدينة التاريخية من مجرد موقع حضري، إلى موقع حضاري، يساهم بفعالية في التغيير
والتنمية والتحديث والبناء القومي.
إن التطور الاجتماعي / الاقتصادي / السياسي / الثقافي
الذي عرفته مدينة طنجة خلال القرن الماضي، مع حلول البعثات الغربية التي حملتها رياح
الحماية خلال القرن المنصرم، قد غير كثيرا من الرؤى الجمالية في هذه المدينة، وانعكس
على الصناعة والتجارة والتعليم، كما انعكس على الثقافة والفنون البصرية، وعلى تطور
المفاهيم، مما جعل هذه المدينة تتكيف وتتفاعل مع الأنماط الجديدة للحياة الاقتصادية
والثقافية التي رافقت هذه البعثات، وهو ما أعطاها في نهاية المطاف منحى دلاليا له أكثر
من علاقة بقضية الوجود والكرامة والحرية، إذ انصبت خلال هذه الفترة من التاريخ، اهتمامات
العديد من المبدعين المغاربة بهذه المدينة على طرح أسئلة راهنية لتحديد الموقف االحضاري
على الخريطة الثقافية المغربية، بتناقضاتها وهمومها وتداخلاتها مع القضايا الثقافية
والحضارية الأخرى.
إن التأمل النقدي في التراكمات الحضارية التي حققتها
هذه المدينة، انطلاقا من نهاية القرن التاسع عشر، تعطي الانطباع أن البداية ، كانت
تهدف إلى استشراق المستقبل، ذلك لأن ما ميزها منذ بدايتها هو طابع الاستمرارية، وإبراز
الذات المغربية، التي كانت وما تزال تلح على سؤال الذاتية والهوية وتلك هي ميزتها الثقافية
بكل تأكيد.
مدينة طنجة بين الفن والرمز / بين الفن والخط / بين الفن والهندسة / بين
الفن والأدب / بينه وبين البيئة والتراث والحداثة الحضارية، لم تتجه فقط إلى نقلها
السياحي، ولكنها أيضا حاولت / تحاول إعطاء دورا جماليا / ثقافيا إلى هذه المدينة على
الساحة الثقافية.
-3-
إن ذلك لا يعني إطلاقا أن فعل الحداثة وجد مفرداته
هنا بمدينة طنجة، ولكنه بفعل الجذور الإنسية / الحضارية لهذه المدينة المتعددة الصفات،
أصبحت حداثتها تجسد الوعي واليقظة والتطلع إلى المستقبل، ومن ثمة أصبحت تسير جنبا إلى
جنب مع الحركات الحداثية العالمية القائمة، وهذا ما يجعلها جديرة بقراءة متأنية لمثنها
االحضاري والحداثي.
ولابد هنا من الإشارة، إلى أن الذاكرة الجماعية
وقوة المخيلة كانتا دائما وباستمرار، سمة هذه المدينة / سمة الأجيال المتلاحقة والمترابطة
على تاريخها، إلا أن جيل الشباب الذي برزت سماته مع الألفية الثالثة حاول / يحاول إعطاء
مدينة طنجة مفاهيم ومعاني نظرية متميزة بالتحرر من قيود التخلف والرجعية، ولكنها متأثرة
بالجذور الثقافية : الرموز / الأشكال الهندسية / القيم العربية والأمازيغية، في محاولة
جادة لإعطاء هذه المدينة شموليتها بأبعاد نفسية / اجتماعية / وتاريخية.
أفلا تنظرون...؟