يجري العديد من الكُتَّاب وراء النص المتسق والمتماسك
والمتين والمترابط والمُحْكَم؛ ذلك النص المبني على أكمل صورة تجعل أصواتهم به ترتفع
إلى أبعد مدى، فيحوزون
نصيبا من الإعجاب والاعتراف يمكنهم من الانتماء إلى أهل الفكر
والنظر. غير أن هناك كتابا آخرين يطاردون ما يلحم الأسافل بالأعالي، كما يقول ابن عربي،
فَيَرْكَبُون كلمات تُخْلَقُ خلقا جديدا في كل لحظة، ولا تُفصح عن أسرارها إلا لمن
أدرك شراب المعرفة واستطاع أن يصرف المعنى إلى أصل صورته. وهم لا يفعلون ذلك بتعمد
الترميز والاستغلاق، أو ضنّاً بما يقولون على من ليسوا أهلا له، كما يرى المتصوفة،
بل لأنهم غير معنيين بالمسرح البيكوني (نسبة إلى فرنسيس بيكون)، ولأنهم يدركون أن الإبداع
هو التمرد على الخطاطات السابقة، وعلى كل ما يجعل منهم مجرد نُسَّاخ يكررون إنتاج ما
سبق.
وبالعودة إلى تاريخ الأدب والفلسفات والديانات،
نستطيع أن ندرك بيسر أنه تاريخ خروج ومروق وعصيان، وأن هوة سحيقة تفصل بين هذا النص
المؤسس وذاك، وأن الإبداع هو ما يُخرج المعنى عن أصله، أو على الأقل ذلك الذي يكشف
ممكنات وصورا أخرى لهذا المعنى. أما الآله فهي قوة الخيال وتفرده، وعدم الالتزام بالاستعمالات
المشروحة والناضجة، والخلطات المجربة التي اطمأن إليها الشراح والمفسرون. وأما الغاية،
فهي الخوض في بحر زاخر لا ساحل له، علما بأن الثمن هو الألم الجامع لكل شيء.
فإذا أخذنا شارل بودلير، سندرك أنه كتب «أزهار الشر»
بسبب شعوره بالانسحاق تحت مطرقة الزمن. أما جورج باطاي، فيكتب لتأجيج جرح الحياة، والتوغل
بين الجسد واللغة. أليس هو القائل: «تترك المعرفة المرءَ، في نهاية المطاف أمام الفراغ.
في قمة المعرفة، لا أعود أعرف أي شيء على الإطلاق، إني أموت، وينتابني الدوار»؟
ويرى هايدغر أن الألم هو الاختلاف، ذلك أن «أولئك
الذين ندعوهم «كتابا»، إنما يتولونها (الكتابة) بالضبط لكونهم يجلسون في مكان اختلاف
مزدوج: يختلفون عن الناس، ويختلفون عن أنفسهم». بينما يذهب راسين إلى أن الكتابة هي
«إغماض العين للرسو في أمكنة أخرى: الألم والعوز والقلق». في حين يرى جون برون أن
«الكتابة فعلٌ غير عادي يطرأ في سياق «عادي». إنها انتهاكٌ، ألمٌ، وُقوفٌ في عتبة الوجود،
في الأصل. هي شرخٌ، ألمٌ، ولكنه ألم قدري، وإلا فمن أين لمن تلقى أمر الكتابة أن يمتنع
عن الامتثال؟».
وليس الألم عند هؤلاء (وغيرهم) مجرد حلم يجب تأويله
لفهم حقيقته. بل هو دليل على النص المتمرد، غير المتوقع، الواجب بذاته. النص الكثرة
الذي يمتد على سائر الممكنات السابقة فيعطيها وجودا آخر. النص المجرد عن النسب الذي
يتمتع بوجود مستقل، ومع ذلك فهو الواحد الذي تتفرع عنه الأعداد/ النصوص كلها (فيتاغوراس).
غير أن السؤال يبقى هو: هل يوجد نص لا تجتمع فيه النصوص السابقة عليه/ أضداده وأشباهه،
تبعا للدرس البليغ الذي يعلمنا إياه لويس بورخيس؟ ألا يحمل كل نص، مهما تمرَّدَ وتمدَّدَ
واشتطَّ وتسيَّد، أسباب نفيه وتجاوزه؟