مما لا شك فيه أن قارئ رواية "بعيدا
من الضوضاء، قريبا من السكات" للروائي
والناقد المغربي محمد برادة يلفت نظره منذ استهلال النص الحضورَ المكثف للوقائع والأحداث التاريخية التي عرفها المغرب أزيد من خمسين سنة. وهي عناصر تشكل لحمة المتخيل الروائي، وتعد عموده الأساس في بناء رؤية السارد لما جرى في مغرب القرن العشرين وما يجري في بداية الألفية الثانية، كما يستشرف مستقبله في الألفية الثالثة القادمة. فكيف يتشكل متخيل الرواية انطلاقا من استدعاء التاريخ وتوظيفِه في بناء العوالم السردية؟ وكيف يلتبس التاريخي بالروائي ليشكلا عالما فنيا متماسكا ينضح بالمتعة والفائدة؟
والناقد المغربي محمد برادة يلفت نظره منذ استهلال النص الحضورَ المكثف للوقائع والأحداث التاريخية التي عرفها المغرب أزيد من خمسين سنة. وهي عناصر تشكل لحمة المتخيل الروائي، وتعد عموده الأساس في بناء رؤية السارد لما جرى في مغرب القرن العشرين وما يجري في بداية الألفية الثانية، كما يستشرف مستقبله في الألفية الثالثة القادمة. فكيف يتشكل متخيل الرواية انطلاقا من استدعاء التاريخ وتوظيفِه في بناء العوالم السردية؟ وكيف يلتبس التاريخي بالروائي ليشكلا عالما فنيا متماسكا ينضح بالمتعة والفائدة؟
تنطلق الرواية من سرد "سيرة"
الراجي (مساعد المؤرخ، كما يطلق على نفسه)، الطالب العاطل عن العمل، الذي سيكون
لقاؤه بالمؤرخ الرحماني بداية تحول في حياته نحو الاهتمام بواقع الوطن وتجميع آراء
عينات من المثقفين والسياسيين والمهندسين والأطباء.. وغيرهم من الناس حول ماضي
المغرب وراهنه ومستقبله. وعن طريق انخراطه في مساعدة المؤرخ الرحماني والقيام
بالمهمة التي أسندها إليه، سيتمكن من ربط علاقات اجتماعية متنوعة ومتعددة، ومن
الاستماع إلى وقائع وأحداث تتعلق بحيوات أولئك الذين عرفهم وعايشهم. ومن ثم،
سيدفعه كل هذا نحو التفكير في كتابة رواية تشمل "حقائق" ووجهات نظر لا
تتطابق، ضرورة، مع الإجابات التي أدلت بها تلك الشخصيات ردا على أسئلة الرحماني
الثلاثة:
1-ماذا
تعني مقاومة الاستعمار وما الذي كنت تنتظره من الاستقلال؟
2-كيف
ترى أن الأزمة تعبر عن نفسها الآن من خلال الواقع اليومي؟
3-هل
نتوفر على الشروط الضرورية للانخراط في الألفية الثالثة؟
لا نعثر، في النص الروائي، على
إجابات مباشرة عن هذه الأسئلة الثلاثة التي طرحها الرحماني على من استجوبهم
الراجي، ولكن ما تسرده كل شخصية من الشخصيات الثلاث الأساس في الرواية: توفيق
الصادقي، وفالح الحمزاوي، ونبيهة سمعان تجيب عن هذه الأسئلة جميعا استنادا إلى
تجربة كل شخصية من هذه الشخصيات وحسب ثقافتها وتكوينها وطرق تفاعلها مع الناس
والحياة. وبهذه الكيفية يصنع المتخيل عوالمه السردية التي تلتبس فيها حقائق
التاريخ بالرؤى الخاصة للشخصيات الثلاث، ولرؤيا كاتب الرواية بالصدفة الراجي
(مساعد المؤرخ). وعن طريق هذه الرؤى الذاتية -النابعة من التجارب الفردية للشخصيات
الثلاث ولغيرها من الشخصيات الروائية- الممتزجة بالوقائع التاريخية والأحداث
الفعلية التي عرفها المغرب في عصرنا الراهن، يتمكن النص من تأمل التاريخ وتحليله،
وتأويل بعض أحداثه وما نتج عنها من أوضاع سياسية وأعراف وتقاليد اجتماعية، وما
ترتب عنها من حالات نفسية واختلالات في سيرورة الحياة وتطوراتها المؤسِية. ولعل
الرؤية التي وجهت الكتابة السردية التي صاغها الراجي تنبع من تصور مفاده أن مسألة
الوصول إلى "الحقيقة" أو الوقوف على جوهر ما يشكل التاريخ، تظل مسألة جد
نسبية وزئبقية، فضلا عن ذلك، هي تبقى مفتوحة على عناصر أخرى كامنة لدى من يقرأ أو
يستمع. لذلك، عمل الراجي على تقديم كل ما يَظن أو يتخيل أن له وشائج بما يَشعر أنه
ينطوي على حقيقة معينة. وقد سعى إلى إشراك القارئ في اقتناص هذه الحقيقة أو ما
يمكن حسبانه حقيقة من خلال محكي شخصياته الروائية. (الرواية، ص. 18)
وقد كان توفيق الصادقي أول شخصية
تروي حكايتها وتقدم رؤيتها لما جرى في مغرب الاستعمار وبداية الاستقلال وما تلاهما
من زمن. ويشي محكي الصادقي بمدى الشعور بالصدمة والإحساس بالذهول نتيجة التحولات
المهولة التي شهدها المغرب بعد رحيل الاستعمار، وما عرفه عقدي السبعينات
والثمانينات من وقائع. وكانت الصدمة مرتبطة باختلاف وجهة نظره عن وجهة نظر أخيه
علي الذي تأثر بالفكر اليساري ورؤيته إلى الواقع، واتهامه لوالدهما (القايد
الصادقي) بالخيانة والعمالة للاستعمار وتمثيله لجبروت المخزن وإمساكه الأمور
بالتسلط والقهر. وقد كان لتتالي الصدمات على توفيق الصادقي، وحيرته أمام تحولات
التاريخ أن أخلد إلى نوع من الدعة والذهول، والاكتفاء بالتعبير عن تشوش رؤيته
واضطرابها أمام تسارع التحولات وهول ما أحدثته من خلخلة في القيم والعادات
والتقاليد التي عرفها وآمن بها. وكان زواج ابنته فدوى من ميشيل الفرنسي وخضوعه
للأمر الواقع من بين العوامل التي كشفت له عن اختلاف، بل وخلاف، ما آمن به وما
يؤمن به الجيل التالي عليه. يقول السارد مصورا هذه الحيرة من خلال حديث الصادقي عن
خاله والمقارنة بين تفاعلهما مع التحولات السياسية والاجتماعية:
".. أستمع إليه ولا أجد ما
أقوله. أنا أعيش صدمة التحولات في ذهول وسكات، وهو ينفس عن خيبة أمله في صخب
وضوضاء، كأنه ثور هائج في حلبة مصارعة، تحاصره الطعنات.." (الرواية، ص. 55)
هكذا كان سكات توفيق الصادقي تعبيرا
عن شعور فادح بخيبة أمل فيما حدث بعد الاستقلال، وفيما يحدث الآن وهنا. وبذلك تشي
تجربته بنوع من فقدان الأمل والإحساس بالإحباط.
أما فالح الحمزاوي، فيكشف عن تجربة
جيل آخر وتفاعله مع مغرب السبعينات والسنوات اللاحقة. إنه جيل درس في الجامعات
المغربية، أو في بعض الجامعات الفرنسية وحمل قيما مختلفة تشكلت في ضوء قناعات
سياسية ورؤى ثقافية جديدة قوامها الحرية والديموقراطية والحرص على حقوق الإنسان
وكرامته. جيل آمن بالحياة وباقتناص متعها ولذاتها، كما آمن بالنضال السياسي
والدفاع عن حق الفقراء والطبقات المسحوقة في الوجود والحياة. وقد كانت تجربة هذا
الجيل، متنوعة بالنسبة إلى أفراده. وتكشف الرواية عن هذا التنوع من خلال شخصيتي
فالح وصديقه حفيظ: فالح الذي عرف كيف يسير بين دروب الحياة السياسية والاجتماعية
الملتوية الشائكة دون أن يمسه الضرر، واستطاع تحقيق ذاته وخوض الواقع في يسر
وسهولة، بينما على العكس منه تم سجن حفيظ واضطراب حياته نتيجة ذلك. ولكن، على الرغم
من اليسر الذي قد توهم به حياة فالح، إلا أن انخراطه في المجتمع، وانخراطه في
الحزب شكل له نوعا من التوتر والقلق، والشعور بالحيرة ولا جدوى الانتماء السياسي
ما دامت الأحزاب السياسية ليست سوى أقنعة سلطوية تسهم في طمأنة الناس وامتصاص
غضبهم وردود فعلهم على قرارات السلطة وأفعالها. يقول فالح فيما صرح به للراجي في
نبرة ساخرة لا تخلو من مرارة وإحساس فادح بالخديعة بعد فوز حزب له مرجعية دينية في
انتخابات 2011:
".. أدرك الحزب "العتيد
سابقا" أن لا مناص من أن يجمع "قلوعه" ويعود إلى المعارضة ! أما فترة المعارضة هذه التي نحن في بدايتها، فهي مليئة بالطرائف
والمفارقات لأنها تدشن عهد التحايل وتحويل الأحزاب إلى قطع غيار، وتجعل العمل
السياسي وسيلة للكسب والتزلف والدفاع عن "الإجماع المنقذ" !
وهي مرحلة تحتاج إلى موهبة كاتب مسرحي مثل
موليير، ليلتقط فيوض الكلام المرصع وعينات السلوكيات الطرطيفية والزعامات
"المحنكة"..." (الرواية، ص، 130-131)
يكشف هذا المقتطف من الرواية عن
النتيجة التي انتهت إليها رؤية فالح الحمزاوي للحال السياسي في المغرب في اللحظة
الآنية، ويبلور خلاصة نظرته لما يجري من حوله في أسى وسخرية مُرين. وهو بذلك
تتطابق رؤيته مع رؤية أستاذه توفيق الصادقي الذي تدرب في مكتبه، وكان امتدادا له،
إن بشكل أو آخر، على الرغم من تباين المنشأ الاجتماعي، واختلاف المرجعية الثقافية
والسياسية بالنسبة إلى الشخصيتين.
وإذا انتقلنا إلى الشخصية المحورية
الثالثة في الرواية، وهي شخصية الدكتورة نبيهة سمعان فتبدو منشغلة بهموم المرأة
المغربية في العصر الراهن التي تعتبرها هموما لها امتداد في التاريخ. وهو
تاريخ عريض ومستمر أنتج وينتج مزيدا من
القهر والنظرة الدونية التي لم يتم التخلص منها حتى لدى الرجال الذين حملوا فكر
التنوير، ورؤى اليسار، أو تصورات الليبيرالية الغربية. إن ثقل التقاليد يعوق كل
تحرر منشود تتطلع إليه المرأة. وقد كان صالونها الثقافي الذي اجتمع فيه نخبة من
أصدقائها متنفسا لمناقشة قضايا الواقع المغربي الراهن، إلى جانب قضية المرأة
المشار إليها أعلاه. وتكشف رؤية نبيهة سمعان عن شعور لا يسلم، بدوره، من خيبة أمل
وإحساس فادح بالمرارة، كما لا يتورع عن النقد اللاذع لما يحدث ويجري سياسيا
واجتماعيا. تقول في سياق اعترافها وبوحها للراجي:
".. ما أحرص عليه هو أن تمتزج الأصوات
بين رجال ونساء، وأن تنشأ تقاليد التبادل والندية، ونتعود على التفكير بصوت مرتفع،
والجهر بآرائنا في السلوك والسياسة والظاهرات الاجتماعية. وأنت تعلم أن الأحزاب لم
تعُد تُسهم في جعل الحوار الفكري والثقافي جزء من نشاطها، بل تحولت إلى ماكينات
وأجهزة لتهيئ الانتخابات.." (الرواية، ص. 182)
بهذه الكيفية تشخص نبيهة سمعان جوانب
من اختلال الواقع الاجتماعي، واضطراب الحياة السياسية التي أنتجت ما أنتجت من آفات
وسلبيات كسرت أحلام أجيال متتالية. ونجد عند هذه الشخصية نوعا من الحنين إلى فترة
السبعينات على الرغم من وعيها أنها كانت زمن حلم وجري وراء "يوتوبيا".
ولا بأس من أخذ فقرة أخرى من بوح نبيهة واعترافاتها التي تجسد لوعة الحنين إلى
الماضي ووعي فادح بأزمة الحاضر، تقول:
".. فترة السبعينات تلك، كانت
تبدو لي زاهية، واعدة بتحقق المعجزات. لا أدري كيف أحدد المناخ الذي ميز تلك
الفترة وجعلها زمنا للحلم والتفكير بصوت مرتفع، والجري وراء "الأتوبيا
الضرورية". هي فترة مناقضة تماما للمناخ الملتبس الذي نعيشه اليوم متدثرا
بأردية التفاؤل الكاذب.."(الرواية، ص. 158)
وبهذه الشاكلة تشبه رؤية نبيهة سمعان
رؤية صديقها فالح الحمزاوي، وتتقاطع مع نظرة المحامي المخضرم توفيق الصادقي. وبهذه
الرؤى الثلاث تتشكل تقاسيم محكي روائي صاغه الراجي، وانبثق من رحم أسئلة ترتبط
بالتاريخ وتدور حوله. وينتهي القارئ، بعد رحلة طويلة، مع وقائع فردية تتصل بحياة
هذه الشخصيات المحورية الأربعة: توفيق وفالح ونبيهة والراجي، ووقائع تاريخية تتسلل
بين ثنايا هذا المحكي إلى التساؤل: كيف انتهت هذه الشخصيات جميعا إلى رفض الراهن
والتخوف من الآتي؟ وهل هذه الرؤى التي عبرت عنها هي رؤاها أم هي رؤية الراجي (كاتب
الرواية المفترضة) أسندها إلى شخصياته؟ وهل وجهت أسئلة المؤرخ الرحماني (الغابر
الظاهر) سيرورة البوح وتحكمت في انسيابية الاعتراف؟ وهل نجحت رواية الراجي في
ملامسة جوانب من "الحقيقة" التاريخية التي تتميز بالالتباس والزئبقية؟
هذه أسئلة ملحة أوحت بها رواية
"بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات"، ولكن ما يجب الاعتراف به هو أن
الرواية استطاعت جعل التباسَ تاريخ المغرب المعاصر وإلغازَه، واضطراب الواقع
الاجتماعي واختلاله متخيلا سرديا فاتنا، وعالما روائيا يحمل معرفة بما جرى، واستشرافا
لما يمكن أن يجري من وجهة نظر تتماس مع "الموضوعية" في كتابة التاريخ،
لكنها تؤمن بأهمية الرؤية الذاتية، والأبعاد التخييلية في مقاربة الأوضاع
الاجتماعية والوقائع السياسية لصياغة "تاريخ" ينبع من عمق الوجداني ومن
روح التأمل الإنساني وفق قواعد جمالية فنية بالدرجة الأولى.