يستمر الكاتب الأردني محمد سناجلة في تجريب الوسيط التكنولوجي من خلال جعله وساطة تقنية ومعرفية لتشييد الفعل الرمزي، بإطلاقه مع بداية 2016 عمله الرقمي الجديد «ظلال العاشق».
شكلت تجاربه الأولى خاصة مع « الشات» و«صقيع» بداية خلخلة التفكير في هوية النص الأدبي، واقتراح أنظمة مُغايرة للشكل الأدبي، عبر ما اصطلح عليه بـ»الأدب الرقمي». تزامن إطلاق تلك التجارب الإبداعية، مع بداية الانشغال النقدي الأدبي العربي بمختلف المفاهيم التي تُحيط بالأدب الرقمي، من ترابطي وتفاعلي وشبكي، وغير ذلك من المصطلحات التي بدأت تتسرب إلى التفكير النقدي العربي تدريجيا مع بداية الاهتمام بالوسائط التكنولوجية، إذ وُضعت كتبٌ، بعضها كان يُجرب الكتابة في هذا الموضوع، فكان يمثل بذلك تجربة جديدة في التفكير في تحولات النص الأدبي، والبعض الآخر اهتم بسؤال تطور الأدب مع الوسيط التكنولوجي، فوفَر للمشهد الثقافي العربي دراسات وكتبا معرفية تبحث في زمن تحولات النص الأدبي، من خلال تجربة النص الرقمي. غير أن الإشكالية التي ظلت تُرافق هذه التجربة، وجعلتها تخضع إما إلى اصطدام كبير بين المؤيدين لهذا النوع من التعبير والمُعارضين له، أو حولتها إلى موضوع مُلتبس، يعرف الضبابية أكثر من الوضوح في خطابها، عطَلت عملية تخصيب الشرط الموضوعي لانتعاش ثقافة «الأدب الرقمي». فعلى الرغم من بداية انخراط الدرس الجامعي، والبحث العلمي في قضايا الأدب الرقمي، وحماس الطلبة والباحثين للدخول في أسئلة هذا الموضوع علميا ومعرفيا، وهي مسألة مهمة، وجديرة بالملاحظة والاهتمام، وظهور الكثير من المقالات والدراسات حول الأدب الرقمي، فإن خللا منهجيا ومعرفيا ما يزال يُرافق هذا النوع من التعبير، وغموضا يُلاحقه، ويجعله يتعثر في عملية تحققه، مما يتطلب طرح أسئلة جوهرية حوله، وحول السياق العربي الذي لم يتمكن من خلق الشرط المعرفي لإنتاج النصوص الأدبية الرقمية؛ لأن الوعي بتحولات النص الأدبي، والإقبال على فهم هذه التحولات، يتطلب تراكما نصيا للتجربة الجديدة للأدب، إذ، في غياب التراكم، يظل التفكير محكوما عليه، إما باستهلاك ما هو نظري عام مما يُعقد الفهم، أو باعتماد تجارب نصية خارج تجربة السياق العربي؛ لأن تحديد منطق اشتغال الأدب مع شكله الجديد، يبدأ من تحققه نصيا، وتحليل خطابه ومكوناته، والوقوف عند نظامه الجديد في ترتيب عناصره؛ لهذا، لا يستطيع نصٌ واحدٌ- أو قليلٌ من النصوص- أن يُحقق الوعي بهذا التحول.إن النقد خطابٌ وصفي يتأسس على خطاب رمزي قائم بذاته ولذاته، وهذا الخطاب الرمزي هو الذي يُنتج إمكانيات إدراكه؛ قد يتعطل اكتشاف منطق الخطاب الرمزي الجديد عندما يكون الخطاب النقدي مُتخلفا عن زمن المُسايرة الأدبية، بفعل تراجع الفكر الفلسفي، أو تأخر المناهج الأدبية، غير أن النقد قد يتدارك الأمر، ويُعيد التصالح مع جديد الأدب، بالاقتراب منه وفق شروط القراءة الواعية، فتحدث الدهشة، ويتحقق الاكتشاف، وتتطور نظرية الأدب وتغتني بجديده وهو يتحرك في مساحات أكثر وأبنية أكبر، غير أن الخلل يظل قائما في حال ضعف التراكم النصي، الذي لن تُغنيه الدراسات. قد يقول قائلٌ، إن الأدب يتم التفكير فيه في وحدته الإنسانية، وبالتالي فإن التجارب الغربية في النص الرقمي قد تتحول إلى أرضية خصبة للتفكير في التجربة العربية التي لم تعرف بعد تراكما مهما في التعبير الأدبي الرقمي، إنها ملاحظة تسري على الأدب عندما تكون هناك إٍرهاصات مُحققة سابقا، وبنسب متفاوتة في سياقات مختلفة، لكن بالنسبة لتجربة الأدب الرقمي في المشهد العربي فإنها تعرف تعثرا ملحوظا ليس في مستوى التفكير فيه، إنما في مستوى التعبير به. ولهذا، يعد سؤال البحث عن أسباب هذا التعثر في الإنتاج الرقمي في الممارسة العربية من أهم مداخل التفكير، ليس فقط في التعبير الرمزي، إنما في موقع التكنولوجيا في الحياة والفكر العربيين.
لا شك أن المبدع الأردني محمد سناجلة بوفائه لهذا النوع من التعبير، ودفاعه عنه، واستمراره في البحث عن تطوير الكتابة من خلاله، وعقد التواصل المستمر معه، قد ربح الرهان، باعتباره من الأصوات العربية التي غامرت في غير المألوف الأدبي، إلى جانب أسماء عربية قليلة مثل الكاتب المغربي محمد اشويكة، غير أن تدبير هذا الأدب في التجربة العربية يحتاج إلى أسئلة جوهرية تُرافقه، بعيدا عن خطابات المجاملة والانبهار، واختيار موقع الانتظار، بالانخراط المسؤول في هذا النوع الإبداعي- الفني تحليلا وتفكيرا وطرحا لأسئلة جريئة حول قدرته على الارتقاء بالتعبير الإنساني من جهة، وموقعه في نظرية الأدب، ومدى قدرة لغاته الرقمية على بناء النص، من دون خدش جوهر الأدب، والوعي بطبيعة المزج بين التكنولوجيا والإبداع، والتساؤل حول الثقافة الجديدة في التعبير الإبداعي. لا يقف الأمر عند مجرد إطلاق تجربة نص رقمي، وإعلان الدهشة والانبهار، بقدر ما يحتاج الأمر إلى جرأة التفكير المعرفي حول هذا النوع من ثقافة التعبير، ومرافقتها بالتحليل والقراءة ضمن المعرفة الأدبية. تُشكل التجربة الجديدة «ظلال العاشق التاريخ السري لكموش» (2016) للكاتب الأردني محمد سناجلة، فرصة مهمة لإعادة النقاش المسؤول حول هذا النوع التعبيري الرمزي، من داخل نظرية الأدب، وليس من خارجها. وإذا كانت تجربة «ظلال العاشق» قد استفادت في كتابتها من الفنون الرقمية المتعددة، إضافة إلى تقنية الرابط والصوت والحركة والإخراج السينمائي والموسيقى، فإنها تضعنا أمام أسئلة متشابكة الحقول.
بعيدا عن تحليل خطاب هذا العمل الذي يتبنى الوسيط الرقمي بتصنيفات متعددة لبناء حكاية «ظلال العاشق»، فإن الوضعية البنائية لهذا النص، تطرح أسئلة على وضعية القراءة في التجربة العربية، وهل تم تكوين ثقافة رقمية، قادرة على الاقتراب من هذه التجربة بعلمية ومعرفة، بعيدا عن مشاعر الدهشة والانبهار؟ ألا تحتاج ثقافة القراءة الرقمية إلى تدبير تعليمي- بيداغوجي، يجعل الثقافة التكنولوجية تكوينا علميا في مختلف المؤسسات التعليمية والجامعية، وليس فقط في المؤسسات ذات الطابع العلمي المحض؟ ألا تدفع مثل هذه الأعمال الرقمية إلى إدخال التخصصات التكنولوجية إلى برامج التعليم الجامعي في كليات الآداب والعلوم الإنسانية؟ ألا تدعو هذه التجارب الأدبية التي تتحقق بشراكة مع الفن والتكنولوجيا إلى إعادة النقاش حول مفهوم الأدب أولا، ثم مفهوم قراءته ثانيا؟ وهل يعود سبب ضعف التراكم في تجربة الأدب الرقمي عربيا إلى ضعف الثقافة الرقمية إنتاجا؟ أم نقرأ من نسبة التراكم صعوبة تحقيق هذا التعبير في التجربة العربية؟ أم أن الإبداع العربي ما يزال مُرتبطا بثقافة التعبير عبر الإبداع الورقي، باعتبارها الإمكانية المُؤهلة لتصريف تعبيراته الرمزية؟ أم يعود ذلك إلى صعوبة انتقال الثقافة التكنولوجية إلى وسائط خدماتية في الممارسة العربية، ومساهمتها في إنتاج التحولات الذهنية والاجتماعية والاقتصادية؟ وكيف نقرأ تعدد الدراسات حول الأدب الرقمي مُقارنة مع ضعف النصوص الرقمية في التجربة العربية؟ تلك مجموعة من الأسئلة التي يطرحها إطلاق النص الرقمي الجديد «ظلال العاشق- التاريخ السري لكموش» للكاتب الأردني محمد سناجلة، الذي- من المفترض- أن يُجدد النقاش حول قضايا ذات علاقة بموقع التكنولوجيا في الحياة العامة عند الفرد العربي من جهة، ومن جهة ثانية وضعية هذا التعبير في حياة الأدب في المشهد العربي.
روائية وناقدة مغربية
«ظلال العاشق» من الانبهار إلى السؤال الأدبي