-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

صوفية معاصرة من أجل الحضارة المغرْغِرَة :أحمد بلحاج آية وارهام

خاص
1ـ حقول  ترْبِط  الإنسان بوجوده
      بما أن الفكر فعل سلطوي،فهو يهدف إلى فرض نوع من السلطة على الآخرين،في
حين يهدف التصوف ؛بما هو فعل ذوقي جمالي غير سلطوي،ومعرفة لدنِّية؛إلى حالة مزدوجة من الالتقاء بهم والارتقاء بأحاسيسهم وخلجاتهم ونظرتهم إلى الكون،وإلى الخالق.
      فالكون  ليس ماديا فكريا فحسب كما يتوهم البعض، بل هو شعري وروحي بالدرجة الأولى.ومن ثم فإن كل بحث فيه عن الحق ينبغي أن يتم انطلاقا من الكل، لا من الجزء،كما دعا إلى ذلك هيغل(1770م-1831م)الذي رفع شعار(( الحق هو الكل))،وذهب إلى أن هناك ثلاثة حقول تربط الإنسان بوجوده؛هي:
       أولا:حقل الروح المطلقة  المتعلق  بالدين.
       ثانيا:حقل الروح الموضوعية المتعلق بالمؤسسات.
       ثالثا:حقل الروح الخصوصية المتعلق  بمصالح  الإنسان وأهدافه الفردية.
فهذه الحقول الثلاثة في رأيه مرتبطة  ببعضها بشكل عضوي متين،وكل شعب لم يستطع الربط بينها فهو لا محالة سيتعرَّض لمذبحة التاريخ،ولا إفلات له من هذه المذبحة إلا عندما يُدرك أن (حقائقه الثابتة والأصيلة) لا يمكن أن تتجلى وتتمظهر إلا من خلال هذا الارتباط المُحكَم بين الحقول الثلاثة المذكورة.فالنزاعات السياسية – حسب هيغل – مردُّها إلى النزاعات الدينية والاجتماعية والمصالح الفردية،وإلى التفكير المادي الذي استعبد الأفراد حتى صاروا أرقاء دون أن يشعروا.(1)
    1.1 أعلى مراحل الحرية:فما يمارسونه من حريات ليس سوى عبودية مقَنَّعة،أما الحرية الحق فهي تلك التي عرَّفها عبد القاهر الجرجاني بأنها هي((الخروجُ عن رق الكائنات،وقطعُ جميع العلائق والأغيار.وهي على مراتب:
         أ- حرية العامة عن رِقِّ الشهوات
      ب – وحرية الخاصة عن رق المُرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق.
       ج- وحرية خاصَّة الخاصَّة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار.))(2) وهذه المرتبة الثالثة هي أعلى مراحل الحرية التي ينشدها السالكون طرائقَ التصوف،أما الأولى فيحتاج إليها الغارقون في جحيم الاغتراب، ومهاوي الآلام والتمزقات النفسية،والسابحون في أمواج الأنانية المتعالية.
      2.1 سبيل الحق والحقيقة:ولن يتم الوصول إلى حرية الانمحاق هاته إلا عن طريق التصوف الذي هو أخلاقٌ،وضربٌ من تطهير النفس وإزالة كل ما علق بها وفيها من رواسب الغرائز وإفرازاتها،وطريقةُ حياةٍ،وسبيلٌ إلى الحق والحقيقة،ونشدانٌ للكمال. ولهذا عُرِّفَ الصوفي بأنه هو من صفا قلبه لله،حتى صار لا يملك شيئا،و لا يملكه شيء في الكون مهما  جلَّ أو عظم سوى وجه الله.
      2- أنشطة الروح الثلاثة
        ورغم أن شهوةَ معرفةِ سِرِّ الكون وجوهرِه مبثوثةٌ في الإنسان ،وأنه ما ينفك يسعى لإروائها،فإن الكون بدوره – وإنْ احتجب وتخفَّى – يسعى لإبراز خفاياه،ويستجيب لشهوة الإنسان تلك،ولا يقاومها،فهو –كما يرى هيغل- ينفتح أمام الذين تُؤججهم الرغبة لسبر أغواره،ويَدفعهم إلى التعبير عن أفكارهم وطموحاتهم ومعتقداتهم في شكل أعمال شعرية وفنية.
        ومن هنا كان الفن الجميل؛وفي طليعته الشعر؛طريقةً مُثلَى لمعرفة حقيقة هؤلاء الناس،ومعرفة أفكارهم ومعاييرهم الدينية والأخلاقية،ونظرَتهم إلى الكون.وكانت أنشطة الروح متدَرِّجةً على ثلاث مراتب:
      * الفن  ،  وعلى رأسه الشعر.
      *   الدين  .
      * الفلسفة .
      إن هذه الأنشطة الثلاثة تسير بشكل متساوٍ ومتوازٍ نحو الكشف عن حقيقة الإنسان وحقيقة المجتمع،والشعر على الخصوص يفوق الفنون الأخرى أهمية،لأنه يستطيع التعبير عن خلجات الروح يَبُخُّهَا العقلُ،إذْ أن حالات العقل المعقدَة ليس من السهل التعبير عنها بالرَّنَمَات(=النوطات)،وإنما يجري التعبير عنها شعراً،وبقدر من اليُسر،كما نجد عند الصوفية،فهم يُشَكِّلون الوجود شعْراً،ويغزلون تجربتهم فيه بطريقة لا يكشفها إلا هو.فهو يحضن الروح الإنسانية بكليتها كما يحضن الخاصِّية الذاتية،فمادتُه (=لغته،ميتافيزيقا خياله)، وطرائقُ تعبيره تعكس كلما يتعلَّق بتلك الروح الإنسانية وهذه الخاصية الذاتية.(3)
             1.2 طريق المعرفة طريقُ ذَوقٍ وحالٍ:ولهذا تميز الإنسان من بين الكائنات الأخرى بأنه كائنٌ مناقبي يتمتع بأخلاقٍ وخصائصَ لا تتأتَّى لغيره، وبتوْقٍ إلى المعرفة شديدٍ،وطموحٍ إلى تحسين وجوده.غير أن التوق إلى المعرفة شيءٌ،والطريقَ إليها شيءٌ آخرُ،فقد تتعدد الطرق،وتبقى المعرفة منبهمةً ،ويحار المرء ماذا يفعل،أيتبع جادَّة العقل التي لا تستطيع تجاوزَ تخوم الغيب، ولا مفارقةَ الرسوم؟ أم يسلك سبيل الحدس البصائري المفتوحةَ على ما وراء الكون؟.
          لا شك أن الصوفية الذين اختاروا المسلك الثاني هم أقوى معرفةً، وأكثر انسجاماً مع الوجود، و أسطع وجداناً من الذين اختاروا المسلك الأول،بدليل ما يُفصِح عنه الحوار الذي جرى بين ابن عربي وبين ابن رشد أثناء لقائهما في قرطبة.فطريق المعرفة إذن هو طريق ذَوْقٍ وحالٍ،والذوق والحال لا يوجَدان إلا في فضاء التصوف،والتصوف اختيارٌ ذاتي يُؤَمْثِلُ الوجود، وتجربةٌ فردية مفتوحة على المطلق،وإنْ كانت مرتبطةً بالحياة والعيش والسلوك.إنه نوع من التسامي الروحي يهدف إلى تنقية النفس من أوشابٍ عَلِقَتْ بها،ونوازعَ ونوازغَ ترسَّبتْ فيها،وهذا لا يتحقق إلا من خلال لجْمِ الغريزة،وجعلها على قدرٍ من التهذيب والخُلُق والشفافية،وذلك لأن الطريق إلى المعرفة اللدنية،وإلى الله،لا يشقه إلا الخُلُق الأمثل الخالي من الميول والأحاسيس الدُّونية،والسائرُ على قدَمِ الخُلُق المُحَمَّدي،ولذلك قيل:من زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الصفاء والمعرفة أيْ في التصوف والمواهب.
         2.2 عناوين التصوف الكبرى:وللتصوف عناوينُ كُبرى؛هي:صفاءُ القلب،حُسْنُ الخُلق،قتلُ النوازع والنوازغ السُّفلَى،تعَلُّقُ الهمَّة بأنوار الجمال والجلال،إفناءُ إرادة الذات في إرادة مُكَوِّن الذات.وقوامه هو السلوك القائم على ضبط النفس ومحاسبتها،وكبح جماحها،ومجاهدة ميولِها،وصرفِها بالإرادة عن المتع والمباهج التي تحجبها عن مقامات المعرفة،ومَشاهدِ التجليات السَّنِيَّة.أما غايته فهي تصفية النفس وتطهيرُها من أدران الظاهر والباطن،مع تأمُّلٍ يُؤثر الخلوة الروحية،وتدبُّرٍ في آيات الله ومعها حتى يفنَى الصوفي عن نفيه...ويَبقَى بالله وفي الله.(4)
       وهذا الطريق لا يُنال بالعلم والتحصيل،و إنما بواسطة المجاهدة والذوق والحال وتَبَدُّل الصفات(5)،فكل سالك فيه تَكُون له طريقةُ عيشٍ روحي خاصة،وأسلوبٌ في التفكير متميز،ومنهجٌ في الحياة والوجود يتخذ منه سبيلا إلى تحقيق كماله الأخلاقي أو سعادته الروحية.
      فهو من هذه الوجهة محاولةٌ لتحقيق الوجود في وجودٍ يتشظى فيه المعنى إلى حدِّ اللامعنى،وسعيٌ لاكتساب الحرية في عالم مقهور بشهواته الوحشية.ولا يُمكن تصنيفه في خانات،لأنه خارج التصنيفات،ولا تقسيمه إلى تصوف ديني وآخر فلسفي،كما ذهب إلى ذلك بعضهم (6)،لأنه تجربة ذاتية فردانية،والتجربة الذاتية لا تُجَزَّأُ ولا تُعَمَّم،ولا تُستَنسَخُ ولا تُتَكَرَّر،لكونها بصمةً خاصة بالفرد السالك.
          3.2 خصائصه الإبستمولوجية:فكل تجربة صوفية واصلةٍ لها خصائصُ نفسية وأخلاقية ومعرفية(=إبستمولوجية) تَسِمُها وتميزها من التجارب التي تقتحم فضاء الروح،ولكن بنفَسٍ غير صوفي ونفْسٍ أمَّارةٍ.ويُمكن إجمالُ هذه الخصائص في خمسٍ؛هي:
         1- السمو الأخلاقي، فكل صوفي يسعى إلى تحقيق مجموعة من القيم الأخلاقية التي لا يتحقق الكمال إلا داخل منظومتها.
        2-الفناء في الحقيقة المطلقة،وهي حالة نفسية عميقة تُهَيمن على الصوفي،بحيث لا يعود قادرا على البقاء مع ذاته،وإنما يُغَادرها ليفنى في ذات أخرى،هي الذات الإلهية،وحتى إن رجع ذاته فإنه يرجع شريعةً لا حقيقةً،لأن قلبه في أرض الفناء متوهجٌ باستمرار.
        3-المعرفة اللدنية،فكل صوفي له معرفة  لدنية ذوقيةٌ خاصة به ،يتميز بها،ويُكَوِّن من خلالها طريقة مستقلة ومغايرة في المعرفة،لا يُشاركه فيها أحد،وذلك لأن المعارف اللدنية لا نهاية لها،تنتهي أنفاس الخلائق ولا تنتهي هي،لكون مصدرها غير منْتَهٍ.وهذا هو بالذات ما يُميز التصوف عن غيره من الفلسفات.فالصوفي يمر بأربع مراحل أو مراتب؛ّهي:الذوق،الشراب، الرِّي، السكر،وهو أعلاها.
       4-السعادة الروحية،فكل صوفي يحاول إلجامَ الغرائز التي تُشعِل البدن،وتحجب عوالم التحقق الجمالي،لكي يصل إلى حالة من التوازن النفسي ،والطمأنينة القلبية،والشفافية الروحية التي ترى بالعين البصائرية المُلكَ والملكوت.وهذا ما يشعره بالسعادة الحقيقية،وبالتناغم مع الكون،ومع إرادة الخالق.
       5-اللغة الرمزية،فكل صوفي له تعبيره الرمزي الذي يصوغ به تجربته، وفتوحاته ومشاهداته الروحية،ويَحفر به نهراً لُغَويا ينطوي على معنى ظاهر وآخر باطن،يصب في محيط اللغة الصوفية.ولذلك فإن المتلقي غير المندمج في هذا المحيط قد يفقه المعاني الظاهرة في ألفاظ الصوفي فيتقبلها أو ينصدم بها،ولكنه سيعجز لا محالة عن إدراك المعاني الباطنة فيها.وعلة ذلك هو أن التصوف كناية عن حالة وجدانية يصعب التعبير عنها باللغة المتعارَف عليها،خاصة إذا علمنا أن مثل هذه الحالة الوجدانية ليست مشتَرَكة بين الناس كافة،ولا مطروقة من قبل.
       وعلى هذا الأساس ؛فإن التصوف هو أشبه ما يكون بالفن،لأنه تعبير عن خبرة ذاتية مفردة مرتبطة بشخص واحد مفرد،ومن هنا مكرُ اللغة الصوفية،وانفلاتها،وتجَدُّدُها،فهي لغة فردية جاذبة،المعجم الصوفي فيها ليس واحدا،فمعجم البسطامي يختلف عن معجم ابن عربي،وهذا يختلف معجمه عن معجم الحلاج أو الجنَيد أو جلال الدين الرومي أوابن بَرَّجان أو ابن العريف أو حافظ الشيرازي أو بنعجيبة أو الجِيلِي.فكل له معجمه الخاص وخريطته اللغوية الروحية التي لا تتماهى مع غيرها من الخرائط.وبهذا التعدد المعجمي عندهم اغتنت اللغة الصوفية وتعددت،وتلونت بألوان الناطقين بها،واكتسبت أبعاداً رمزية وإشارية منطوية على ثلاث قدرات:
     قدرتها كأداة على الإيحاء المنفتح الخلاق.
     قدرتها كأداة للتفكير اللدني.
     قدرتها في الإبطان،أي في انطوائها على مضامين أخرى تتوارى خلف الألفاظ،وهي تختلف كليا عن تلك التي تتوارد علينا لدى قراءتنا ظاهر هذه الألفاظ وعدم التطرق إلى معانيها الباطنة (7).
      4.2 نظرته إلى الوجود:ولأجل هذا نجد الكلمات والحروف قد احتلت مكانة مرموقة عند الصوفية كافة،فهم قد أَوْلَوْها عناية خاصة،وعملوا على تضمينها دلالات ومغازيَ رمزية عديدة،وشحنوها بحمولات تطمح إلى اكتشاف أسرار الوجود وأسرار الخَلْق من خلال تأمل العلاقات المتشابكة بين القول الإلهي المتمثل في فعل (كن)،وبين الفعل الإلهي المتمثل في إيجاد أعيان الممكنات،وربطوا بين الأسماء الإلهية وحروف اللغة من جهة،وبينها وبين مراتب الوجود من جهة أخرى(8)،فهم قد اعتبروا التشَكُّل التدريجي في البناء اللغوي (=الحرف،فالكلمة،ثم الجملة) موازيا ومساويا للتشكل التدريجي للوجود نفسه،فالحرف يوازي النفَس الإلهي الذي صدرت عنه الموجودات والأشياء.
       وانطلاقا من هذا الفهم لأهمية اللغة عند الصوفية نستطيع أن نقول:إن اللغة صارت تساوي الوجود نفسه،وليست مَسْكَناً له كما عند (هايدجر).فالوجود برمته لدى الصوفية هو كلمات الله المرقومة،فابن عربي – الضليع في شرح المكانة الروحية للحروف والكلمات – يرى أن الحروف والكلمات كناية عن أرواح لها عقل ووعي وإدراك،فيقول((...واعلم أنه ما قسمنا هذه الحروف تقسيم من يعقل على طريق التجوُّز، بل ذلك على الحقيقة.فإن الحروف؛عندنا وعند أهل الكشف والإيمان؛أُمَمٌ من جملة الأمم لسُوَرها{=مراتبها} أرواح مدبِّرة حية ناطقة تُسَبِّح الله بحمده طائعة ربها(...). فما الحروف عندنا كما هي عند أهل الحجاب))(9)، وعليه فإن الكون جميعه هو كلام الله الذي تَكَون من حروف جاءت ضمن أنساق خاصة (=حروف، فكلمات، ثم جمل)، وصدرت عن النَّفَس الإلهي. وعلى هذا الأساس فإن الكلمات التي توازي الموجودات والوجود هي كلمات لا متناهية ولا محدودة.
        ونستطيع اعتمادا على هذه النظرة أن نقول إن اللغة الإنسانية ليست إلا ظاهرا ماديا وحسيا للغة الإلهية،ولذا ((فإن الإنسان العادي،في إدراكه للعالم ووقوفه عند المستوى الظاهر،مثل الأجنبي الذي يسمع اللغة العربية فلا يدرك منها سوى أصواتها مجردة عن أية دلالة أو مغزى.والإنسان العارف (=الصوفي) في إدراكه لباطن الوجود هو كالعربي يدرك دلالة هذه الأصوات الوجودية،ويعرف معناها، الأمر الذي يتيح له أن يفهم البُعد الدلالي الباطن العميق للغة عامة.))(10)،ومثل هذا البلوغ إلى قلب اللغة،وإلى دلالتها الحقيقية لا يتم للإنسان إلا بخروجه من دائرة الكثيف إلى دائرة اللطيف،وهذا يتطلب أولا وقبل كل شيء التجردَ من كل العوائق والهموم والأثقال الأرضية، ومن الميول والشهوات النفسية السفلى،وعند هذا الحد يمكن للمرء أن يصبح وجها لوجه مع السر الإلهي وحده وهو الروح،ومع النَّفَسِ الإلهي الذي نفخه الله في طينته،وإذْ ذاك يصير متكلما بكلمات الله.فالكلام صادر عن الحروف،والحروف صادرة عن  الهواء(=النفَس)،والهواء صادر عن النَّفَس الرحماني.(11)
          3-حاجة الحضارة المعاصرة إلى صوفية معاصرة
         إن الصوفيين؛ على مر التاريخ؛ قد أحبوا البشرية جمعاء،وكلَّ مفردات الكون،لأنها من صنع الخالق الرحيم.ونظروا إلى الجميع بعين الله،فأحبوه في الله وبالله حبا إلهيا.ولذلك فإن الحضارة المعاصرة في حاجة إلى صوفية معاصرة،وصوفيين معاصرين ينسجون لها طقسا من الأخلاق والقيم وضيئاً،ويُدفئون برودة عقلها القاتلة،،ويُرمِّمون وجدانها المتداعي.إذ لا عقل بغير أخلاق،فالتصوف بحد ذاته فعلٌ عقلي،بمعنى إرادي قبل أي شيء آخر.
       ولذا تنبغي  الدعوة إلى صوفية معاصرة..صوفية ذوقية عقلية،لا تغفل طبيعة الإنسان المُنْشَعِبَةَ إلى ثلاث شعب:
       *شعبة الغرائز،وهي قوة جارفة قد تتحول إلى بركان مُدمِّر ما لم نُلْجمْها ونُهذِّبْها.
        * شعبة الخبرات والعوائد والأعراف والمواضعات والقوانين اللاجمة التي يُكسبها إياه المجتمع،والتي قد تتحول  مع الزمن إلى قيد يمنعه من الانطلاق صوب أعالي الحرية.
       *شعبة الطموحات والتطلعات إلى القيم السامية الكبرى والنبيلة.
       فهذه الشعب الثلاث هي المتحكمة في الإنسان نفسيا وبيولوجيا،وفي وجهة سيره.ولكن مع الأسف نرى أن الشعبتين الأولَيَيْن قتلتا الشعبة الثالثة حيث تتمثل القيم الإنسانية العليا،ولذا بدا مستقبل الحضارة قاتما وغامضا،منذراً ومهدِّداً،ما لم  تتغير كفة الميزان لصالح الشعبة الثالثة،وعلى حساب الشعبتين الأوليين.وقد نبَّه إلى هذا الخلل بِرْجْسُونْ في كتابه(منبعا الأخلاق والدين)،و آلاَنْ تُوفْلِرْ في(صدمة المستقبل Future Chock)،حيث نادَى بضرورة التخطيط للمستقبل تخطيطا أخلاقيا وإنسانيا يصيب السياسة في كبدها،لأنها لم تَعُدْ تُولِي البعدَ الأخلاقي أية أهمية تُذْكَر،وكذلك روجيه غارودي في كتابيه :(نداء إلى الأحياء)و(وُعُود الإسلام)،فقد دعا إلى وضع حد لوحشية الحضارة المعاصرة ولا إنسانيتها،فما يحصل فيها الآن هو نوع من النمو وليس التنمية.إنه نمو لا يضبطه أي رادعٍ أخلاقي،فهو يشجع الغرائزَ على الإفلات من معاقلها،والظواهرَ الغربية الشاذةَ على الانتشار في كل صقع.والحل المنشود لا تقدمه السياسة لأنه غائب عنها، وإنما تُقدمه الأخلاق،فهي وحدها القادرة على فعل المدهِشات في هذا المجال. فالإنسانية في حاجة إلى شخصيات صوفية تُرَوِّجُ لمنظومة أخلاقية معاصرة ومواكبة للتقدم التكنولوجي الهائل  ، فتهذبه،وتحفر له القنوات نحو غايات أكثر سموا ونُبلا.(12)
        1.3 ديانة العصر المتصاعدة:فالديانات اليوم غدت تتراجع بشكل مُفزِعٍ ومثير للقلق، وذلك من جراء تصاعد ديانة جديدة ،هي ديانة العصر المتمثلة في التكنولوجية العالية. فهذه  الديانة العصرية ترفض أن تكون للإنسان أية قيمة غير قيمته الاقتصادية،فهو إما مُستهلِكٌ أو مستهلَكٌ،ولا خيار له.وبناء على هذا أضحت هذه الديانة العصرية المفتقِدة لأي حسٍّ إنساني تنزع عن الإنسان إنسانيته،وتُهدد جوهره وكينونته.
        وإذا كان نيتشه قد صرخ قائلا:((لقد مات الله)) فإن صرخته تلك لم يقصد بها سوى موت الإيمان والقيم الروحية العالية في القلوب،وفي الضمائر والمشاعر،وإلا فإن الله عز وجل حي لا يموت،فهو الحي الباقي.وقد جاء في الحديث النبوي الشريف الذي أورده البخاري في صححه أن الإيمان يزيد وينقص،وفي الحديث القدسي أن الله تعالى قال:((ما وسعتني أرضي ولا سمائي،ولكن وسعني قلب عبدي)).وكلما نقص الإيمان  وذبُل دبَّ الموت إلى القلوب،وأصبح الناس مجرد (رُبُوَات) بلا مشاعر وأحاسيس،لأنهم ((نسوا الله فنسيهم)).
         إن كل شيء في هذا العالم يجري ولا يتوقف كالمياه ليل نهار، وكل شيء فيه متحول وزائل ما عدا القيم الروحية والأخلاقية فهي ثابتة وخالدة،لأنها من نفَس الرحمن.ونحن إذا تعوَّدنا أن تكون أفكارنا ومشاعرنا خَيِّرة جرَتْ في أذهاننا ووجداناتنا  أقنية الخير،فنشعر بالخير،ِر بالخير،ونجترح الخير،ونحلم بالخير.فالكائن البشري هو في جوهره كائن مناقبي،وما على العارفين من كُمَّل الصوفية في هذا العصر إلا أن يعيدوه إلى جذوره...إلى مناقبه ووجدانه الذي بُتِر منه،فتحقيق الكمال المناقبي لإنسان الحضارة المعاصرة هو من أَوْلَى الأوْلَويات،لإنقاذه وإنقاذ الحضارة من الإفلاس وغرغَرَة الموت.(13)
        2.3 حداثات البعد الواحد:فالمجتمعات المعاصرة تعيش الآن مأزقا لا تُحسدُ عليه..مأزق حداثات البعد الواحد،فهي حداثات عرجاء قامت على ساقٍ واحدة هي ساق المعرفة،ونسيت ساق الأخلاق  التي فيها خلاصُ البشرية،وإزالةُ الفوارق الحادة بين الطبقات،والفقر والتخلف من المجتمعات.ولأنها هكذا؛فقد تحولت إلى حداثات ( وحشية) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات.
       فبين أنقاض الحرب الكونية الأولى وإرهاصات الحرب الكونية الثانية نهضت الحداثةُ لتَكُونَ احتجاجاً مُدَويا على فساد مجموعة من القيم التي تَبَنَّتها البورجوازيات الغربية بدءا بعصر النهضة الأوروبية ومرورا بعصر التنوير،ثم انتهاء بالثورة الفرنسية الكبرى.ولتَفْتَحَ لإنسان القرنين:التاسع عشر والعشرين أفق الأمل في حياة سعيدة ومتوازنة،فهل حققت ذلك فعلاً؟
        إنها عرفت مرحلة (صعود) واكبتها فيها مجموعة هائلة من الاكتشافات العلمية للطبيعة والمجتمع على حد سواء،فأسهمت في اقتلاع جذور العلاقات الإقطاعية،وبناء الاقتصاد الحر للمدَنِية الرأسمالية،ولكنها بدأت تعرف مرحلة (هبوط) مع وصول قطارها إلى محطة العبث بالإنسان.فبعد أن كانت (رؤيا كونية) لا يقتصر مفعولها في الأحب والفكر والفلسفة والتقنية على الإبداع الغربي وحده،وإنما تنعكس – كالآلة والاستعمار والأفكار – على كل مجتمع في الدنيا بشكل(قومي) مختلف،حيث تقوم على أشكال متنوعة يظهر أحدها في وقت ما ثم يختفي،ليظهر الشكل الآخر ويسود ثم يحتجب،ليَبرز ويتألق في الضوء ذلك الذي كان قد اختفى،أصبحت الآن فَخّاً،ليس لاصطياد الإشكاليات وحلها، بل للتربُّص بالإنسان وقَسْرِهِ على العيش في بُعْدٍ واحد.فهي قد نزعت عنها  لبوسَ نِسْبِيَّةِ مفهومها تاريخيا واجتماعيا، وارتدت لبوسَ المفارقة المتعالية.ويجب هنا أن نُفَرِّقَ جيداً بين (الحداثة) كمفهوم وتصور للعالم، وبين الفكرة الشائعة عن العصر(الحديث)أي المرحلة الراهنة من التاريخ.(14)
            3.3 تَلاعبُ علم النفس السلوكي بالعقول:فبتوجيهٍ من حداثات البعد الواحد هاته استطاعت الآلة الحضارية أن تسحق كل المشاعر النبيلة المُتَرَفِّعَة عند الإنسان،وأن تقتل فيه الحسَّ الصوفيَّ الرفيع،بل  وأن تتحكم في عقله وتُحَوِّله إلى عقل غريزي،هدفه الاستجابة إلى نداءات الإعلام الاقتصادي\التجاري؛ الذي وُظِّفَ بكثير من الحنكة والمهارة على يد علم النفس السلوكي.فهذا العلم يعرف متى،وكيف، وتحت أي ظرفٍ يستطيع أن يُلهب غرائز الإنسان،ويلعبَ بعقله مثلما يلعب بالعجينة الرخوة،فيُحَوِّله إلى ما يُشبه الغريزة،ويجعله منقاداً ومُستهلِكاً بكثير من الانبهار والدهشة لما تُنتجه بشكل لا يتوقف الآلةُ الصناعيةُ الضخمةُ.(15)
           4.3  تُخمةٌ في المعرفة وجوعٌ إلى الفضيلة:فالحضارة حضارةٌ آليةٌ تتسم بالاغتراب..اغتراب الإنسان عن ذاته،وعن قيمه.
            والعصر عصرُ مفارقات وتناقضات،فهو من جهة يمتلك فيضاً في المعرفة غزيراً،ومن جهة أخرى يشهد غيضاً وتدهوراً فظيعين على صعيد الفضيلة.ولذلك اكتسحه القلقُ، وغمرته الكآبة النفسية.فالمجتمعات فيه اليوم تعيش حالات من الانفصام والانشطار والتشظي والصراع المحموم على مستوى الروح،والسبب الحقيقي لهذا كله ربما يكمن في أن هذه المجتمعات لم يَعُدْ يَلَذُّ لها الربطُ بين المعرفة والفضيلة،فهي تشكو من تخمة في المعرفة،ومن جوع إلى الفضيلة.
        وإذا اعتبرنا المعرفة هي مجموع العلوم والتقنيات والاختراعات التي تُطل علينا في كل لحظة،لا وتُبهر نظرنا،فإن نظرة متأنية إلى هذه المعرفة ستؤكِّد لنا (وحشيتها)؛إذا جاز أن توصَف المعرفة بهذا الوصف؛وتدفعنا إلى التساؤل عن الإنسان المعاصر،كيف هي حاله؟ وما هو وضعه؟ وهل استطاع أن يُكَوِّن لنفسه منظومة أخلاقية تغدو بمثابة البوصلة لمعرفته،بحيث تُحدِّد لها المسار والاتجاه؟ وهل استطاع كذلك أن يجمع بين المَجْدَيْن:مجد المعرفة ومجد الفضيلة؟.
           إن إنسان هذه المجتمعات –الذي يُسَمِّيه ميشيل فوكو((ابتكاراً حديثاً))- يعيش حالة من القلق ممِضَّةً ومضاعفةً؛شَخَّصَها ريتشاردْ شاخْتْ،وأطلق عليها لقب الاغتراب.فمُنجزات البشرية خلال النصف الأخير من القرن العشرين قد فاقت كَمّاً وكيفاً منجزاتها طيلة العشرين قرنا السابقة،ولكنها أدَّتْ إلى ((مَكْنَنَةِ)) الإنسان في العالم الصناعي المتطور،فكان الاغتراب بين الفرد وبين المجتمع،وبينه وبين الطبيعة،وبينه وبين منتوجات الصناعة العالية ومباهج التقنية،وكذلك بينه وبين مجموعة القيم، ومجموعة الفضائل التي هي بُعْدُه الأونطولوجي الأعمق.كما أدت هذه المنجزات بالإنسان في العالم المتخلف إلى اغتراب مزدوج بينه وبين التاريخ من ناحية،وبينه وبين (الآخَر)- أي النموذج المتقدم – من ناحية ثانية.فالقهر هو الوجه العملي للاغتراب الشامل،والشعور بالانسحاق تحت وطأة الآلة في الغرب الرأسمالي الليبرالي،وتحت نير البيروقراطية والفوضى والفساد في الشرق الاشتراكي المنهار،وتحت سلطة التخلف والآلة والمحسوبية والبيروقراطية والفساد والاستبداد جميعاً فيما يُسَمى ب(العالم الثالث).(16)
          هذا هو الإنسان المعاصر
          إنسان تقني مغترب عن الذات،غارق من قمته إلى أخمص قدميه في بحر من العلوم والتقنيات الحديثة،وفي بحر من الاستهلاك الذي لا قعر له.يشعر شيئا فشيئا أنه فقد السيطرة والسيادة على زمام الأمور،فهو يعيش حالة وجدانية عويصة،لا لشيء إلا لأن حضارته وصلت إلى أفق مسدود،ومأزق مميت،يُحس إذْ يُسهم في تقدمها من خلال التطوير المستمر في التقنيات الحديثة أنه أسير لهذه التقنيات،بل وعبد لها. ولا شيء يبعث الخوف والرعب في قلبه أكثر من هذه الأدوات التي  ابتكرها،وتلك التقنيات الجديدة التي اخترعها،وتِلْكُمْ الأنماط الاجتماعية التي أدت إليها مَدَنِيتُه الحديثة(17)المفتقدة لأي ضابط خُلُقي.
          5.3 أخلاق منغلقة وأخلاق منفتحة:والخُلُق خلُقان:
               *خلق آت من طريق الإلزام.
               *وخلق آت من طريق الالتزام الإرادي.
     ويَذهب هنري برجسون في كتابه(منبعا الأخلاق والدين)- الصادر عام 1932م،والذي يدعو فيه إلى ضربٍ من التصوف موافق للعصر-إلى أن النوع الأول من الأخلاق هو خُلقٌ سلبي وخانعٌ،لا يُقدم ولا يؤخر في مسيرة الحضارة،ونجده في المجتمعات المنغلقة،وكذلك في الديانات المنغلقة،حيث يُلْفيِ المرءُ نفسه مقيدا ومغلولا بكثير من التقاليد والأعراف والنُّظُم الاجتماعية التي يصعب عليه الفكاك والتحلل منها،فهو قد ربط كيانه بها،وغَلَّله بعدد من الطقوس والممارسات الأخلاقية كيما يشعر بشيء من الاطمئنان والسلام النفسي.وهذا السلوك هو نتيجة فكرة(الطابو)،فالمرء لا يمارسه عن اقتناع،وإنما لكي ينتزع رضا (الطابو) ورضا الآخرين.و(الطابو)الذي تقدسه وتخشاه القبائل البدائية ما يزال – وإن بثوب آخر- في بعض المجتمعات المعاصرة،ولو أردنا أن نفتش عنه لوجدناه شاخصاً في عدد من التقاليد والمُحَرَّمات والعوائد والقوانين الاجتماعية التي تُكَبِّل الفرد وتجعله غير قادر على معانقة بُعْدِه الأخلاقي بملء حريته،وإذا كان لديه نزوع أخلاقي فهو مرتهن ومقيد لسلطةٍ خارجةٍ عن إرادته،لا تتوقف عن قمعه كلما شَبَّ فيه هذا النزوع وانقلب إلى ممارسة.ولذا؛فإن الأخلاق في مثل هذه المجتمعات غالبا ما تكون أخلاقاً نفعيةً لا هدف لها،ولا غاية سوى إرضاء السلطة السائدة هَرَباً من القمع الذي تُشهره.
       أما النوع الثاني من الأخلاق فهو خُلُقٌ إيجابي فاعلٌ، مُخَطَّطٌ له من قِبَل العقل والوجدان،يهدف إلى إيجاد حالة من السمو في العلاقات بين البشر،مُنفتِحٌ على الحياة وعلى الكون والكائنات،وظيفتُه يُحَدِدها عقل مستنير،وبصيرةٌ شفافةٌ.له غرضٌ وغاية وهدف هو الارتقاء بالإنسان،وتحديد وجهةُ سيره ومصيره،وجعلُه فاعلا في المجتمع ومتفاعلا معه،مُؤَثِّراً في سير الحضارة،ومُصَوِّباً أخطاءَها ومزالقها،ومُقَوِّماً اعوجاجاتها.
           فهذا النوع من الأخلاق هو المفتقد الآن في الحضارة المعاصرة،وهي التي  تدعو الحاجة إلى بناء نسَقه وفق رؤية صوفية معاصرة،لتنتهجه هذه الحضارة التي تلوح بوادر احتضارها في الأفق، بعد انزياحِها عن دائرة الخُلُق الحي(18)،ودخلِها في دائرة القسوة المُمَنْهَجَة،والإخلالِ بالتوازن الكوني،وبالطمأنينة النفسية للإنسان على هذه الأرض.
         4- مفكرون  ينتقدون انحراف الحضارة
        ولهذا لا نستغرب حدة الانتقادات التي وجهها إليها مفكرون من داخلها حينما رأوا فيها انحرافات تُنذر بالخطر،وفي مقدمتها ذلك التصور الذي تقوم عليه،والمتمثل في إنسانٍ مُدَجَّجٍ بسلاح المعرفة، خالٍ من أية طلقةٍ تتعلق بالفضيلة.ولأجل هذا بالذات صارت هذه الحضارة اليوم تتخبط في أزمات متلاحقة مع ذاتها ومع الآخرين،بحيث تُسلمها أزمة لأخرى،وهذه الأزمات تجد تعبيرها الحقيقي في المساعي التي يقوم بها هؤلاء المفكرون الذين هَبُّوا لنقدها وانتقادها،أمثال:ليفي شتراوس،وبيير بورديو،وروجيه غارودي،وجورج بالاندييه،وميشيل فوكو،ولاكان.فكلهم برهن من زاويته العلمية والفكرية والفلسفية والنفسية الخاصة على أن ثمة علةً خطيرة تنطوي في جوف الحضارة المعاصرة،وهي خُلُوها من أية منظومة أخلاقية فعَّالة،فهي قد بالغت كثيرا في فوقيتها،وفي نظرتها المتعالية إلى الآخرين،حيث إنها لا تقيس أية ثقافة لأي شعبٍ إلا بمدى قُربها أو بُعدها من ثقافتها هي،فإن كانت قريبة منها أو على علاقة بها فهي ثقافة عريقة ومحترمة،وإن كانت بعيدة عنها ومستقلة أو رافضةً لأي نمط من العلاقة المُذِلَّة والمُهِينة فهي ثقافة بدائية ووحشية،وغير عريقة،وغير محترمة.
         إن هذا المفهوم المتعجرف للثقافات هو الذي دفع بهؤلاء المفكرين إلى انتقاد الحضارة المعاصرة،وإلى الحفر الأركيولوجي في الثقافات غير الغربية لاكتشاف أبعادها الإنسانية،وينابيعها الفكرية الخالدة.فغارودي من خلال مشروعه (حوار الحضارات) سفَّه ذلك المفهوم،وبيَّن للغربيين بالحجة والبرهان والدليل أن حضارتهم ستصبح مجرد جثة هامدة،مبتورة وناقصة إذا ما سلخت نفسها عن حضارة الشرق وثقافته،لأن الثقافات الشرقية – في رأيه- قد انطوت على بُعد إنساني،وعرفت كيف تربط بين المادة والروح،وبين الدين والدنيا،وكيف تُوجِدُ دائماً لمعرفتها نسقاً أخلاقيا.في حين أن الثقافة الغربية لم تنطو على البعد الإنساني المطلوب،لكونها لم تستطع الربط بين معرفتها المتقدمة من جهة وبين نسق أخلاقي متطور من جهة أخرى.
       ويرى جورج بالاندييه من خلال كتابه (الأنثروبولوجية السياسية) أن المعرفة التي يتباهى بها الغرب تُشكل أحد أكبر التهديدات للبشرية،لأنها تفتقر إلى الحس الإنساني،كما أنها تفتقد إلى أية فلسفة أخلاقية.والمطلوب اليوم منها هو الاعتراف بالثقافات الأخرى،وليس التفكير بطمسها،كما هو مطلوب منها كذلك الاعتراف بالآخرين واحترامهم،واعتبارهم شركاء حقيقيين في قيادة البشرية نحو السلام والأمن،وليسوا مجرد بشرٍ  ينتمون إلى عالمٍ (بدائيٍّ) متخلف،تُطلقُ عليه لقباً مُهَذَّباً هو (العالم الثالث).فالحضارة في جوهرها هي حوار الإنسان مع العصر،تزدهر حين يصبح هذا الحوار في ذروة الانفتاح على الآخرين،وتتدهور حين يخفت إلى درجة الانغلاق على الذات،(19)ومن ثمة فإن كل حضارة تتلبس لبوس الهيمنة،بحيث لا تسمع إلا صوتها،ولا تتغيى إلا أقاصي المادة ،فإنها لن تكون إلا سرداباً تتناسل فيه غيلان الوحشية،وتتعارك حتى يُفني بعضها بعضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                  الهوامش
1-سمير أبو حمدان:كمال جنبلاط في بعده الآخر،ط1،منشورات عويدات الدولية،بيروت\باريس 1991م،ص ص:22،23. –  وانظر:محمود شريح في(تصور هيغل للعلاقة الجدلية بين شكل القصيدة ومضمونها)،دار الجامعة للنشر،1987م،ص:123.
2-عبد القاهر الجرجاني:كتاب التعريفات،تح:عبد الحميد جوهر،دار التراث،بيروت1970م،ص:90.
3-سمير أبو حمدان،مرجع مذكور،ص ص:25،26.
4-د.توفيق الطويل:في تراثنا العربي والإسلامي، سلسلة(عالم المعرفة)، الكويت1985م،ص:171.
5-أبو حامد الغزالي:المنقذ من الضلال،تح:رضوان السيد،دار اقرأ،بيروت1980م،ص:60.
6-سمير أبو حمدان،مذكور،ص:52.
7-نفسه.
8-الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن،تح:محمود شاكر،دار المعارف، القاهرة 1971م،2\8 وما بعدها.
9-ابن عربي: الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت 1954م،4\90.
10-د.نصر حامد أبو زيد:فلسفة التأويل، دار التنوير ودار الوحدة ،بيروت1983م،ص:393.
11-سمير أبو حمدان،مذكور،ص:87.
12-نفسه،ص ص:69،70.
13- نفسه،ص ص:71،72.
14-د.غالي شكري:أقواس الهزيمة،ط1،(كتاب الفكر15)،دار الفكر للدراسات والنشر،القاهرة\باريس 1990م،ص ص:17،75.
15-سمير أبو حمدان،مذكور،ص:64.
16 غالي شكري  :أقواس الهزيمة،ص ص:72،73.
17- سمير أبو حمدان ،مشار إليه،ص:60.
18- نفسه،ص ص:66،67.
19- أقواس الهزيمة،ص:121.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
         المصادر  والمراجع
1-            سمير أبو حمدان:كمال جنبلاط في بعده الآخر،ط1،منشورات عويدات الدولية،بيروت\باريس 1991م.
2-            محمود شريح: تصور هيغل للعلاقة الجدلية بين شكل القصيدة ومضمونها،دار الجامعة للنشر،1987م.
3-            عبد القاهر الجرجاني:كتاب التعريفات،تح:عبد الحميد جوهر،دار التراث،بيروت 1970م.
4-            د.توفيق الطويل:في تراثنا العربي والإسلامي، سلسلة (عالم المعرفة)، الكويت 1985م.
5-            أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال،تح:د.رضوان السيد،دار اقرأ،بيروت 1980م.
6-            الطبري:جامع البيان عن تأويل آي القرآن،تح:محمود شاكر،دار المعارف،القاهرة 1971م.
7-            ابن عربي:الفتوحات المكية،دار صادر،بيروت 1954م.
8-            د.نصر حامد أبو زيد: فلسفة  التأويل، دار التنوير ودار الوحدة، بيروت 1983م.
9-            د.غالي شكري:أقواس الهزيمة،ط 1،(كتاب الفكر 15)،دار الفكر للدراسات والنشر،القاهرة\باريس 1990م.             

      

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا