اعتبر منظّر الوضعية العلمية الحديثة «أوغست كونت» المعرفة سلطة (Savoir c’est pouvoir)، وكان قصده من ذلك جعل المعارف العلمية للقرن التاسع عشر (العلوم التجريبية والرياضية) وضعية وبمثابة أدوات فعّالة لامتلاك القوّة وممارسة السلطّة. والواقع أنّ المعارف الإنسانية الناشئة في العصر الحديث سرعان ما تحوّلت إلى أدوات نظرية ومنهجية للتحكّم وخدمة سيطرة الإنسان على الطبيعة لفتح الآفاق المجهولة له. هنا كفّت المعرفة الإنسانية عن أن تكون فقط القدرة الطبيعية للعقل على التأمل وتوصيف ما يقع حوله من أحداث ووقائع مختلفة توصيفا أخلاقيا وجماليا كما كان عليه الشأن في العصور الوسطى والقديمة.
كفّت المعرفة عن أن تكون مقدارا من المدركات المتاحة للأفراد فقط عن طريق حسّهم السليم (Bon sens) وسرعة البديهة (Réflexes)، أو بمجرّد سعيهم الدؤوب للتعرّف على الأشياء المجهولة لاكتشافها وتنمية قدراتهم الفكرية والذهنية لصالح تحقيق تقدّم عام في الثقافة والحضارة الإنسانية؛ وإنّما تحوّلت بدخول باراديغم الذات (Sujet) إلى مسرح الفكر النظري، متخذو طابع التحكّم والسيطرة كوسيلة للقهر والغزو والسيطرة على قوى الطبيعة (Jean-Marc Lévy-Lebond: Auto-critique de la science, 1973).
افتتح «فرانسيس بيكون» العصور الحديثة باعتبار “المعرفة سلطة”، ثمّ عمل «روني ديكارت»، بعده، على تجذير هذه الفكرة، رافعا بذلك المعرفة العلمية إلى مستوى نظرية التحكّم الشاملة في الطبيعة عندما أعلن في القسم السادس من “المقال في المنهج” (Discours de la méthode) أنّ معرفتنا هي التي “تجعلنا سادة على الطبيعة وممتلكين لها.” (Descartes René : Discours de la méthode).
لقد تخلّى مفتتح العصر الحديث كليّة عن نموذج توافق الإنسان مع الكون، وذلك لصالح نموذج الإعلاء من قيمة الإنسان من حيث هو ذات مفكّرة (Sujet pensant)،غرض من هذا الإعلاء من صورة العقل هو تحرير الإنسان من الصور الفكرية الخاطئة التي حجبت عنه رؤية الحقيقة كما هي بنوره الفطري (الفكر الخالص) نتيجة سيطرة النظرة الخرافية والإيحيائية القديمة.
كان ذلك مدخلا فلسفيا أساسيا لاعتبار الإنسان كائن حرّ من حيث هو عقل مفكّر، أو بتعبير «بليز باسكال» غصنا مفكّرا عظيما (roseau pensant). غير أنّ ظهور هذا المعنى للمعرفة إلى سطح التاريخ الحديث كان نتيجة ظهور وتشكّل العلوم الطبيعية الحديثة، وبصفة خاصّة منها علم الفيزياء. ولقد كانت النتيجة من ذلك أن لم يعد العلم والمعرفة يمارسان من طرف الإنسان من أجل الفضيلة كما اعتقد بذلك قدماء اليونان والقروسطيين بعدهم، وإنّما أصبحت المعرفة بحثا عن القوة للتغلّب على صعوبات الحياة وقهر الطبيعة والتحكّم بها.
قطعت العلوم الحديثة مع المنظور التقليدي للمعرفة لصالح ما يمكن الاصطلاح عليه بعبارة “إقامة معرفة بديلة” تمكّن الإنسان، بعد ضبطه لقوانين الطبيعة، من أن يقهر الطبيعة باستعمال قوانينها ضدّها لصالح منفعة البشر. غير أنّه لمّا كانت علاقة السلطة بالمعرفة قديمة قدّم تفكير الإنسان نفسه، فقد استجدت مسألة ترابط المعرفة بالسلطة بالنظر إلى كونها وليدة سياق حديث بعض المفكّرين عن دور العلوم الحديثة في السيطرة على الطبيعة، ومن ثم اعتبار المعرفة سيادة وهيمنة للإنسان (Jacques Testart : L’humanitude au pouvoir, 2015).
خلافا لذلك، روّجت النظرية النقدية لمقولة “تحرير الوجود الإنساني من ظروف استعباده واستلابه”؛ فكان أن دعا ماركس إلى جعل الفلسفة تنتقل من مجرّد فهم العالم إلى ضرورة تغييره. لكن مدرسة فرانكفورت النقدية أدركت، بعد قرن من الزمن بعده، أنّ عمليتا فهم وتغيير هذا العالم لا يمكن الفصل بينهما بسهولة. والبيّن من ذلك أنّ المعرفة ليست محايدة في نسق القيم المعرفية والثقافية الحديثة والراهنة، وذلك لأنّها تحوّلت لتصبح أداة طيّعة قابلة للتوظيف الأيديولوجي والاستثمار السياسي.
ظهرت بوادر الشكّ والريبة من علاقة المعرفة بالسيطرة لدى العديد من مفكّري النقد الثقافي والسوسيولوجي المعاصرين خاصّة لدى رواد مدرسة فرانكفورت، ولدى بعض المفكّرين الناقدين لفكرة السلطة والهيمنة المعاصرين، أمثال: «مشيل فوكو»، «بيير بورديو»، «الآن باديو»، «سلافوي جيجيك»، الخ. وقد كانوا متأثّرين بتصوّرات فلاسفة الريبة والشك المعروفين بفضح أيديولوجيا النزعة الأنوارية للقرن التاسع عشر خاصّة «كارل ماركس»، «فريدريش نيتشه» و«سيكموند فرويد» الذين عزّزوا أهمّية النظرة النقدية إلى المعارف الإنسانة باعتبارها متحيّزة وأيديولوجية، مغلّفة بنزوع السيادة والبحث عن السيطرة والهيمنة.
تخفي المعرفة بطبعها القوة التي تنطوي عليها، هذا ما يبرزه الواقع الذي تنكشف فيه تلك السيطرة التي تسمح بها لمن يمتلكها. لذا؛ فالمعرفة تجسيد كمّي ونوعي للقوّة التي تمّ الاستحواذ عليها بعنف تأويلات الذوات العارفة والمؤوّلة؛ بينما العالم حصيلة القوى التي تتناحر فيه بغية الاستحواذ على كميات السلطة فيه. إنّه تجسيد واقعي لسيادة القوّة والسيطرة بداخله وفي بنيته (جيل دولوز).
ولمّا كان معنى الشيء هو هذه القوّة التي تستحوذ عليه وتُخضعه، أصبحت إمكانية نفهم لماذا يسكن الصراع عمليات إنتاج المعاني مثيرا للمتأمل والقارئ النبيه، حيث سرعان ما يكتشف كيف أنّ كمّية القوة لا تنصبُّ إلا على قوة أخرى مضادة لها. بالتالي، فإنّ لا يعطى المعنى بشكل مباشر، ولا هو أوّلي كما تعتقد ميتافيزيقا العقل، بل هو يتمّ في صيغة عنف تأويلي يريد أن يستحوذ بقوّة على باقي التأويلات الأخرى ليقلبها للسيطرة عليها أو إلغائها كلية (مشيل فوكو).
تدخل القوة، إذاً، في نسيج المعرفة وتسكن قلبها، ومن ثمّ فهي لا تشكل تطبيقا لها وحسب كما يمكن أن يعتقد للوهلة الأولى. إنّها لا تتجلى في تطبيق المعرفة فسحب، وإنما هي في قائمة ثناياها، وما الصراع بين التأويلات سوى تجلّ من تجلّيات الصراع بين الإرادات والفئات والطبقات، يتولد عن التوظيف الإيديولوجي للمعارف. كان ينبغي زحزحة مفهوم السلطة عن معناه التقليدي وانتزاعه من الاحتكار الذي كان الفكر السياسي يمارسه عليه، وذلك لجعل القوة تقع في قلب المعرفة وداخل نسيجها، وبالتالي إقحام التسلط والاستحواذ في عملية المعرفة ذاتها (François Jarrige: Face au monstre mécanique 2009).
وللقيام بهذا الأمر، يلزم تنقية مفهوم السلطة من رواسب سياسية ولاهوتية ظلت مقترنة به، وجعلته يحيل على تراتبية قمّة الهرم كما فهمه المنظور السياسي التقليدي المحتكر الحديث عن السلطة. والسلطة بهذا المعنى لم تعد تحمل دلالة سياسية حصرا، ولا هي تشير فقط إلى موقع معين يمثّل رأس هرم الدولة. لقد تجاوزت نظرية السلطة المعاصرة هذه الدلالة المحصورة في المعطى السياسي فقط، حيث التموقع السياسي هو ما يقسِّم المجتمع إلى من يمتلك السلطة ومن لا يمتلكها. بذلك، لم تعد مشكلة السلطة تُطْرح ضمن النطاق الضيّق لنظرية الدولة والحكم؛ وإنّما هي تشمل مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وبصفة خاصّة المحدّدات الثقافية للمعرفة، أو ذاك الذي يمكن نعته بالأطر الاجتماعية للمعرفة.
من جانبه، سعى اتجاه التحليل النقدي للخطاب إظهار تلك العلاقات الوثيقة بين اللغة والسيطرة، وعمل على سحبها لتطال علاقة المعرفة بنظرية السلطة عبر نقد أيديولوجيا الهيمنة والسيطرة. وهكذا، تحوّلت المعرفة، في دوائر إنتاجها والتحكّم بها (المؤسسات والدول والشركات)، من مجرّد بحث أكاديمي ينجز ضمن دائرة المهتمين المتخصّصين في الجامعات والمعاهد العليا إلى وسيلة فعّالة لكسب الربح وبسط النفوذ والسيطرة على الآخرين (Denis Gautier: Environnement, discours et pouvoir, 2012).
يُستخلص ممّا سبق أنّ امتلاك المعرفة يُعَدُّ سلطة، بل سيطرة بمكنتها تحقيق التفوّق والسيادة للذي يحوزها كما نعاين في عالم اليوم، حيث الدول المسيطرة هي التي تمتلك ناصية العلم والتقنية والاقتصاد الذي يمكنها من بسط سيطرتها على كلّ شيء بدءً بالطبيعة وانتهاءً بالمجتمعات والمؤسسات الدولية المختلفة. لذلك، لم يعد غريبا أن يتم الاستثمار في التقنيات العالية الدقّة خاصّة منها الذكاء الاصطناعي الذي يعد بالمزيد من التحكّم والسيطرة للكيانات التي تمتلكه. لقد كفّت المعرفة عن أن تكون مجرّد قدرة كامنة في عقول النجباء، وها هي الآن تتحول لتكون سلاحا رقميا واقتصاديا للسيطرة من منظور تحكُّمي ربحي، ولهذا تحوّلت نظرة المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين للتركيز على تطوير الذكاء الاصطناعي، وعيا منهم بكونه الأداة الجديدة للسيطرة وكسب رهان التنمية غير المرهونة بندرة الموارد الطبيعية.