بيت من لحم
الخاتم بجوار المصباح .
الصمت يحل فتعمى الآذان .
يضع الخاتم . في صمت أيضا يطفأ المصباح .
والظلام يعم . في الظلام , أيضا تعمى العيون .
الأرملة وبناتها الثلاث .
والبيت حجرة .
والبداية صمت .
الأرملة طويلة , بيضاء , ممشوقة في الخامسة والثلاثين .
وبناتها أيضا طويلات , فائرات . لا يخلعن الثوب الكاسي الأسود بحداد أو بغير حداد, صغراهن في السادسة عشر , وكبراهن في العشرين , قبيحات , ورثن جسد الأب الأسمر المليء بالكتل غير المتناسقة والفجوات , وبالكاد أخذن من الأم العود .
الحجرة رغم ضيقها , تسعهن في النهار – رغم فقرها الشديد – مرتبة أنيقة , يشيع فيها جو البيت , وتحفل بلمسات الإناث الأربع .
في الليل تتناثر أجسادهن كأكوام كبيرة من لحم دافئ حي , بعضها فوق الفراش , وبعضها حوله , تتصاعد منها الأنفاس , حارة , مؤرقة , أحيانا عميقة الشهيق .
الصمت خيم مذ مات الرجل , والرجل مات من عامين بعد مرض طويل . انتهى الحزن وبقيت عادات الحزانى , وأبرزها الصمت .. صمت طويل لا يفرغ , إذ كان , في الحقيقة صمت انتظار , فالبنات كبرن , والترقب طال , والعرسان لا يجيئون , ومن المجنون الذي يدق باب الفقيرات القبيحات , وبالذات إذا كن يتامى ؟ .. ولكن الأمل , بالطبع موجود , فلكل فولة كيال , ولكل بنت عدلها , فإذا كان الفقر هناك , فهناك دائما من هو أفقر , وإذا كان القبح هناك , فهناك دائما الأقبح , والأماني تنال , أحيانا تنال , بطول البال .
صمت لم يكن يقطعه إلا صوت التلاوة .. يتصاعد في روتين لا جدة فيه ولا انفعال .. والتلاوة لمقرئ , والمقرئ كفيف , والقراءة على روح المرحوم , وميعادها لا يتغير , عصر الجمعة يجئ , بعصاه ينقر الباب , ولليد الممدودة يستسلم , وعلى الحصير يتربع , وحين ينتهي , يتحسس الصندل , ويلقي بتحية لا يحفل أحد بردها , ويمضي.
بالتعود يجئ , بالتعود يقرأ , بالعادة يمضي , حتى لم يعد يشعر به أحد .
دائم هو الصمت , وحتى وتلاوة عصر الجمعة تقطعه , أصبحت وكأنها قطع الصمت بصمت . دائم هو كالانتظار , كالأمل , أمل قليل ولكنه دائم , فهو أمل في الأقل , دائما لكل قليل أقل , وهن لا يتطلعن لأي أكثر , أبدا لا يتطلعن .
وتدرك الأرملة وبناتها الآن فقط , كنه ما تقدم , ليس فقط الصوت الوحيد الذي كان يقطع الصمت ولكن , أيضا , الرجل الوحيد كان , ولو في الأسبوع مرة , يدق الباب , بل أشياء أخرى يدركن , فقير مثلهن صحيح , ولكن ملابسه أبدا نظيفة , وصندله دائما مطلي , وعمامته ملفوفة بدقة يعجز عنها المبصرون , وصوته قوي عميق رنان .
والاقتراح يبدأ : لماذا لا يجدد الاتفاق , ومنذ الآن , ولماذا لا يرسل في طلبه هذه اللحظة ؟ .. مشغول , فليكن , الانتظار ليس بالجديد . وقرب المغرب يأتي , ويقرأ , وكأنه أول مرة يقرأ , والاقتراح ينشأ , لماذا لا تتزوج إحدانا رجلا يملأ علينا بصوته الدار ؟ .. هو أعزب , لم يدخل دنيا , وله شارب أخضر , ولكنه شاب , وبالكلام يجر الكلام , ها هو الآخر يبحث عن بنت الحلال .
البنات يقترحن , والأم تنظر في وجوههن , لتحدد من تكون صاحبة النصيب والاقتراح , ولكن الوجوه تزور , مقترحة , فقط مقترحة , قائلة بغير كلام : أنصوم ونفطر على أعمى ؟ .. هن ما زلن يحلمن بالعرسان , والعرسان عادة مبصرون . مسكينات , لم يعرفن بعد عالم الرجال , ومحال أن يفهمن أن الرجل ليس بعينيه .
-تزوجيه أنت يا أماه .. تزوجيه .
-أنا ؟ .. يا عيب الشوم ! .. والناس ؟!
-يقولون ما يقولون .. قولهم أهون من بيت خال من رنين صوت الرجال .
-أتزوج قبلكن ؟ .. مستحيل .
-أليس من الأفضل أن تتزوجي قبلنا , ليعرف بيتنا قدم الرجال فنتزوج بعدك . تزوجيه . تزوجيه يا أماه .
وتزوجته .. زاد عدد الأنفس واحدة , وزاد الرزق قليلا , ونشأت مشكلة أكبر .
الليلة الأولى انقضت وهما في فراشهما , هذا صحيح , ولكنهما حتى لم يجسرا على الاقتراب , ولو صدفة , فالبنات الثلاث نائمات , ولكن من كل منهن ينصب زوج من الكشافات المصوبة بدقة إلى المسافة الكائنة بينهما , كشافات عيون , وكشافات آذان , وكشافات إحساس . البنات كبيرات , عارفات , ومدركات , والحجرة كأنما تحولت بوجودهن الصاحي إلى ضوء نهار . ولكن بالنهار لم يعد ثمة حجة , وواحدة وراء الأخرى تسللن , ولم يعدن إلا قرب الغروب و مترددات , خجلات , يقدمن رجلا , ويؤخرن رجلا , حتى يزددن قربا , وحينذاك يدهشهن , يربكهن , يجعلهن يسرعن , ضحكات, قهقهات رجل , تتخللها سخسات امرأة .. أمهن لابد تضحك , والرجل الذي ما سمعنه إلا مؤديا خاشعا ها هو يضحك . بالأحضان قابلتهن ولا تزال تضحك , رأسها عار وشعرها مبلل ممشط ولا تزال تضحك , وجهها , ذلك الذي أدركن للتو أنه كان مجرد فانوس مطفأ عشش فيه العنكبوت والتجعيدات , فجأة , أنار , ها هو أمامهن , كلمبة الكهرباء , مضيء . ها هي عيونها تلمع وقد ظهرت وتلألأت بالدمع الضاحك .. تلك التي كانت مستكنة في قاع المحجر .
الصمت تلاشى واختفى تماما , على العشاء وقبل العشاء وبعد العشاء , نكت تثرى وأحاديث , وغناء ,صوته حلو وهو يغني ويقلد أم كلثوم وعبد الوهاب , صوته عال , أجش بالسعادة , يلعلع .
خير فعلت يا أماه . وغدا تجذب الضحكات الرجال , فالرجال طعم الرجال .
نعم يا بنات . غدا يجيء الرجال ويهل العرسان . ولكن الحق أن ما أصبح يشغلها , ليس الرجال أو العرسان , ولكنه ذلك الشاب , كفيف فليكن , فما أكثر ما نعمى عن رؤية لمجرد لأنهم عميان, هذا الشاب المتدفق قوة وصحة وحياة , ذلك الذي عوضها عن سنين المرض والعجز والكبر بغير آوان .
الصمت تلاشى , وكأن إلى غير رجعة , ضجيج الحياة دب , الزوج زوجها وحلالها , وعلى سنة الله ورسوله , فماذا يعيب , وكل ما تفعله جائز . حتى وهي لم تعد بالمواربة أو بكتمان الأسرار , حتى والليل يجيء , وهم جميعا معا , فليطلق العقال للأرواح والأجساد , حتى والبنات مبعثرات , متباعدات , يفهمن ويدركن وتتهدج منهن الأنفاس والأصوات , مسمرات في مراقدهن , يحبسن الحركة والسعال , تظهر الآهات فتكتمها الآهات .
كان نهارها غسيل في بيوت الأغنياء , ونهاره قراءة في بيوت الفقراء , ولم يكن من عادته أول الأمر أن يؤوب إلى الحجرة ظهرا , ولكن , لما الليل عليه طال , والسهر أصبح يمتد , بدا يؤوب ساعة الظهر , يريح جسده ساعة من عناء ليل ولى , واستعدادا لليل قادم . وذات مرة , بعدما شبعا من الليل , وشبع الليل منهما , سألها فجأة عما كان بها سلعة الظهر , ولماذا هي منطلقة تتكلم الآن ومعتصمة بالصمت التام ساعتها , ولماذا تضع الخاتم العزيز عليه الآن , إذ هو كل ما كلفه الزواج من دبلة ومهر وشبكة وهدايا , ولماذا لم تكن تضعه ساعتها ؟
كان ممكنا أن تنتفض هالعة واقفة صارخة , كان ممكنا أن تجن , كان ممكنا أن يقتله احد , فليس لما يقوله إلا معنى واحد , ما أغربه وأبشعه من معنى .
ولكن غصة خانقة حبست كل هذا , وحبست معه أنفاسها . سكتت . بآذانها التي حولتها إلى أنوف وحواس وعيون , راحت تتسمع , وهمها الأول أن تعرف الفاعلة . إنها متأكدة لأمر ما أنها الوسطي , أن في عينيها جرأة لا يقتلها الرصاص إذ أطلق , ولكنها تتسمع . الأنفاس الثلاثة تتعالى , عميقة , حارة كأنها محمومة , ساخنة , بالصبا تجأر , تتردد , تتقطع , أحلام حرام تقطعها . أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح , فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى . والغصة تزداد عمقا واحتباسا . إنها أنفاس جائعات ما تسمع . بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة متكومة , وكومة أخرى . كلها جائعة . كلها تصرخ وتئن , وأنينها يتنفس , ليس أنفاسا , ربما استغاثات , ربما رجوات , ربما ما هو أكثر .
غرقت في حلالها الثاني , و نسيت خلالها الأول , بناتها , و الصبر أصبح علقما , وحتى سراب العرسان لم يعد يظهر . فجأة ملسوعة ها هي كمن استيقظ مرعوبا علي نداء خفي : البنات جائعات . الطعام حرام صحيح لكن الجوع أحرم . أبدا ليس مثل الجوع حرام . إنها تعرفه . عرفها ويبس روحها ومص عظامها , وتعرفه , وشبعت ما شبعت , مستحيل أن تنسى مذاقه
جائعات , وهي التي كانت تخرج اللقمة من فمها لتطعمهن , هي التي كان همها حتى لو جاعت أن تطعمهن , هي الأم . أنسيت ؟! وألح مهما ألح , تحولت الغصة إلى صمت . الأم صمتت . ومن لحظتها لم يغادرها الصمت .
وعلى الإفطار كانت , كما قدرت تماما, الوسطي صامتة .
وعلى الدوام ظلت صامتة .
والعشاء يجيء , والشاب سعيدا وكفيفا ومستمتعا , ينكت لا يزال , ويغني ويضحك , ولا يشاركه الضحك إلا الصغرى والكبرى فقط .
ويطول الصبر , ويتحول علقمه إلى مرض , ولا أحد يطل .
وتتأمل الكبرى ذات يوم حاتم أمها في إصبعها , وتبدي الإعجاب به , ويدق قلب الأم , وتزداد دقاته وهي تطلب منها أن تضعه ليوم , لمجرد يوم واحد لا غير . وفي صمت تسحبه من إصبعها . وفي صمت تضعه الكبرى في إصبعها المقابل .
وعلى العشاء التالي تصمت الكبرى وتأبى النطق .
والكفيف الشاب , يصخب , ويغني , ويضحك , والصغرى فقط تشاركه .
ولكن الصغرى تصبح , بالصبر والهم وقلة البخت , أكبر , وتبدأ تسأل عن دورها في لعبة الخاتم , وفي صمت تنال الدور .
والخاتم بجوار المصباح , الصمت يحل فتعمى الآذان . وفي الصمت يتسلل الإصبع صاحب الدور . ويضع الخاتم . في صمت أيضا . ويطفئ المصباح . والظلام يعم . وفي الظلام تعمى العيون .
ولا يبقى صاخبا , منكتا , مغنيا , إلا الكفيف الشاب .
فوراء صخبه وضجته , تكمن رغبة , تجعله يثور على الصمت , وينهال عليه تكسيرا . إنه هو الآخر يريد أن يعرف , عن يقين يعرف . كان أول الأمر يقول لنفسه : إنها طبيعة المرأة التي تأبى البقاء على حال واحد . فهي طازجة صابحة كقطر الندى مرة , ومنهكة مستهلكة كماء البرك مرة أخرى . الخاتم دائم ووموجود صحيح , ولكن , وكأنما الإصبع الذي يطبق كل مرة إصبع , إنه يكاد يعرف , وهن بالتأكيد كلهن يعرفن , فلماذا لا يتكلم الصمت , لماذا لا ينطق ؟
ولكن السؤال يباغته ذات عشاء , ماذا لو طق الصمت ؟ .. ماذا لو تكلم ؟
مجرد التساؤل أوقف اللقمة في حلقه .
ومن لحظتها لاذ بالصمت وأبى أن يغادره .
يل هو الذي أصبح خائفا أن يحدث المكروه مرة , ويخدش الصمت , ربما كلمة واحدة تفلت فينهار لها بناء الصمت كله , والويل له لو انهار بناء الصمت .
الصمت الغريب الذي أصبح يلوذ به الكل .
الصمت الإرادي هذه المرة , لا الفقر لا القبح لا الصبر ولا اليأس سببه .
إنما هو أعمق أنواع الصمت , فهو الصمت المتفق عليه , أقوى أنواع الاتفاق , ذلك الذي يتم بلا اتفاق .
الأرملة وبناتها الثلاث .
والبيت حجرة .
والصمت الجديد .
والمقرئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت , وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكته في الفراش على الدوام هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه . تتصابى مرة أو تشيخ , تنعم أو تحشن , ترفع أو تسمن , هذا شأنها وحدها , بل هذا شأن المبصرين ومسئوليتهم وحدهم , هم الذين يملكون نعمة اليقين . إذ هم القادرون على التمييز , وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك , شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر , وما دام محروما منه فسيظل محروما من اليقين , إذ هو الأعمى , وليس على الأعمى حرج
أم على الأعمى حرج ؟