خاص
منذ أن كتب مؤلف مجهول ( ملحمة جلجامش ) في القرن الثامن عشر قبل الميلاد - وهي أقدم قصة
كتبها الإنسان - وحتى شيوع الأنترنيت قبل حوالي عشرين عاماً ، كان
كتّاب النثر الفني
قلة نادرة من أصحاب المواهب ، والمعرفة الموسوعية ، والخيال الخصب ، والحس الجمالي
، والأفكار الجديرة بالقراءة والتأمل . والى عهد قريب كان مثل هؤلاء الكتاب في العالم
العربي محل اعجاب واحترام المثقفين الذين يتابعون أعمالهم الجديدة بشغف . وقد قيل
(القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ) . رغم ما في هذه المقولة من اجحاف بحق بيروت
الرائدة دائما في مجالات الفكر والأدب والفن . أما بغداد فلم تعد تقرأ كثيرا هذه الأيام
،رغم تكاثر الكتّاب كالفطر بعد المطر ، بحيث بات من الصعوبة بمكان فرز الكتّاب الحقيقيين
عن الأدعياء ، الذين لا أثر في كتاباتهم لأي
فكرأو ابداع . ولم يعد الجيل الجديد يهتم بالنتاجات الأبداعية الأصيلة فكراً وفناً
، فهو يبحث في الأنترنيت وفي المجلات الخفيفة المزوقة عن توافه المعارف ، وغرائب الحوادث
، وطرائف النوادر وهي كلها أشبه بـوجبات (الفاست فود ) لا تترك أثراً في النفس ولا
حاصلاً في الذهن . ثمة سمات يتصف بها الكاتب الحقيقي من خصائص نفسية ومعايير فنية وجمالية
وأخلاقية يلتزم بها ، على خلاف الكاتب الأستهلاكي
السطحي الذي لا يهمه سوى تسويق نفسه و( كتاباته ) كأي سلعة في السوق . والفروق بين
الأثنين جذرية ،لعل أهمها ما يلي :
1 – دوافع الكتابة
الكاتب الحقيقي لا يكتب من اجل المال ، او المجد
، او الشهرة ، أو بدافع آيديولوجي معين ، بل لأنه مصاب بـ(مرض) الكتابة ، ويشتعل حماساً
للتعبيرعما يختلج في ذاته ويشعر بضرورة ملحة في البوح للناس بما لم يكتبه أحد من قبل
، ولكونه قد التقى اناسا وتملكته احساسات ليس بوسعه ان لا يعبر عنها , هكذا تظهر للوجود
النتاجات الأبداعية الممتعة.
سأل احدهم ليف تولستوي ذات مرة : كيف يستطيع الانسان
ان يكتب بشكل جيد . فقدم له الكاتب نصيحتين ثمينتين :
اولا :
على الكاتب ان لا يكتب مطلقا عن موضوع غيرشائق بالنسبة اليه شخصيا.
ثانيا : اذا اراد الكاتب ان يكتب عملا ابداعيا ما
ولكن كان بوسعه ان لا يكتبه فمن الافضل ان يتخلى عن فكرته .
2 - الموهبة :
الموهبة الأدبية وحدها ، أو الميل الى التعبير عن الأفكار والأحاسيس
عن طريق الكتابة ، غير كافية لخلق كاتب متمكن
من أدواته ، الموهبة قد تظهر في مجال الموسيقى
والشعر في سن مبكرة ( موتسارت ، رامبو ، يسينين ). أما في القصة والرواية ، فأنها تحتاج
الى الصقل والعمل الدؤوب لتنتج أثراً ذا قيمة
لو كانت الموهبة الفطرية وحدها كافية لكتب تولستوي
" الحرب والسلام " و فلوبير " مدام بوفاري " و ستندال " الأحمر
والأسود " في مقتبل العمر ، رغم ان هؤلاء الثلاثة يعدون من العباقرة الأفذاذ في
فن الرواية . تاريخ الأدب العالمي لا يقدم
لنا مثلاً واحداً على ظهور رواية عظيمة لكاتب يافع . .
كان ميخائيل شولوخوف في الثالثة والعشرين من العمرفي
عام 1928 حين نشر الجزء الأول من رواية " الدون الهاديء ". وقد شكك النقاد
على الفور في ان يكون شولوخوف مؤلف هذه االرواية حقا ، لأن شابا يافعاً من أعماق الريف
، لم يشترك في الحرب الأهلية ، ولم يتلقى تعليما يعتد به ، ولا يمتلك الا القليل من التجربة الحياتية لا يمكن أن يؤلف رواية طويلة وعظيمة
كـ( الدون الهاديء ) ، وقد صدق حدسهم فقد تبين لاحقاً ، بعد البحث والتدقيق ، أن مخطوطة الرواية تعود لضابط روسي قتل خلال الحرب الأهلية
، واستولى شولوخوف على المخطوطة واعاد كتابتها بخط يده . وقد سخر الكاتب الروسي سولجنيتسن
الحائز على جائزة نوبل في الأداب لعام 1970 ، من شولوخوف قائلاً : " بالطبع فإن
ميشا ( تصغير اسم ميخائيل ) ليس مؤلف الدون
الهاديء قطعاً
."
3 – العمل الشاق :
أن العباقرة لا يولدون ، بل يصبحون كذلك ، عن طريق
العمل اليومي الدؤوب المثابر على مدى فترة طويلة من الزمن والأصرار على تحقيق الأهداف .
لا نجد بين كبار الكتاب من أصبح معروفا بين ليلة
وضحاها . كل الكتاب العظام كانوا في البداية
يجربون طاقاتهم وادباء غير معروفين ، وكانت نتاجاتهم رديئة ودون مستوى النشر
وتطورت فطرتهم الأبداعية بالممارسة والتجريب وومحاولتهم التعلّم لأكتساب التقنيات والأدوات
، وادمان المزاولة وطول العلاج. الذي لا يكتب
يوميا – وان كان كاتبا جيدا - يجف قريحته وينضب تدفق افكاره وما يكتبه بين حين وآخر
يكون غثاً .
ليست الكتابة ، هواية يمارسها الكاتب بين حين وآخر
حسب المزاج ،ولا طريقة لتزجية الفراغ والتسلي ولا مهنة عادية كسائر المهن ، بل عمل
شاق يلتهم حياة الكاتب وينهك قواه . فهو يعيش حياتين – حياة عادية كالآخرين ، وحياة
ابداعية مرهقة تستنزف طاقاته وتختلف كثيراً عن حياة الناس العاديين .
الأدب يملأ حياة الكاتب وليس خلال الساعات التي
يكتب فيها فقط . الأدب يزيح كل الأعمال الأخرى . ليكرس نفسه ووقته وطاقته للأدب .
الكاتب الحقيقي يراجع ما كتبه أكثر من مرة . فالكتابة
عموما ، والفنون السردية خصوصاً تتطلب ارادة
قوية ، وأقوى الأرادات هي التي تنتج أفضل النصوص . قد يقول بعض الكتّاب انهم يكتبون
بسهولة ويسر ، ويقصدون بذلك الكتابة السطحية الرائجة التي يقبل عليها من يريد الأستمتاع
بالقصص الميلودرامية أو روايات الحب الخفيفة ، التي لن تصمد أمام الزمن.
سئل الكاتب الأميركي مارك توين : كيف تُكْتَبُ الكتب
الرائجة ؟
- أوه ... ! أنه أمر جد بسيط . خذ قلما وورقة واكتب الأفكار
التي ترد الى ذهنك . ولكن المهم في الأمر هو نوع الأفكار التي تكتبها .
الأفكار موجودة عند كل الناس ، ولكن ليس عند الكل
القدرة على التعبير عن أي فكرة بوضوح وسلاسة وكثافة في جملة واحدة موجزة ، وكما قال
تشيخوف فأن " الأيجاز صنو الموهبة . ".
الكاتب الحقيقي من يجيد التعبير - الواضح والجميل في آن واحد عن
افكاره وعواطفه وعن زمانه ، ورؤيته للحياة
والعالم ، ويمتلك حساسية مرهفة قادرة على تحويل الكلمات المألوفة الى كلمات يبعث على
التفكير أو يلهب العاطفة والشعور..
4 – تقنيات الكتابة :
ليس للأدب – كأي فن آخر - قواعد محددة ولكن استيعاب
تجارب الكتاب الكبار والتقنيات الفنية المستخدمة في نتاجاتهم ضرورية للكاتب – أي كاتب
، فالروائي او القاص الذي لم يدرس التقنيات
السردية من خلال تحليل الأعمال الأدبية الخالدة لكبار الكتاب ، كأنه يبدأ من الصفر
. وكل كاتب حقيقي هو قاريء نهم ومتميز بالضرورة ،
لا يكتفي بقراءة النتاج الأدبي لمرة واحدة كأي قاريء عادي ، بل يعيد قراءته
أكثر من مرة ليعرف : " كيف تمت صناعته ". واذا لم يكن عنده وقت للقراءة فلا
يمكن أن يكون كاتبا .ً
يقال بأن التقنيات الفنية يمكن تعلمها – الى حد
ما - عن طريق التعليم أيضاً وهذا يفسر انتشار
الورش الأبداعية في أنحاء العالم التي يتحدث فيها كبار الروائيين عن تجاربهم ويقدمون
النصح والأرشاد للمبتدئين في عالم الأدب . ولكني لا أعتقد بأن مثل هذه الورش يمكن أن
تخلق كاتباً مبدعاً ، ما لم يتوافرعلى بذرة الموهبة وهوس الحكي . ثمة طريقة واحدة لتكون
كاتبا جيدا ان تجلس وتكتب وتجرّب الى أن تكتب نصاً ذا قيمة فنية . . ذات مرة كان الكاتب سنكلير لويس يحاضر عن المهارات
الأدبية في احدى الورش (الأبداعية ) ووجه سؤالاً المتدربين :
- هل أنتم جادون في أن تصبحوا كتاباً ؟.
فأجابوا بصوت واحد : أجل
فرد عليهم سنكلير قائلاً: اذن لماذا أنتم هنا ولستم
في بيوتكم لتكتبوا
!
الكاتب يتعلم من محاولاته وتجاربه الشخصية في المقام الأول وممارسته
الدؤوبة للكتابة يوما بعد يوم ، لأن ترك الكتابة لفترة طويلة يؤدي الى جفاف القريحة
ونضوب الطاقة الأبداعية تدريجياً . . ان القاعدة الذهبية للنجاح تكمن في أن يطور الكاتب
نفسه ويتعلم من انجازاته ومن أخطائه ايضاً ، لأن من المهم له أن يعرف أيضاً ، ما لا
ينبغي كتابته ، وأن يعيد كتابة نتاجه المرة تلو المرة . من يصدق أن عبقرياً مثل تولستوي
كان يعيد كتابة نتاجاته وتعديلها وتنقيحها عشرات المرات أحياناً .
يقول ايليا اهرنبورغ في محاضرة القاها في معهد الأدب
العالمي في موسكو عام 1949 : " عندما انجز رواية ما اعيد النظر فيها : احذف واعدل
وانقح وبالنتيجة يتقلص حجم الرواية الى أقل من نصف حجمها الأولي . ولا أنشرها الا بعد
أن أكون راضياً عنها
" . "
5 – العزلة :
الحكمة تولد في الصمت والأفكار تتدفق والمخيلة تنشط
في العزلة الأيجابية المنتجة ، ولهذا فأن سمة مهمة أخرى للكاتب الحقيقي – العزلة أو
الأختلاء بالنفس . وبطبيعة الحال فإننا لا نقصد بذلك العزلة عن حياة المجتمع ، بل الأبتعاد عن المشاغل اليومية وعدم هدر الوقت
الثمين وايجاد الوقت الكافي للكتابة. وثمة قول لفرانز كافكا ورد في احدى رسائله يقول فيها : " أن كل أعمالي هي نتاج الوحدة " . " .
قد يقول البعض ان ثمة العائلة وزملاء العمل والأقارب
، والأنشطة الأجتماعية . كل هذا يمكن ان يكون
موجودا . العزلة الحقيقية التامة – هي في الداخل . انها احساس لا يفارق الكاتب أبداً
وطوال حياته يتعلم كيف يستخدمها على نحو صائب وصحيح . يتعلم النظر الى الاشياء من زاويته
الخاصة حيث يرى فيها ما لا يراه الآخرون .
6 – الأسلوب والصوت :
لا يقتصر مفهوم الأسلوب على الطريقة التي يسلكها
الكاتب للتعبير عن أفكاره وعواطفه ، ففي العمل الفني ، تؤدي الكلمة وظيفتان ، اولهما
حمل معلومة معينة ، وثانيها التأثير الجمالي في القاريء من خلال الصور الفنية ، وكلما
كانت الصور أكثر اشراقاً ، كان تأثيرها أعمق وأقوى .
الكاتب الجيد يمتلك أسلوبه الخاص وصوته المتميز
، ولا يقلد كاتبا آخر ، لأن لكل شخص تجربته ورؤيته للعالم .. على الكاتب أن يعتمد على
تجربته الخاصة . كتب جون براين – مؤلف رواية غرفة على السطح: “إذا كان لصوتك أن يُسمع
وسط آلاف الأصوات، وإذا كان لاسمك أن يعني شيئاً بين آلاف الأسماء، فسيكون السبب الوحيد
هو أنك قدمتَ تجربتك الخاصة صادقاً . قال الشاعر الروسي سيرجي يسينين : " لا تقلد
صوت الكروان بل غني بصوتك ولو كان أشبه بصوت الضفدعة ". ”
الكاتب الذي لا يتميز بأسلوبه وموضوعاته وافكاره
،لن يحظى بأعجاب القاريء واهتمامه ويطويه النسيان ان عاجلاً أم آجلاً .