فاجأني بعد ظهر اليوم خبرٌ محزنٌ أليمٌ لم أتوقَّعه،
وهو أن صديقنا الأديب الشاعر الغيني المتألِّق محمد الأمين جابي قد صار إلى عفو الله
ورحمته الواسعة.
ومنذ الوهلة الأولى، اكتشفتُ فيه مواهبَه المتعددة
في الشعر والقصة والمقالة والتأليف والبحث. وكان لا يخلو نشاطٌ جامعي من قصيدةٍ جديدة
يستوحيها من الحدث ويُفاجئُنا بها على عَجَل. آخرُ قصيدة من هذا النوع، كانت بمناسبة
اجتماع الدورة الثامنة عشرة لمجلس أمناء الجامعة (27/ 1/ 2016م)، وقد ألقاها علينا
بمقر كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية الخاصة بالبنات بمدينة نيامي احتفاءً
بالناجحات، وكان مطلعُها:
خُلاصاتُ المفاخِر والصِّفاتِ لقد قُصِرَتْ على
المُتَحَجِّباتِ
وفيها يقول:
وتعليمُ الفَتاةِ أَجَلُّ قَدراً وأَولَى للبناتِ
المُؤمِناتِ
فإنْ زَوَّدْتَهُنَّ اليومَ علماً غداً أَصبحنَ
خيرَ الأُمَّهاتِ
ولكنه لم يكن شاعرَ مناسباتٍ فقط، بل كان شاعرَ
عواطِف جيّاشة، وشاعر قضية وسلام ومحبة، وكانت إفريقيا بمشاكلها ومعاناتها في كل المجالات
حاضرةً في قصائده وأدبه وبحوثه باستمرار.
كانت العربيةُ على لسانه عَذبةَ فصيحةً متدفِّقة.
وكنتُ في البداية أعجَبُ منه وأقول: من أين تأتي بكل هذه الفصاحة في اللسان والتضلُّع
بالعربية وحُسن البيان؟ حتى علمتُ أنه من أسرة علمية كبيرة في غينيا كوناكري، زادَه
صَقلاً لمواهبه حرصُه الحثيثُ على العلم والتحصيل. وقد توارثَت تلك الأُسرةُ الغينية
الكريمةُ التي كانت تقيم في بلدة تُعرَف ب ( طيبة)، كغيرها من كبريات الأُسَر المسلمة
في عدد من البلاد الإفريقية، ثقافَتَها العربية الإسلامية أباً عن جد، وقد أطلعني على
تُحفٍ من مخطوطات ودواوين بخط يد والده وبعض أفراد أُسرته وبلديّيه، وكان حريصاً عليها،
حَفيّاً بها وضَنيناً. وحُقَّ له ذلك. وحين توسَّعتُ في الاطلاع على الواقع الثقافي
في إفريقيا المسلمة ماضياً وحاضراً، عرفتُ أن جابي ـ رحمه الله ـ لم يكن في حقيقة الأمر
إلا نموذجاً لامعاً من أولئك المثقفين الأفارقة الذين ما زالوا قابِضين بأَكفُّهم على
جَمرة اللغة العربية وآدابها، مُعيدين لجِذوتها توهُّجَها واشتعالَها، على الرغم من
كل ما عمله الاحتلال الأجنبي لأجل إطفائها وإخمادها، وما أكثرَ عددهم وما أوسع انتشارَهم
في كل بلد إفريقي من شرق القارة إلى غربها. وكم اكتشفتُ هنالك من أعلام علماء، وأدباء
فصحاء، شعراءً وكتاباً ومؤلفين وخطباء. صَحَّحوا نظرتي لواقع العربية في هذه البلاد،
ومستقبلها الزاهر بحول الله. ولكن من أين للعرب أن يعلموا بأن إفريقيا المسلمة هي الخزّان
الاستراتيجي لحفظ لغتنا وديننا؟ إنهم مقصِّرون بلا مِراء، وكم قلتُها وأعدتُ قولَها
مراتٍ تلوَ مراتٍ.
أتذكَّر أن من أوائل ما أهداه إليَّ رحمه الله من
أعماله الأدبية، في نهاية التسعينيات، روايته الطويلة في ثلاثة أجزاء، بعنوان : ( فَنتا:
عَذراء كوناكري) وقد طبع منها نسخاً قليلة على الحاسوب سنة 2000م، كان يصوِّرها ويوزعها
على بعض الخاصة من الأصدقاء. وكنت بذلتُ محاولات لنشرها في المغرب، لكن الناشرين هداهم
الله كانوا دائماً يعتذرون بقلة القراء، وعدم رغبتهم في المجازفة بنشر عملٍ لأديب إفريقي
غير معروف في العالم العربي.
وآخرُ ما كان بيننا من مراسلات ومكاتبات، تلك القصيدةُ
الجميلة التي بعثَها إليَّ بتاريخ 19 يونيه 2016م، وضمَّنها حُبَّه ومشاعرَه الصادقة
لبلدي المغرب وملكه محمد السادس بمناسبة إعلانه تأسيس رابطة علماء إفريقيا ، وقال فيها:
فالمغْرِبُ البوّٓابٓةُ الكُبْرٓى التي مِنْها أٓتٓتْ
كُلُّ العُلُومِ الشُّرّٓدِ
نشرتُ منها أبياتاً جميلةً على صفحتي في الفيسبوك،
واحتفظت بالنص كاملاً لأنشره ـ إن كان في العمر بقية ـ ضمن مختاراتي من الشعر العربي
الإفريقي.
مات صاحبي وأخي محمد الأمين جابي رحمه الله رحمةً
واسعةً . ضاعَ منّي وهو في قمة عطائه وتألقه وتوهُّجه، فذَرَفتُ لفراقه دموعاً صادقة،
وفقدتُ بفقده أخاً عزيزاً ومُحبّاً وفيّاً وأَميناً. فمن يُعزّيني في فقدان هذا المُخلص
المُحبّ ؟
وبَشِّرِ الصابرين الذين إذا أصابَتْهُم مصيبةٌ
قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.