-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

من هو المثقف : سلامة موسى

كان الرئيس ولسون رجلًا مثقفًا درس الكتب وخبر الدنيا، كان مديرًا لجماعة برنستونينظم الثقافة لشباب الولايات المتحدة، ثُمَّ كان رئيس للجمهورية في سني الحرب،فحاول ج
هده أن يصون السلم ولكنه اضطر أخيرًا إلى الحرب، فلما انتهت « تقريرالمصير » — أو قبل أن تنتهي — وضع الشروط الأربعة عشر التي كان للأممالصغيرة واحدًا منها، وهو شرط قد انتفعنا نحن به في حركة ١٩١٩ ، ثم كان أثرولسون كذلك كبيرًا في إيجاد عصبة الأمم، بل هي من مبتكرات ذهنه الخصيب المثقف.
فإذا تكلَّم الرئيس ولسون عن الثقافة، ما هي وكيف تكون، ومن هو الرجل المثقف؛فإنه لا يتكلم باعتباره رجل القلم والحبر فقط، بل أيضًا رجل السياسة العالمية والخبرة الدنيوية، ثم هو رجل مثقف قد أثمرت فيهخير ثمراتها، إذ جعلته إنسانًا إنسانيٍّا يطلب الدنيا كلها وطنًا له ويسعى للسلام وينشد الحماية للأمم الصغيرة من الأمم الكبيرة،فإذا قسناه باختباراته الماضية ومؤلفاته في الجامعة، أو بما انتهى إليه من الشروط الأربعة عشر، أو اختراع عصبة الأمم؛ فإننانجد فيه أجمل مثال للرجل الشريف المثقف، والسبب لا نخطئ إذا نحن اعتمدنا عليه في صفة الرجل المهذب، فهو حين يصفهإنما يصف نفسه.
وضع الرئيس ولسون أربعة شروط للرجل المهذب هي:
أن يعرف تاريخ العالم منذ بداية الكون، فنشأة الحضارة، إلى الآن.
أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة التي يسير عصرنا على مبادئها.
أن يعرف علمًا من العلوم في المعنى الذي يطلق عليه اسم   Scienceفي  اللغات الأوروبية.
أن يعرف لغة ما، وخير اللغات التي يعرفها هي لغته التي نشأ عليها
هذه هي الشروط الأربعة للرجل المهذب أو الرجل المثقف كما يراها الدكتور ولسون،
ويمكن كلٍّا منا أن يسأل نفسههل أنا مهذب لم أستوفِ غير شرط أو شرطين من هذه الأربعة؟
ولكن ربما يتساءل بعضنالماذا هذه الشروط الأربعة ولماذا لا تكون عشرة أو سبعة؟ فالجواب أن الدكتور ولسون قد اختارالأهم قبل المهم، واختار الأساس قبل الجدار، والأعم قبل الأخص، ونستطيع أن نبين أهمية هذه الشروط بالشرح القليل؛ فإنالذي يطلبه الرئيس ولسن أن تثمر هذه الثقافة التي يحددها في هذه الشروط رجلًا صالحًا في العالم بارٍّا بالإنسانية، وهو يبرزهافي ذهن نير، ثم يجب أن يفهم مبادئ الحضارة الحديثة، ولا يعارض تقدمها، بل عليه أن يكون عضوًاعاملًا في تقدمها.
فالشرط الأولأن يعرف الرجل المهذب تاريخ العالم، كيف نشأت الحياة الأولى على الأرض، ثم تطورت رويدًا رويدًا حتىظهرت فيها أنواع من النبات والحيوان ينقرض بعضها ويبقى بعضها، وهي في خلال هذا التطور تنهض وتنتكس، إلى أن ظهرالإنسان (وهو مع ذلك ليس ختام الدراسة إذ هو جسر تعبر عليه الحياة كي تصل إلى طراز أعلى منه)، ثم كيف تسلط علىغيره، إلى أن استطاع أن يخترع الحضارة الأولى على ضفتي هذا النهر المبارك، نهر النيل.
ثم كيف نشأت الحضارة، وتطورت، وهي تعاني مظالم الكهنة والمستبدِّين ورزء الحروب وبلايا القحط والوباء، وفي خلال ذلكيكتشف هذا الإنسان الأول أن له ضميرًا وأن حبه لأمه وزوجته وأولاده يتسع حتى يصير حبٍّا للبشر جميعهم.
وجدير بهذا الذي يدرس تاريخ العالم أن يحس أنه ابن العالم وأن البشر إخوة، وأن الحرب جناية، ثم هذا العرض لتاريخ الدنيايكسبنا فكرة التطور، ثم مزاج التطور؛ لأن الدنيا لم تكن قط على حال واحدة؛ إذ هي تتغير، ويجب أن تبقى في هذا التغير، ثم هذاالتاريخ إذ بعث في نفوسنا الاطمئنان من ناحية البر والخير في نفس الإنسان؛ فإنه يبعث الشك والتوجُّس من ناحية النظمالاجتماعية
التي انتهت مرة بل مرات بالعصور المظلمة، وما أدرانا فلعلنا هذه الأيام على وشك الدخول في عصر مظلم، فلا أقل من أننعرف علاماته، ونحتاط بدرس تاريخ العالم، ونميز بين سيادة العقيدة الحزبية وسيادة الرأي الجدلي، أو الفرق بين المعرفة التيتقوم على البينة وبين العقيدة التي تقوم على التسليم، ثم هذا الدرس لتاريخ العالم يعين لنا سمات الحضارات المتعاقبة وألوانالجودة والرقي فيها إلى أن تنتهي إلى الحضارة الصناعية القائمة.
والشرط الثانيللرجل المهذب أن يعرف تاريخ الأفكار السائدة سواء أكانت سياسية أو علمية، فنحن في عصرنا الحاضر نسيربقوة آراء تسوقنا وترسم لنا خططًا وغايات، فيجب أن نعرف تاريخ هذه الآراء، والجهود التي بُذِلَتْ في سبيل تحقيقها، والقواتالخفية التي تسوقها. فهناك هذا الرأي أو الفكرة القائلة بالديمقراطية كيف وأين نشأت وما قيمتها، وما دلالتها، وهل يجب أنتموت أو تعيش؟ ثم ما هي قيمة الحرية الفكرية، أو التسامح الديني، أو فكرة الدستور، أو غير ذلك في الأفكار والآراء التيغاص الناس من أجل تحقيقها في بحار من الدماء؟ وهل كانت جهودهم حسنة أدَّت إلى خدمة البشر؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهلهي تستحق العناية من المستمتعين بها والجهد لصيانتها، أم تترك للمستبدين والجامدين والرجعيين كي يمحوها من لوحالتاريخ البشري.
وهذه الأفكار أو الآراء التي تسود الحضارة الراهنة لا تكاد تحصى؛ فإننا نؤمن مثلًا بفكرة الجامعة للتعلم، وفكرة التعاون للعمال،وكذلك بفكرة النقابة، هي إحدى هذه الفكرات الخصبة « تقرير المصير » كما نؤمن بحرية المرأةوفكرة المثمرة.
والشرط الثالثللرجل المهذب أن يعرف علمًا من العلوم الحديثة؛ وذلك لأن الحضارة الصناعية القائمة في العالم الآن تستندإلى أساس قوي من الثقافة التي أثمرت الغازات الفاتكة من ناحية كما أثمرت الأقمشة والأسمدة الصناعية لتوفير الغذاءوالكساء، هي شر وخير، ولا يمكننا أن نفهم دلالتها إلا إذا فهمنا علمًا من العلوم، وميزة العلم أو صفته أنه يمكن أن يقاس،سواء أكان القياس بالمتر أم بالجرام أم باللتر، وما لا يمكن قياسه، أو حمله عقليٍّا على ما يشبه القياس ماديٍّا، ليس علمًا. وليسشيء من الصناعات الحاضرة إلا وقد أغار عليها العلم ووسع نطاق الانتفاع بها.
والرجل الذي يُعْنَى بالثقافة العلمية ينطبع في نفسه المزاج العلمي، فهو يعتمد على القياس والتجربة، وهو لا يستسلم حتىلمنطق الذهن المجرد؛ لأنه لا يقنع بالتفكير فقط، بل يزيد عليه التجربة باليد، فهو يفكر بذهنه ويده، وهو لهذا السبب لا يرفضتصديق القصص عن العفاريت ومناجاة الأرواح وقراءة الكف وفراسة الوجه وطالع الحظ وما إلى ذلك فقط، بل هو لا يعرفكيف ينصت مستمعًا إلى هذه القصص والأساطير؛ لأن مزاجه العلمي قد بعث فيه اشمئزازًا ذهنيٍّا من هذا السخف، والرجل الذييجهل أحد العلوم لا يصح أن يعالج دراسة ما؛ لأنه يعالجها عندئذٍ بروح الجهل الذي يخشى خطره لأنه يعتمد على استنتاجات لاتؤيدها التجربة.
أما الشرط الرابعللرجل المهذب فهو أن يعرف لغة ما معرفة مثقفة، وتفضل لغته الأصلية التي نشأ عليها، وهذا شرط لا غنىعنه؛ لأن التفكير الحسن لا يُسْتَطَاعُ بلا مُدَّخَرٍ كبير من الألفاظ، بل نحن لا يمكننا أن نفكر بدون الألفاظ، حتى إن أحدالسيكلوجيين — وهو الدكتور واطسون — يقول إن التفكير هو كلام صامت كما أن الكلام هو تفكير صائت، وهناك ما يرجحصحة هذا القول، والذي يُلَاحَظُ أن لكل شخص ألفاظه التي تكثر في حديثه أو في كتابته، وهي بالطبع تدل على اتجاه تفكيرهولونه؛ إذ هو يختار الألفاظ التي تعبر عما يشتغل به ذهنه، فإذا كان تافه التفكير كانت الألفاظ كذلك، وقد كان هربرت سبنسريقول إنه يمكنه أن يعرف وزن الرجل الذهني عقب حديثه؛ لأنه يعرف من الألفاظ التي يستعملها أي الموضوعات تشغله وكيفتشغله
وأحسن اللغات التي يجب أن نتعلمها ونتقنها هي اللغة التي رضعناها من أمهاتنا، وهي اللغة التي نستطيع أن نتقنها، ومنالسخف أن نتعلم لغة أجنبية نصف تعلم أو ربع تعلم؛ لأن اللغة وسيلة، غايتها القراءة والاستنارة المتوالية، فإذا لم نعرفها حقالمعرفة لم ننتفع بها، ومن هنا الخطأ الفادح في تعليم
أولادنا لغتين أجنبيتين حين كان يمكن الاقتصار على واحدة ربما يستطاع إتقانها فنعتمد عليها للتثقيف العصري.
هذه هي الشروط الأربعة للرجل المثقف كما رآها الرئيس ولسون، وهي جديرة بأن تثمر في صاحبها أحسن الثمرات، فتحركهإلى العمل وتجعله داعية للحق والإصلاح والرقي؛ فإن الرجل المثقف لا يطيق الظلم، ولا يرضى بالجمود؛ لأن ثقافته قد امتزجتبدمه وأصبحت جزءًا من روحه وإرادته، وهو لا يمكنه أن يحبس في نفسه أفكارًا عن الرقي والإصلاح قد اختزنها ذهنهبالقراءة أو التفكير في حين يرى الوسط حوله وهو ينادي بل يصرخ بالحاجة إليها، فهو لا بد منادٍ أيضًا بها، ولو اصطدم فيذلك بالعقبات التي تؤذيه في عيشه، وهذا الروح الشريف هو روح الاستشهاد في سبيل الحق والشرف والرقي الإنساني.
ومثل هذا الرجل المهذب لا يمكنه أن يمالئ الاستبداد؛ لأن ذهنه حافل بالجهود التي بُذِلَتْ في سبيل الحرية، ولا يمكنه أن يتعصبلفكرة ما أو مذهب ما تعصُّب الاضطهاد والكراهة؛ لأنه يعرف قيمة التسامح في تاريخ البشر، ثم يكره الحرب؛ لأن تاريخ العالمقد أشعره بالأخوة البشرية، ثم هو إذا كان علميٍّا في مزاجه التفكيري، متدينًا في مزاجه العاطفي؛ فإنه يحب الرفاهية ويرجوالخير لمستقبل الإنسانية. فما عندك من هذه الشروط الأربعة، وماذا أثمر فيك ما عندك منها؟
ولكن يجب أن نلاحظ أن ولسون قد أهمل الفنون الجميلة، حتى لكأنه لا يبالي الأدب والموسيقا والشعر والرسم والنحت، وظنناأنه — حين عين الشروط الأربعة — إنما قصد إلى موقف الرجل المثقف من حيث فائدته للمجتمع، فهو يريد أن يربي ذهنه،ويصحح منطقه الاجتماعي، حتى يخدم المجتمع، أما الرقي النفسي والاستمتاع العاطفي فلم يبالهما، وهذا إهمال.
من كتاب : التثقيف الذاتي
المؤلف : سلامه موسي
تحرير : احمد صلاح فهمي

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا