أدونيس: تاريخ مُروِّع للقتل المزدوج عبْر تدمير الكتاب
جعفر الجمري عن صحيفة الوسط البحرينية
رحلة يأخذنا إليها الشاعر والمفكّر العربي السوري
اللبناني أدونيس، من خلال قراءته لـ
«كتب إلى النار» للكاتب الفرنسي والمُستعرب
لوسيان بولاسترون، ضمن محطات تاريخية، مُورست فيها إجراءات ومواقف على
الكتاب والمكتبات، تحت أكثر من ذريعة، مرة باسم حماية الإنسان، ومرة باسم تنقية الحاضر والمستقبل من ماضٍ سيكون
عثرة لابد من
إزالتها.
الكتاب وبحسب أدونيس «تاريخ مُروِّع للقتل المزدوج
الذي يقوم به الإنسان: تدمير الكتاب، وتدمير نفسه عبر تدمير الكتاب»
الفارق الحاضر بين أمة وأخرى، يتضح مع أول خلافاتها
وصراعاتها: حرق الكتب؟ ما الذي يمكن أن تفخر به تلك الأمة، حين تُصادر
منابع ومنارات الفكر من خلال الكتب، فتعمل فيها تمزيقاً وحرقاً أو طمساً؟ ما هو الإنجاز الحضاري الذي يمكن أن يُضاف
إلى إنجازات البشرية بحرق الكتب؟ هل في حرق الكتب تصفية حسابات مع «النور»؟
لا يفعل ذلك
إلا «أبناء الظلام». هل في تلك الممارسة إشارة إلى
استحالة التقاء الظلام بكل مؤسساته التي تدفع بممارساته وتعميقها،
مع النور الذي تقوم مؤسساته على النقيض من ذلك الدور؟
يظل الأكثر حضوراً في الذاكرة - ضمن تاريخنا على
أقل تقدير، وبشكل صارخ - ما فعله المغول يوم 10 فبراير/ شباط 1258م (9 صفر
656هـ)، والروايات التي لا حصر لها من قيام المغول بإلقاء ما احتوته مكتبة بغداد من كنوز ونفائس الكتب في النهر،
وحرق بعضها، وما سبق ذلك بقرون من احتراق مكتبة الإسكندرية التي يقال إنه تم
تأسيسها على
يد بطليموس الثاني في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد
(285 ـ 247)، وتلك حادثة لا دخل لها بالموقف من الفكر والمعرفة، لكن
قاعدة بيانات وعلوماً ومعارف خسرها العقل
البشري منذ ذلك الوقت.
ممارسة المغول الجُددليس بعيداً عن وقتنا اليوم.
ما يقوم به التنظيم الإرهابي العالمي، المسمى «داعش»، المغول الجُدد)، يكاد يتجاوز بمراحل ما حدث من
حيث تعميق الممارسة والاستهداف، والسعي إلى نمط ولون وتوجِّه واحد في التفكير، إذا
صح أن نطلق عليه «تفكير»، أساساً، بتلك الفظاعات
التي مورست بحق التراث الإنساني، الذي لم يعد في هذا العصر حقاً لبلد دون آخر. حدث ذلك في العراق وسورية، من خلال تدمير معالم ومواقع
يمتد عمرها إلى آلاف السنين، ولم تُطلعنا وسائل الإعلام عمَّا جرى أيضاً، وبالتفصيل،
لعدد من المكتبات، والمتاحف، من حيث كنوزها من المخطوطات والكتب.
ممارسة كتلك لا يمكن أن تكون على صلة بالتنوير،
بقدر ما هي على صلة وبعمق بالإظلام والتعتيم والحجب. تلك التيارات، وأولئك
الذين مارسوا الحرق وتدمير الكتاب والمكتبات، هم زبانية جهل وتجهيل، في محاولة
للهيمنة على الإنسان، ووضع الجنس البشري، الذي من المفترض أنهم ينتمون إليه،
تحت الوصاية التي لا نهاية لها.
بمراجعة ما كتبه أحمد زين الدِّين، في صحيفة «الحياة»
بتاريخ 23 أبريل/ نيسان 2011، لكتاب بولاسترون، نقف على الآتي «إذا كانت الشعوب تُعرّف،
كما درجت العادة، بما تقرأ أو تقتني من كتب ومكتبات، فإنّها تُعرّف
أيضاً بما تنبذ، أو تُتلِف أو تبيد أو تحرِق من كتب. فلا تستوي أية ثقافة دون أن تضع حدّاً، لما هو داخلها،
ولما هو
خارجها. لما هو مقبول أو مرذول. بل تفترض بعض الملل
القديمة والحديثة شروطاً قاسية على من يريد الاطّلاع على أسرار كتبه الدينية،
حيث يتجلّى جوهر المعرفة الحقيقية دون سواها».
وبالعودة إلى أدونيس، نجده ينطلق في تناوله لكتاب
بولاسترون، من حوار أجرته مجلة لوبوان» في 19 فبراير 2004؛ أي قبل 10 سنوات
من إصدار كتابه «المحيط الأسْوَد»؛ والذي صدر في العام 2014؛ حيث أشار بولاسترون
إلى أن تدمير المكتبات العامة «بدأ في مصر، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، مع أخناتون». فعندما تسلَّم العرش
دمَّر في
طيبة النصوص السابقة القديمة. وكان دافعه إلى ذلك
سياسياً، من أجل أن ينشر فكرة الوحدانية، أو فكرة الإله الواحد.
مصادرة الكتاب لا تقل عن إحراقهثمة إشارة أخرى من
قبل بولاسترون، تتعلق بتدمير المكتبة الآشورية؛ إذ يعرج إلى ما أسماه «تدمير مكتبة الإسكندرية»، وليس احتراقاً، مروراً بتدمير المكتبة
الفاطمية
الضخمة؛ حيث أُعطيت الأوامر بأن تُحرق الكتب في
الحمّامات والمدافئ، أما الصين فبدأ فيها تدمير الكتب في العام 213، وكان عملاً
سياسياً محْضاً قام به الإمبراطور كين»، وباسم التوحيد هذه المرة أيضاً «بناء
على نصيحة مستشاره لي سي الذي قال له: العودة إلى الماضي ضعف)، فأجابه: (إذاً،
علينا أن نمحوَ الماضي)». كان الإجراء الذي تم اتخاذه بعد الاحتجاج على تلك الممارسة من قبل بعض المثقفين في
عصر «كين»، وكان عددهم 400
مثقف، أن «أمر الإمبراطور بأن يُدفنوا أحياء»!في مقابل هذه الصورة، ثمة ما هو أفظع منها
حين يتم دفع الناس، بفعل سياسات قمعية، إلى القيام بتلك الممارسة من تلقاء أنفسهم،
وذلك ما فعله ماو تسي تونغ في الصين أيضاً «فقد عمَّم قمعاً أخلاقياً أدَّى
بالأشخاص أنفسهم إلى أن يحرقوا كتبهم أمام جيرانهم»، وبالتالي لابد من المطابقة في الفعل من قبل أولئك الجيران،
وإلا فإن تهمة
خيانة مبادئ الثورة، والتآمر عليها، هي الجاهزة
لأولئك الذين لا يتناسخون في فعل المطابقة ذاك.
بولاسترون، وعبر المحطات التاريخية تلك، يرمي إلى
وضع الإنسان المعاصر أمام تراث مُظلم قام به آباؤه وأجداده، كل بحسب الجغرافية
التي ينتمي إليها، ومثل ذلك الفعل لا يعني بالضرورة أن الفعل أو الإجراء أصبح
من الماضي، لأن ممارسات أخرى، أخذت أشكالاً وإجراءات مختلفة، لا تبتعد كثيراً
عن روح تلك الممارسة.
حرق الكتب هو فعل مباشر، يريد القول، إنها مصدر
خطر وإرباك، وأحياناً فضيحة. فضيحة يمثلها التاريخ أو الماضي، وعلى أحدهم أن
يباشر فعل إلغاء ومسح ذلك الماضي. أحياناً هي؛ أي الكتب، مصدر للقلاقل وتفتّق الخيارات، وعلى أحدهم ممن لا يريد
خيارات لأحد، ويحرص على تجنيب نفسه القلاقل، أن يعمل على إزالة أسبابها. اليوم باتت
مصادرة
الكتاب، ومراقبته شكلاً من أشكال الحرق والتدمير،
وضمن قوانين وتشريعات تساير الحال البشرية في اتكائها على القوانين، ولكن
هذه المرة في شكلها وقشرها، أما روحها فتحمل إجراء ومواقف تستهدف الإنسان في وعيه ومداركه؛ ,إن تفتَّق عن العقل البشري
ما انتصر
به على مصادرة الكتاب ومنْعه من خلال شبكة المعلومات.
ألمانيا فقدت 12 مليون كتاب
يتناول مؤلف «كتب إلى النار»، ما حدث من تدمير لمكتبة
المنصور في قرطبة قبل أكثر من 1000 سنة، وعن الصليبيين الذين وصفهم بأنهم «متوحشون»، ومعظمهم لا يعرف أن
يقرأ.
ولابد من انعطافة على العصر الحديث، حيث فترة هتلر
وستالين وبول بوت، وما تم ارتكابه من فظاعات في هذا المجال، من دون
أن ينسى الأثر الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، وإشارته إلى أن ألمانيا وحدها فقدت نحو 12 مليون كتاب.
وبحسب بولاسترون، فإن «للكتاب مجرى حياة يشبه مجرى
الحياة عند البشر»، انطلاقاً من كلمة الشاعر الألماني هاينه «حيث تُحرق
الكتب، يُحرق البشر»، والعالم الاجتماعي ليو لوفنتال «الذي حلَّل الإنسانية انطلاقاً من إحراق الكتب، تحليلاً نفسياً»،
إذ قال:
«يُقتل، فيما وراء الجثث، ما يتبقَّى»، أي
الكتب.
لوسيان بولاسترون - أدونيس