لو طلب منك أحد إعطاء تعريف للدين فهل ستُعَرِّف
"الدِّين" إجمالا أم ستُعَرِّفه من خلال دينك؟وهل نمتلك معرفة دينية غير
تلك التي يعطيها لنا ديننا؟ هل التعريف الذي سيعطيه
بوذي أو هندوسي يشبه ولو قليلا تعريف
المسلم أو المسيحي أو اليهودي لمفهوم الدين؟ هل ستفرق في تعريفك بين الأديان السماوية
والأديان الأرضية؟وهل الذي لا دين له سيتبع نفس المنهجية هو الذي لا يعترف أصلا بوجود
رسالة سماوية؟وما دام الأمر بهذا القدر من التعقيد لماذا نتحدث عن الدين وكأنه مفهوم
موحَّد وله نفس التعريف؟من ناحية أخرى لماذا نظن بأن الدين هو رؤية لا غنى عنها في
العالم تحكم أفكارنا الشخصية والمجتمعية؟ ولماذا نجد في نفس الوقت أنأغلب الدول المتقدمة
هي دول علمانية فصلت بين الدين والسياسة ولم يعد لها من مظاهر التدين سوى بعض الأجراس
الموغلة في القدم وبعض الاحتفالات السنوية؟ ثم ما الذي يعطينا الانطباع بأن الدين والسياسة
شيآن مختلفان حتى نطالب بالفصل بينهما؟
أسئلة كثيرة تحومحول مفهوم الدين والتدين في عالم
معاصر اختلفت فيه المفاهيم وتغيرت الأنظمة وتعقدت العلاقات الاجتماعية وأصبحت فيه العولمة
واقعا ملموسا وإطارا جامع الإنسانية مراهقة تحث الخطى نحو بلوغ رشدها ووحدتها...
إذا حاولنا اليوم أن نعطي تعريفا لمفهوم "الدين"
بعيدا عن الأوصاف والتصنيفات الانتمائية، سنجد أننا بصدد مجموعة من الأفكارالمجردة والقيم والتجاربالقادمة من رحم الثقافة
والتي تشكل في مجموعها أسلوب حياة بعينه.ولعل أهم ما يميز هذه الأفكارهوالجانب الذي
يحاول الإجابة عن تساؤلاتنا الوجودية المرتبطة بمسألتي "الخلق" و "المصير".
وهو الذي نصطلح عليه بالمعتقد، ويعد مكونا أساسيا في هويتنا الفردية والجماعية.
فمفهوم المقدس الذي يرتبط بهذا المعتقد هو نابع
من الإيمان بأن كل ما يقدمه من تصور عن الإله الخالق والحياة بعد الموت وجدلية الخير
والشر هو حقيقة مطلقة منيعة عن الفهم والإدراك وليس بالإمكان معرفتها والوصول إليها.
بعد ذلك يصبح مصيرنا معلقا بمدى التزامنا بأسلوب الحياة الذي تحدده هذه المعتقدات،
أو بمعنى آخر بمدى تطبيقنا للأحكام والقيم والتعاليم المرتبطة بها.وهنا تكمن أهمية
المعتقد إذ يجعلك تلتزم وتتمسك بهذه التعاليم وبهذه القيم مقابل حياة مليئة بالنعم
تنتظرك في الحياة الأخرى. وطبعا سيكون مصير المخالفين والمعرضين حياة كلها شقاء وبئس
المصير.
وهنا نصل إلى السؤال المحير، وهو إذا كان الهدف
من وراء الأديان كلها هو إيجاد نظام مجتمعي عادل يلبي حاجيات المرء الروحانية ويضمن
السلم الاجتماعي ويحقق المصلحة العامة فلم كل هذا التحامل على الأديان ووصفها بأنها
"أفيون الشعوب" وسبب النزاعات والحروب؟
الجواب الوحيد الذي يحضرني هو فقدانها لخاصية التطور
والنمو الملازمتين للجنس البشري. فالدين بوصفه نظاما مجتمعيا متكاملا يشكل في بداياته
نقلة نوعية في أسلوب عيش المجتمع الذي يظهر فيه، وغالبا ما يكون هذا التغيير حادا وعميقا
لدرجة تجعل تقبله ليس بالأمر الهين. وحين يبدأ الناس تباعا بالانضمام إلى الدين الجديد
يتكون مجتمع حديث يتميز عن سابقيه بمعاييره المعاصرة وبقوة الدافع والمحفز المنبعثة من
حداثة الإيمان وتَوقُّده. ثم يمر الزمن وتتقادم القيم ويصبح في الالتزام بالتعاليم
والأحكام مشقة كبيرة، وتتسبب المتطلبات والاحتياجات المتجددة في تشعب النظام الأصلي
وظهور فروع ومذاهب كثيرة. وهكذا يفقد الدين قوته المحركة ويفقد معه المجتمع بريقه وتوهجه،ولا
يبقى من التديُّن إلا مظاهره ومن الدين إلا رموزه الدالة على الهوية.
لكن إذا نظرنا إلى كل هذه الأديان الموجودة على
أنها حقيقة واحدة ودين واحد يمر بمراحل مختلفة من التطور ويتغير بتغير المكان والزمان
ليتوافق وعقول الناس وقدرة إدراكهم ويتماشى ومقتضيات العصر وحاجياته، سيصبح الأمر مختلفا
تماما وسنفهم أن أساس المشكل ليس في الدين وإنما في رفض التطور المرافق له. الأمر شبيه
إلى حد ما بالنظام التعليمي والتربوي الذي نتبعه في حياتنا، فحجم المعلومة وشرحها يختلفان
باختلاف سن المتلقي ومراحله العمرية. جرب مثلا أن تخبر شابا ناشئا بمدى خطورة وضع أصبعه
أو أي شيء يمسك بهفي مصدر التيار الكهربائي بدعوى وجود وحش خرافي أو "بُبُّع"
قد يلتهمه. سيُعرض عنك بلا شك لأنك تكون بذلك قد قللت من شأنه ومدى قدرته على الفهم
والإدراك. نفس الحيلة كانت لتنطوي على طفل صغير وتدرأ عنه الخطر بسبب الخوف الذي سيتملكه،
والأكيد في هذه الحالة هو أن شرحا مستفيضا لماهية التيار الكهربائي وما ينتج عنه لن
تكون كافية لمنعه من المحاولة لأنه لن يفهم السبب من وراء هذا المنع.
في كل مرة كان يرفض فيها فريق من الناس قبول التغيير
والتطور كان ينقسم المجتمع إلى فريقين: "مؤمنون وكفار"، ويتكون مجتمع جديد
بأسلوب عيش مختلف مساير للعصر وبالتالي يساعد علىالتقدم والازدهار. وهكذا من زمن لآخر
إلى أن تعددت المجتمعات وتنوعت الثقافات، لكن غالبا ما كان ينفرد المجتمع الأكثر حداثة
بقيادة قاطرة الحضارة الإنسانية. ومما لا شك فيه هو أن تباعد المجتمعات عن بعضها وجهلها
أحيانا حتى لتواجدها على الأرض، قد ساهم في تعميق الاختلاف ومضاعفة التنوع.
اليوم أصبحت هذه الإشكالية أكثر تعقيدا، فالمجتمعات
أصبحت متقاربة بل ومختلطة، والتنوع أصبح عائقا أمام التعايش بسبب التطرف والتعصب والعنصرية.من
جهة أخرى، فقد تأسست أنظمة اجتماعية حديثة تعد أكثر تطورا من الأنظمة الدينية السابقة
من الناحية السياسية والاجتماعية والتعليمية. وبالنسبة للقيم فقد أخذت منحى عالميا
وباتت أكثر إحقاقا للعدل والمساواة مما أتت به الأديان قديما. لذلك نجد مجتمعات دينية
كثيرة، وأخرى تحذو حذوها، قد استغنت عن هذا الجانب السياسي والاجتماعي فيها، أي كل
ما يتعلق بالأحكام والمعاملات، مقابل النظام الديمقراطي المعاصر وقيم المواطنة والعالمية
والتعايش وحقوق الإنسان. ولكنها، في المقابل، لا تزال ولو نسبيا متمسكة ببعض مظاهر
التدين المتعلقة خصوصا بالطقوس والعبادات وكل ما يدل على الهوية الدينية من ممارسات
فردية وجماعية لا تؤثر بتاتا في الالتزام بالقيم لأنها غير مرتبطة بها.المشكلة هو أن
هذا النظام العالمي الجديد في صيغته الحالية لا يجيب عن تساؤلاتنا الوجودية ولا يقدم
إلا النظرية تلو النظرية،فلا يلوح في الأفق القريب أية إمكانية علمية لفهم خلق الكون
وماهية الإنسان والهدف من وجوده. من جهة ثانية فهو يُغَيّب الجانب الروحاني من وجودنا
وهو الذي يعطينا الدافع للالتزام بالقيم والقدرة على مواجهة المحن والشعور بالرضى والسعادة
والرغبة في الحياة والاستمرار...
هذه وجهة نظري لما آلت إليه الأمور في هذه المرحلة
الانتقالية من تاريخ البشرية والمجال هنا لا يتسع للغوص في تفاصيل الأديان الموجودة
في حياتنا والوقوف على أوجه الشبه وأوجه الاختلاف فيها. ويبقى الغرض من هذا التحليل
البسيط هو أن تُسهم هذه الرؤية حول ضرورة تطور الأديان واستمرارية تجددها، ولو بقليل،
في فهم الأحداث الجارية. والأهم من هذا وذاك هو أن يحثنا هذا التعقيد الحاصل على تحري
الحقيقةومشاهدة الأمور بعين العدلوالإنصاف وليس من خلال الأحكام المسبقة والشائع من
الأوصاف. فبذلك فقطيمكن للشعوب أن تتجاوز اختلافها وتتقبَّله وتتوحد في تنوعها وتُثمِّنه،
وتحارب التعصبات بكل أشكالها حتى تصبح الهوية الإنسانية أسمى من كل الهويات الفرعية.