منذ قرنين من الزمن ونحن نشهد تحولات جذرية شملت
كل مناحي الحياة البشرية. كل شيء أصبح مختلفا في عالم مرتبط الأركان تصل أخباره في
لمح البصر وكأنه عالم
الجان وليس عالم الإنسان. القبائل والممالك والإمبراطوريات أصبحت
دولا لها حدود مرسومة وأعلام مرفوعة ونشيد يُلهب حماسة الأفراد الحاملين لنفس الجنسية
... الجنسية،هذا التعريف الجديد للهوية الجماعية،يُعدُّ هو الآخر من بين التحولات الأخيرة
التي عرفتها البشرية. والانتماء اليوم للجماعة الدينية وللقوم وللقبيلة يأتي في المرتبة
الثانية بعد الانتماء للوطن،فلا شيء يعلو على الهوية الوطنية.لقد صار للشعوب دساتيروقوانين
تَحكُمها وللعالم الجديد نظام مُوحَّد يُسيِّره. وأصبح للسفر جواز وللهوية بطاقة وللأسرة
مدونة. ولو بُعث إنسان من القرون السابقة في عصرنا ووجد أن الإنسان يطير وأن الحيوانات
صارت لها حديقة،فهو سيُجنُّ لا محالةولن يصدق أبدا أنها الحقيقة.
لكن هل تطوَّرَ وعي الشعوب بقدر تطور العلوم والمعرفة؟
وهل استطاعت القيم والمفاهيم الحديثة تعويض ما ترسخ في العقول والأذهان من أفكارومعتقدات
قديمة؟ هل يستطيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مثلا، أن يمحو التعصبات المتأصلة
سواء كانت للجنس أو اللون أو الدين أوالقوم أو القبيلة؟ هل يستطيع المجتمع الحديث أن
يتعايش في سلام رغم انتماءاتنا الفرعية المتعددة وأفكارنا ومعتقداتنا المختلفة؟ هل
يتنازل الرجل عن مكتسباته التاريخية لصالح المرأة وهي في نظره لا تزال ناقصة ضعيفة؟
هل سيُنظر للدين على أنه غذاء روحاني يسمو بالروح ويهذب الأخلاق أم سيستمر استغلاله
لأغراض تحكمية بطرق سخيفة وأحيانا عنيفة؟ هل ستصبح المواطنة حقا ثقافة مجتمعية أم أنها
ستظل مجرد سطر في أوراقنا الثبوتية أو عنوانا لمقال في صحيفة؟ تساؤلات كثيرة أفرزها
واقعنا الاجتماعيوهو يراقب في دهشة أحداث ثورة علمية وتكنولوجية لم يشهد لها مثيلا
... وكأنها ولادة عالم جديد بذاكرة قديمة.
في هذا النظام العالمي الجديد كل شيء يحمل صفة العالمية.
حتى الحرب بين القوى المتصارعة التي عرفتها البشرية على مر العصور أصبحت حربا عالمية.
لقد أدركت الشعوب أنها لا يمكنها بعد اليوم أن تستمر في صراعها القديم من أجل السيطرة
وبسط النفوذ، وأن اتحادها السياسي وانتظامها في منظومة أممية هو السبيل الوحيد لبقائها
واستمرارها. ورغم أن النموذج الحالي لهيأة الأمم المتحدة لم يصل بعد للمستوى الذي يضمن
حقوق الدول كافة بشكل عادل ومتكافئ فإنه على الأقل يساعدها في أن تتفادى نشوب حرب عالمية
جديدة. ومهما حاولت قوى الهدم جر المنظومة الدولية لهذا المستنقع العفن فإن مخلفات
الحرب العالمية في الذاكرة الإنسانية ستظل واقفة أمام محاولاتها سدا منيعا.
من جهة أخرى، استطاعت بعض المجتمعات أن تستفيد من
الدروس المستقاة من تلك الحرب المدمرة لتسلك خيار الوحدة والتعايش.فجعلت من تنوعها
وتعدد روافدها سببا في التقدم والتميز وتحقيق النمو والرفاهية.ومن ينظر إلى حال الشعوب
الأوروبية في هذه الآونة لا يمكنه أن يتصور مدى العداوة والبغضاء التي كانت تضمرها
لبعضها البعض في القرون السالفة، وأن هذه البلاد كانت في يوم من الأيام ساحة معركة
طاحنة. في حين بقيت مجتمعات أخرى على حالها تغذي تعصباتها وترفض تنوعهاواختلاف أفرادها،
مما أدى بها إلى التناحر والاقتتال واندلاع الحروب الأهلية.وبالطبع هناك مجتمعات تعيش
مرحلة انتقالية وكأنها تحاول التأقلم مع الوضع الجديد. فهي ترفع عاليا شعار التعايش
ولكنها لا زالت تتردد في تنزيله فعليا على أرض الواقع.
وينطبق هذا الوضع بالخصوص على الدول ذات المرجعية
الدينية الواحدة والتي سلكت في نفس الوقت خيار الحداثة والانضمام الكلي إلى المنظومة
الدولية. فهي تعلن وبكل افتخار التزامها بالعهود والمواثيق الدولية التي تنص على احترام
حقوق الإنسان وحريته في التعبير عن رأيه واختيار معتقده، في حين أن جزءا مهما من قوانينها
يتناقض في جوهره مع كل ما سبق والتزمت به. وأفضل مثال على ذلك هي القوانين المنظمة
للأحوال الشخصية حين تكون خاضعة لأحكام وتعاليم الدين الواحد وتطبق على جميع المواطنين
بلا استثناء. فهذا يعني أن الدولة تُلزم مواطنيها بالامتثال لأحكام دينية معينة حتى
لو اختاروا عقيدة مختلفة أو كانوا لادينيين، في إشارة ضمنية لرفض المجتمعأي احتمال
لوجود هذا النوع من الاختلاف.
نفس الملاحظة قد تنطبق على المناهج التربوية والتعليمية
التي تضم حصريا تربية دينية ومعلومات تاريخية مرتبطة بدين الدولة وتفرض علىأبناء جميع
المواطنين. وهذا لا يتعارض ومبدأ حرية المعتقد فحسب بل يسهم أيضا في تكوين جيل متعصب
رافض للاختلاف ولقيم التعايش. كما أنه من الناحية الاجتماعية نجد أن شعوب هذه الدول
تعيش حالة من الازدواجية بين مظاهر الحداثة والانفتاح والتي قد يصفها البعض على أنها
انحلال وفسوق، ومظاهر التدين التي يصفها البعض الآخر في كثير من الأحيان على أنها تطرف
وتشدد. وحين يكون الحديث عن حرية الفكر والمعتقد فهو يترنح بين دعوات التكفير والقتل
والإقصاء وبين نداء التسامح وضمان حقوق الأقليات. لكنه لا يرقى أبدا لمستوى الحديث
عن تعايش حقيقي بين مواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات.
لقد آن الأوان لندرك أن التعايش بات ضرورة ملحة
ولم يعد مجرد شعار رنان. فمفهوم الأمة قد ولى تاركا مكانه لمفهوم أكثر شمولية لأنهيعبر
عن إنسانية موحدة. ولم يعد بالإمكان تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار فكلهم مواطنون وكلهم
سواسية أمام القانون. ولا يكفي أن نتسامح مع من خالفنا في الرأي والعقيدة لأن الاختلاف
ليس ذنبا أو جريمة حتى نتسامح معه. ولعل الوقت قد حان لنزيل غشاوة التعصب عن أعيننا
ونرى جمال تنوعنا والقوة الكامنة في وحدتنا على اختلاف أفكارنا ومعتقداتنا. وليس الهدف
فقط سن القوانين والتشريعات التي تضمن كافة الحريات والحقوق الأساسية، بل أملنا هو
أن يصبح التعايش بالفعل ثقافة مجتمعية. وهذا لن يتأتى إلا من خلال تربية منفتحة وعملية
تعليمية مندمجة تستهدف كافة الفئات العمرية.