-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

أسعدُ مَحظوظ ُالقدر: ذ. رشيد سكري


1.
    قصة قصيرة : من خلف تلك الهضاب الواجمَة ، كانت أتانُ أسعدُ الشهباءُ تثير نقعا شفيفا بحوافرها ، وسط الشِّعاب والممرات الدَّائِحة . إنَّها الأرضُ المباركة ، التي اهتزَّت وربت بفعل
بطولاتٍ و ملاحمَ غويرةٍ في الزمن ؛ فتقطَّعت أوصالَـُها بالصَّواعدِ والهوابطِ  و العروق المعدنيَّة . دامغة خلفها سُهُوما ، يرفُّ لها الوجَدُ حاسرا بين الألم  والأمل . عيونٌٍ رقراقةٌ ووديان يحفُّها عريشُ أشجار سامقة للصَّفصافِ و الوَرْس على مد البصر. فوقها تسنَّمت ريحُ الدَّبورِ بهُبوبها السَّجيج ، تدفع الأتانَ نحو الهَمْـلجة بأجولةٍ وصناديقَ مُتهادية ؛ كهـَوْدج يحمل زَفـَّة عروس .
    تحت وطأة شمس ملفحة وصهد قائظ  ، تدفَّق من مسامات الأتانِ العرقُ الهَمُوعُ ، وهي تعيد إلى ذهنها المسارَ المحفورَ في ذاكرتها ، منذ أيام الشيخ سيدي علال المصدر . يتذكر أسعدُ محظوظ ُالقدر كيف كانت سنابكُ  خيوله البرِّيَّة  تدكُّ الأرضَ دكا ، قبل أن تتجمع في حضيرة وارفة الظلال على  قـُنَّة الأكمة المطلة على القرية . حزام صبار عالٍ يعاندُ العنانَ ، ونعيق أغربة مقيمة تتلاشى كضياء الأماسي . للمزرعة  بابٌ من قصب البامبو متشابك السَّدى يُبَسَّمُ مع خيوط الفجر الأولى ، ولا يوصد إلا  والمساءُ عائدٌ إلى بـِطاحه ؛ يطوي حوافرَ الخيولِ البريَّة في لحافه البني المتدثر بالشفق الحاني على وجع هذا التراب المسحوق.  
   ذو الغـُرَّة البيضاء ، قِطْعة من الليل هذا الجوادُ الأدْهمُ الهَبْهابُ، فرسٌ عربيَّةٌ أصيلة يمتطي صَهْوتها سيدي علال المْصَدر ... يلتحف منصوريَّة بيضَاءَ كالقطن يشدها زنارٌ أسودُ ، و يلف شعرَه الأشمطَ بياقةٍ صفراءَ ، تتدلى على عُروة وحيدة مفتوحة جهة الظهر ؛ لا يعود أدراجه أبدا ، حتى تبتل قوائمُ فرسه اللاَّغِبة بالماء العطِر الزُّلال . مترنما بصوته الشجي ، بأضمومة عشق غامض لوَجَدٍ موطنـُه بين الجَوى و الجَوانح ... يقول :
عَيْنٌ ترى ...
وعينٌ لا ترى...
وعين بُوثِلْمْسِيرْدين ، هي عينُ الله .
عينٌ دامعة و أخرى مائيَّة ،
أُسَرِّحُ بها اليبابَ ... فأملأُ بها السواقيَ و الأحواضَ .
أشقُّ المروجَ... صَعودا .  
أتفقدُ المحصولَ ... نزولا.
أروي بها شجرة الخلد .
كي يخلد الخلد .
فينزل من على صهوة الأدْهم ، واضعا رجلا على التراب ، و أخرى لازالت عالقة  بالركاب النحاسي البراق ، الموشوم بفروسيَّة بائدة .  
2.
    بين دُغلٍ و غِياضٍ يُطلُّ علال المْصَدر بالأدهمِ الصَّقلاويِّ على عين الله الرَّحيمة ، تذرف دموعها في سخاء بماء ساخن ، يعلو و يتسَامى بُخارُه كستارٍ شفيفٍ ، لا يحجبُ وراءه سوى أطيافا بنفسجيَّة ؛ فتحنو السَّخية على أمهات القرية ، أيام القرِّ، حُنُوَّ المرضعات على الوليد . يقصدْنها لإزالة الأدران العالقة ، بما يتدثرن به في رحلة دائمة بين الشتاء والصيف . و بها سقى الكوثرُ أغصانَ الأُشُنَّة المنتشرة  على حوافي هذه الوهَاد المائلة ، التي تطل في كبرياء على مروج خضراءَ واسعةٍ ، فتعوي فيها الدَّبُورُ و تنفخ في البيوت المُطيَّنة الوطيئة ؛ فتئزُّ أزيزا على شكل كورال واحد ، يُنشد فجرا من حرية وحنين . 
  دخول المنتصر دخلتِ الشهْباءُ عين بُوثِلْمْسيرْدين ، كما كانت و لا تزال متهادية ذات اليمين و ذات الشمال بهَوْدَجها الثقيل . لحظتئذ رشفت منها رشفتين اثنتين واسعتين وكافيتين ؛ كي ترويَ ظمأها قبل أن تستأنف المسير ، في اتجاه الضريح المعلق في تلك الأحراش كتميمة بيضاءَ. عَريشٌ ممتدٌّ من الظلال يحفُّها عَبَق الذبال العَطِن المنتشر في الخميلة ، وثمارُ الوَرْس و الدُّوح البَرِّيتين المزغَّبتين خَرُفت ، ومافتِئَتْ تتساقط على صفحات ماء الجنة مستصدرة موسيقية الطبيعة . إنها قطعة أرض مباركة ممتدة في صحن هذا الأبدي .
الأجولة ُوالأوتادُ  والأفرشة و الأغطية كل ذلك يعرفه أسعدُ محظوظُ القدر، رطَّب ريقَه وتلمظ شفتيه  ، وابتسم للهباء عن ثنيتين ذهبيتين ؛ قبل أن يصعدَ الأكمة ؛ ليدفع الأحْصِنة على المَسير. يتذكر محظوظُ القدر واقعة الحجرة الملساء ، عندما عثر عليه سيدي علال المصدر ، وهو مُكبْكبٌ في خِرقة بيضاءَ كالحليب عند جذع نخلة ؛ تورف ظلالها على هذه الحجرة الميمونة  . سلك به الشعاب والممرات ، وصوت نحيبه رَفَّتْ له  ، من أعشاشها ، صغار القطا  والغرانيق ؛ فانطادَتْ بين السماء و الأرض مشكلة علامة نصرٍ غامض آتٍ.   
  ظهرتْ في تلك الليلة نجومٌ قطبيَّةٌ كثيفة النور والضياء ، اخترق سُجُوف المساء قبل أن يمضمض النهار عيونه بطلعات الغبش و العَتـْمة . دخل سيدي علال المصدر بمحظوظ القدر صحنَ الدار، فقوقأت الديكة الملونة الريش قَوْقأة واحدة ، كما لو أنها ترحب بهذا الوافدِ الجديد على طريقتها الخاصةِ .   
من خلف خصاصات الباب و شقوقه كانت حَدُّوم ... تتأمل قطعة الثوب الأبيض ، الذي يحمله سيدي علال المصدر . وبصوت صليل لم تألفه حدوم ، قال :
  ـ خذيه ، وبليلي ريْقه بزيت الزيتون وبملاعقَ من العسل البري . أنا سأوقد نارا ؛ لتدفئة هذا الجسدَ الصغيرَ البردان .  
3.
  فتح محظوظ القدر عيونـَه الصغيرة على المزرعة و على خيولها البريَّة المطلة على القرية . وجهه مدوَّرٌ ، نوني الذقن ، عريض الجبهة و الابتسامة ، مكدود القد و القامة . كان سيدي علال المصدر يصطحبه معه في خرجاته  نحو الولي الصالح سيدي أحمد البوهالي ؛ محفل يقام مرة واحدة من كل سنة . يُردفه وراءه و يقطعُ به الأحراشَ و المروجَ و الوديان ... وكان قلبه الصغير يخفق حماسا و يَجِل خوفا من السقوط ، خصوصا عندما يشكمها بغلظة و جفاء .  فكلما اشتدت صعوبة الإختبار، ازداد معه تعلق محظوظ القدر بأهداب حلم الفارس الخيَّال  ؛ الذي لا يشق له غبار .
تعلمتُ كيف أصاحب الخيَّال ، وكيف ألكز الفرس لكزا كي تعاند صفير الريح . علمني حبها الأصيلة منها و الوضيعة ، علمني اشتياقها أي نوع من الأعشاب البريَّة ، التي يُسيل لها لعابها الشفيف ... تعلمت من مهورها كيف ستصبح خيولا شاطرة ، لا تكفُّ عن الحركة  والدوران . تعلمت منها كيف تهوى الظل الظليل  ، و حوافرُها تـُطرطش بها مياه عين بُوثِلْمْسيرْدين ، وهي تهز جسدها بعنف نافضة عنها البللَ و القطْرَ ؛ فتزداد صقلا على صقل . مشيها الدَّفيف ُتروض به جسدها النحيف ، وهي تطرطق أذنيها المنتصبتين .
الصَّقلاوي و الأدهمُ و الكـُمَيْتُ ذو القوائم المحجَّلة و الرفيعة و الوضيعة كلها تعرفني ، وأنا وراءها بالأتان الشهباء ، أشدها وأمسكها بخيوط صوتيَّة و حبال من نور، ألفتها من حنجرتي الرَّنانة ، وهي لازالت مهورا صغيرة ، تتعاثر في الإسطبل . أحثها على السير الدَّفيف ، والريح تلاعب شعْرها السَّابغ ، فتبدو تحت أطياف الظهيرة كحوريات البحر . كنت أقرأ عليها آيات من الذكر الحكيم ، قبل عرضها في محفل ضريح سيدي أحمد البوهالي ؛ الولي المعلق في السماء كالحجرة المشرفة . وكنت أريدها أن تدخل من أبوابٍ متفرقةٍ حتى لا تصاب بنزلة عين ؛ تلحق بها الضررَ و الأدى .
                                             سيرة الكاتب 
   رشيد سكري من مواليد 17/12/1972  بجنوب المغرب . حصلت على الإجازة في اللغة العربية و آدابها ، وتخرجت من جامعة ابن طفيل كلية الآداب بالقنيطرة سنة 2004.فحصلت على شهادة الإجازة بميزة " مستحسن " .
    تابعت دراستي في سلك الماستر بجامعة محمد الخامس كلية الآداب تخصص تاريخ بنيات الشعر المغربي الحديث . فحصلت على شهادة الماستر في اللغة العربية و آدابها سنة 2011 . سجلت بحثا في السرديات لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع " الجماليات الفنية  وإنتاج الدلالة في إبداعات أحمد بوزفور " .
نشرت منذ 1996 العديد من القصص القصيرة و الدراسات النقدية في الصحف الوطنية  والعربية والمجلات إلكترونية.
أشتغل أستاذا بالتأهيلي بمدينة الخميسات المغرب.
بالنسبة للغات أتحدث باللغتين العربية و الفرنسية ، و أفهم الانجليزية .
متزوج و أب لثلاثة أطفال.
البريد الالكتروني :     RACHID.SKRI@HOTMAIL.COM


عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا