1.
قصة قصيرة : من خلف
تلك الهضاب الواجمَة ، كانت أتانُ أسعدُ الشهباءُ تثير نقعا شفيفا بحوافرها
، وسط الشِّعاب والممرات الدَّائِحة . إنَّها الأرضُ المباركة ، التي اهتزَّت وربت
بفعل
بطولاتٍ و ملاحمَ غويرةٍ في الزمن ؛ فتقطَّعت أوصالَـُها بالصَّواعدِ والهوابطِ و العروق المعدنيَّة . دامغة خلفها سُهُوما ، يرفُّ لها الوجَدُ حاسرا بين الألم والأمل . عيونٌٍ رقراقةٌ ووديان يحفُّها عريشُ أشجار سامقة للصَّفصافِ و الوَرْس على مد البصر. فوقها تسنَّمت ريحُ الدَّبورِ بهُبوبها السَّجيج ، تدفع الأتانَ نحو الهَمْـلجة بأجولةٍ وصناديقَ مُتهادية ؛ كهـَوْدج يحمل زَفـَّة عروس .
بطولاتٍ و ملاحمَ غويرةٍ في الزمن ؛ فتقطَّعت أوصالَـُها بالصَّواعدِ والهوابطِ و العروق المعدنيَّة . دامغة خلفها سُهُوما ، يرفُّ لها الوجَدُ حاسرا بين الألم والأمل . عيونٌٍ رقراقةٌ ووديان يحفُّها عريشُ أشجار سامقة للصَّفصافِ و الوَرْس على مد البصر. فوقها تسنَّمت ريحُ الدَّبورِ بهُبوبها السَّجيج ، تدفع الأتانَ نحو الهَمْـلجة بأجولةٍ وصناديقَ مُتهادية ؛ كهـَوْدج يحمل زَفـَّة عروس .
تحت وطأة شمس ملفحة وصهد قائظ ، تدفَّق من مسامات الأتانِ العرقُ الهَمُوعُ ،
وهي تعيد إلى ذهنها المسارَ المحفورَ في ذاكرتها ، منذ أيام الشيخ سيدي علال
المصدر . يتذكر أسعدُ محظوظ ُالقدر كيف كانت سنابكُ خيوله البرِّيَّة تدكُّ الأرضَ دكا ، قبل أن تتجمع في حضيرة وارفة
الظلال على قـُنَّة الأكمة المطلة على
القرية . حزام صبار عالٍ يعاندُ العنانَ ، ونعيق أغربة مقيمة تتلاشى كضياء الأماسي
. للمزرعة بابٌ من قصب البامبو متشابك السَّدى
يُبَسَّمُ مع خيوط الفجر الأولى ، ولا يوصد إلا والمساءُ عائدٌ إلى بـِطاحه ؛ يطوي حوافرَ
الخيولِ البريَّة في لحافه البني المتدثر بالشفق الحاني على وجع هذا التراب
المسحوق.
ذو الغـُرَّة البيضاء ، قِطْعة من الليل هذا
الجوادُ الأدْهمُ الهَبْهابُ، فرسٌ عربيَّةٌ أصيلة يمتطي صَهْوتها
سيدي علال المْصَدر ... يلتحف منصوريَّة بيضَاءَ كالقطن يشدها زنارٌ أسودُ ، و
يلف شعرَه الأشمطَ بياقةٍ صفراءَ ، تتدلى على عُروة وحيدة مفتوحة جهة الظهر ؛ لا
يعود أدراجه أبدا ، حتى تبتل قوائمُ فرسه اللاَّغِبة بالماء العطِر الزُّلال .
مترنما بصوته الشجي ، بأضمومة عشق غامض لوَجَدٍ موطنـُه بين الجَوى و الجَوانح ...
يقول :
عَيْنٌ ترى ...
وعينٌ لا ترى...
وعين بُوثِلْمْسِيرْدين
، هي عينُ الله .
عينٌ دامعة و أخرى
مائيَّة ،
أُسَرِّحُ بها
اليبابَ ... فأملأُ بها السواقيَ و الأحواضَ .
أشقُّ المروجَ...
صَعودا .
أتفقدُ المحصولَ
... نزولا.
أروي بها شجرة
الخلد .
كي يخلد الخلد .
فينزل من على صهوة
الأدْهم ، واضعا رجلا على التراب ، و أخرى لازالت عالقة بالركاب النحاسي البراق ، الموشوم بفروسيَّة
بائدة .
2.
بين
دُغلٍ و غِياضٍ يُطلُّ علال المْصَدر بالأدهمِ الصَّقلاويِّ على عين الله الرَّحيمة
، تذرف دموعها في سخاء بماء ساخن ، يعلو و يتسَامى بُخارُه كستارٍ شفيفٍ ، لا يحجبُ
وراءه سوى أطيافا بنفسجيَّة ؛ فتحنو السَّخية على أمهات القرية ، أيام القرِّ، حُنُوَّ
المرضعات على الوليد . يقصدْنها لإزالة الأدران العالقة ، بما يتدثرن به في رحلة دائمة
بين الشتاء والصيف . و بها سقى الكوثرُ أغصانَ الأُشُنَّة المنتشرة على حوافي هذه الوهَاد المائلة ، التي تطل في
كبرياء على مروج خضراءَ واسعةٍ ، فتعوي فيها الدَّبُورُ و تنفخ في البيوت المُطيَّنة
الوطيئة ؛ فتئزُّ أزيزا على شكل كورال واحد ، يُنشد فجرا من حرية وحنين .
دخول المنتصر دخلتِ الشهْباءُ عين بُوثِلْمْسيرْدين
، كما كانت و لا تزال متهادية ذات اليمين و ذات الشمال بهَوْدَجها الثقيل . لحظتئذ
رشفت منها رشفتين اثنتين واسعتين وكافيتين ؛ كي ترويَ ظمأها قبل أن تستأنف المسير ،
في اتجاه الضريح المعلق في تلك الأحراش كتميمة بيضاءَ. عَريشٌ ممتدٌّ من الظلال يحفُّها
عَبَق الذبال العَطِن المنتشر في الخميلة ، وثمارُ الوَرْس و الدُّوح البَرِّيتين
المزغَّبتين خَرُفت ، ومافتِئَتْ تتساقط على صفحات ماء الجنة مستصدرة موسيقية
الطبيعة . إنها قطعة أرض مباركة ممتدة في صحن هذا الأبدي .
الأجولة
ُوالأوتادُ والأفرشة و الأغطية كل ذلك
يعرفه أسعدُ محظوظُ القدر، رطَّب ريقَه وتلمظ شفتيه ، وابتسم للهباء عن ثنيتين ذهبيتين ؛ قبل أن
يصعدَ الأكمة ؛ ليدفع الأحْصِنة على المَسير. يتذكر محظوظُ القدر واقعة الحجرة
الملساء ، عندما عثر عليه سيدي علال المصدر ، وهو مُكبْكبٌ في خِرقة بيضاءَ
كالحليب عند جذع نخلة ؛ تورف ظلالها على هذه الحجرة الميمونة . سلك به الشعاب والممرات ، وصوت نحيبه رَفَّتْ
له ، من أعشاشها ، صغار القطا والغرانيق ؛ فانطادَتْ بين السماء و الأرض مشكلة
علامة نصرٍ غامض آتٍ.
ظهرتْ في تلك الليلة نجومٌ قطبيَّةٌ كثيفة
النور والضياء ، اخترق سُجُوف المساء قبل أن يمضمض النهار عيونه بطلعات الغبش و
العَتـْمة . دخل سيدي علال المصدر بمحظوظ القدر صحنَ الدار، فقوقأت الديكة
الملونة الريش قَوْقأة واحدة ، كما لو أنها ترحب بهذا الوافدِ الجديد على طريقتها
الخاصةِ .
من خلف خصاصات
الباب و شقوقه كانت حَدُّوم ... تتأمل قطعة الثوب الأبيض ، الذي يحمله سيدي
علال المصدر . وبصوت صليل لم تألفه حدوم ، قال :
ـ خذيه ، وبليلي ريْقه بزيت الزيتون وبملاعقَ
من العسل البري . أنا سأوقد نارا ؛ لتدفئة هذا الجسدَ الصغيرَ البردان .
3.
فتح محظوظ القدر عيونـَه الصغيرة على
المزرعة و على خيولها البريَّة المطلة على القرية . وجهه مدوَّرٌ ، نوني الذقن ،
عريض الجبهة و الابتسامة ، مكدود القد و القامة . كان سيدي علال المصدر
يصطحبه معه في خرجاته نحو الولي
الصالح سيدي أحمد البوهالي ؛ محفل يقام مرة واحدة من كل سنة .
يُردفه وراءه و يقطعُ به الأحراشَ و المروجَ و الوديان ... وكان قلبه الصغير يخفق
حماسا و يَجِل خوفا من السقوط ، خصوصا عندما يشكمها بغلظة و جفاء . فكلما اشتدت صعوبة الإختبار، ازداد معه تعلق محظوظ
القدر بأهداب حلم الفارس الخيَّال ؛
الذي لا يشق له غبار .
تعلمتُ كيف أصاحب
الخيَّال ، وكيف ألكز الفرس لكزا كي تعاند صفير الريح . علمني حبها الأصيلة منها و
الوضيعة ، علمني اشتياقها أي نوع من الأعشاب البريَّة ، التي يُسيل لها لعابها الشفيف
... تعلمت من مهورها كيف ستصبح خيولا شاطرة ، لا تكفُّ عن الحركة والدوران . تعلمت منها كيف تهوى الظل
الظليل ، و حوافرُها تـُطرطش بها
مياه عين بُوثِلْمْسيرْدين ، وهي تهز جسدها بعنف نافضة عنها البللَ و
القطْرَ ؛ فتزداد صقلا على صقل . مشيها الدَّفيف ُتروض به جسدها النحيف ، وهي
تطرطق أذنيها المنتصبتين .
الصَّقلاوي و
الأدهمُ و الكـُمَيْتُ ذو القوائم المحجَّلة و الرفيعة و الوضيعة كلها تعرفني ،
وأنا وراءها بالأتان الشهباء ، أشدها وأمسكها بخيوط صوتيَّة و حبال من نور، ألفتها
من حنجرتي الرَّنانة ، وهي لازالت مهورا صغيرة ، تتعاثر في الإسطبل . أحثها على
السير الدَّفيف ، والريح تلاعب شعْرها السَّابغ ، فتبدو تحت أطياف الظهيرة كحوريات
البحر . كنت أقرأ عليها آيات من الذكر الحكيم ، قبل عرضها في محفل ضريح سيدي
أحمد البوهالي ؛ الولي المعلق في السماء كالحجرة المشرفة . وكنت أريدها
أن تدخل من أبوابٍ متفرقةٍ حتى لا تصاب بنزلة عين ؛ تلحق بها الضررَ و الأدى .
سيرة الكاتب
رشيد
سكري من مواليد 17/12/1972 بجنوب
المغرب . حصلت على الإجازة في اللغة العربية و آدابها ، وتخرجت من جامعة ابن طفيل كلية
الآداب بالقنيطرة سنة 2004.فحصلت على شهادة الإجازة بميزة " مستحسن " .
تابعت دراستي في سلك الماستر بجامعة محمد الخامس
كلية الآداب تخصص تاريخ بنيات الشعر المغربي الحديث . فحصلت على شهادة الماستر في
اللغة العربية و آدابها سنة 2011 . سجلت بحثا في السرديات لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع
" الجماليات الفنية وإنتاج الدلالة
في إبداعات أحمد بوزفور " .
نشرت منذ 1996 العديد من القصص القصيرة و الدراسات النقدية في الصحف الوطنية والعربية والمجلات إلكترونية.
أشتغل أستاذا بالتأهيلي بمدينة الخميسات المغرب.
بالنسبة للغات أتحدث باللغتين العربية و الفرنسية ، و أفهم الانجليزية
.
متزوج و أب لثلاثة أطفال.
البريد الالكتروني : RACHID.SKRI@HOTMAIL.COM