في 16/3/2007 نشرت مجلة روزا اليوسف ملفا خاصا عن العلمانية يتضمن استطلاعا لرأي رجل الشارع المصري في العلمانية أوجزته في ثلاث نقاط:
2- سيطرة اليهود علي العالم
3- ترويج أمريكا للعلمانية من اجل القضاء علي الإسلام
وتشير النقاط الثلاثة المستخلصة من استطلاع رأي رجل الشارع إلي أن كراهيته للعلمانية ورفضه لها لا يمكنان في العلمانية ذاتيا ولكن في ارتباطهما بالغرب، والغرب مختزل، عند رجل الشارع في اليهود وأمريكا، ومعني ذلك أن كراهية الغرب سابقة علي كراهية العلمانية.
والسؤال إذن: لماذا يكره رجل الشارع الغرب؟
جواب هذا السؤال يلزمنا بالعودة في الزمان إلي القرن الحادي عشر الميلادي، وبالتحديد عام (488هـ)، وهو العام الذي نشر فيه أبو حامد الغزالي، عالم الدين الشهير بتكفير الفلسفة والفلاسفة، كتابه (تهافت الفلاسفة) الذي كفر فيه الفلاسفة من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا لأنهم تأثروا بالفلاسفة اليونان الأثينيين من أمثال افلاطون وأرسطو، وقد كانت اليونان، في ذلك الزمن، هي الغرب بالنسبة إلي العرب المسلمين، ونخلص من ذلك إلي أن كراهية الغرب مرتبطة أيضا بكراهية التفلسف، وكراهية التفلسف لازمة لأنها معادية للعقيدة الإسلامية ومهددة لها علي حد ما جاء به الغزالي.
وقد حاول الفيلسوف الإسلامي العظيم ابن رشد الدفاع عن مشروعية التفلسف وذلك بنقد أفكار الغزالي فألف ثلاثة كتب من اجل إعلان هذا الدفاع: هي “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال”، ” و”تهافت التهافت”، و”الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”
قال ابن رشد: في كتابة “فصل المقال”: يجب علينا أن نستعين بما قاله من تقدمنا وسواء كان هذا الغير مشارك لنا أو غير مشارك لنا في الملة، فإن الالة التي تصبح بها التذكية لا يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة المشارك لنا في الملة أو غير المشارك إذا كانت فيها شروط الصحة، واعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام، وإذا كان الأمر هكذا وكان كل ما يحتاج إليه من النظر امر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم الفحص فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلي كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا إليه”.
ثم قال أيضا في التدليل علي عدم التناقض بين الشريعة والفلسفة: إن الحق لا يضاد الحق”، وهو يقصد بذلك الحق الديني والحق الفلسفي، وفي كتاب “تهافت التهافت”، قال ابن رشد: “فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل”، واهميه هذه العبارة مردودة إلي أن علماء الكلام كانوا قد انكروا مبدأ العلية لسببين: السبب الأول أن الله هو العلة الوحيدة ولا عله سواها، والقول بعكس ذلك، أي بتعدد العلل من شأنه أن يفضي إلي الشرك بالله وهذا امر مرفوض عقائديا، والسبب الثاني أن القول بأن الطبيعة تخضع، فيما تنتجه من ظواهر، لمبدأ العلية من شأنه إنكار المعجزات، والمعجزات هي في صميم العقيدة الإسلامية، ومن هنا توهم علماء الكلام أنه من الضروري إنكار مبدأ العلية.
أما ابن رشد فقد ربط بين مبدأ العلية والعقلانية ربطا ضروريا بحيث يقال عن الذي ينكر هذا المبدأ انه ينكر العقل.
ومع ذلك لم ينجح ابن رشد في مقاومة لا عقلانية الغزالي بدليل أنه كُفر وأُحرقت مؤلفاته ونفي إلي قريته اليانه، وبدليل أن ابن تيمية، في القرن الثالث عشر، أيد تكفير الغزالي، بل أصبح هو أساس حركة الإخوان المسلمين في مصر وفي العالم الإسلامي، هذا بالإضافة إلي أن حركة الترجمة بدأت في القرن الثامن عشر الميلادي حيث أصبح في امكان العالم الإسلامي قراءة مؤلفات فلاسفة اليونان، إلا أن هذه الحركة لم تفلح في إشاعة الروح الفلسفية وفي القضاء علي كراهية الغرب.
واليوم ثمة حركة ترجمة تقوم بها وزارة الثقافة إلا إنها حركة تهتم علي مجملها بالإنتاج الأدبي الغربي ولكنها لا تهتم بما نحن في امس الحاجة إليه وهو مؤلفات التنوير الأوروبي في القرون الثامن عشر حتى يمكن الاستعانة بها في تأسيس تيار تنويري بتفاعل مع تنوير ابن رشد فيدفع الثقافة العربية والإسلامية إلي تمثل المنتجات الحضارية في القرن العشرين وما بعده.
وإذا كانت العلمانية هي أساس التنوير، وإذا كان التنوير عندنا غائبا، فالعلمانية غائبة ليس فقط عند الجماهير بل عند الخبة في المقام الأول، ذلك اننى أتصور أن تيار الإخوان المسلمين أو بالأدق التيار الأصولي، قد اختطف النخبة وكون منها سدا منيعا ضد شيوع الروح العلمانية، وإذا اختطفت النخبة اختطفت الجماهير.
انظر إلي القنوات الفضائية العربية والإسلامية وتأمل ما يقال فهيا، إلا تتفق معي علي أن معظم برامجها الثقافية غارقة في اللاعقلانية وفي الدعوة الملحة إلي كراهية الغرب فيما ينتجه من فكر وفلسفة وعلم.
وتأمل الفتاوي الدينية التي تموج بها هذه القنوات الفضائية أليست هي الأخرى سائرة في نفس المسار الذي تسير فيه الجماهير، وهو المسار اللاعقلاني؟.
وثمة مفارقة مذهلة تدعو إلي التأمل والتحليل، لقد تبني منتدى ابن رشد الذي أسسه د. مراد وهبة في مارس 2006، تأسيس العلمانية في مصر، وقعد أول مؤتمر للعلمانية في مارس 2006، وفي ذلك العام اهتمت وسائل الإعلام الرسمية بهذا الحدث التاريخي “ونشرت جريدة الأهرام خبرا تفصيليا في صفحتها الأولي عما دار في ذلك المؤتمر بينما صمت المثقفين تماما، وفي السنة التالية 2007 وما بعدها في 2008 عندما عقد منتدى ابن رشد المؤتمر الثاني والثالث عن “تأسيس العلمانية في مصر” توارت وسائل الإعلام وامتنع المثقفون.