لعله من المبالغة رسم صورة قاتمة للتجربة الديمقراطية في المغرب، فهي
بكل تأكيد قد راكمت إيجابيا كثيرة، من أبرزها:
ثانيا: تسجيل نقط إيجابية في التسويق الخارجي للبلاد، فلا شك أن استمرار
الممارسة الديمقراطية بوتيرة عادية ودون انقطاع من شأنه تحسين صورة المغرب لدى الكثير
من الأطراف الخارجية السياسية والاقتصادية والمالية، حتى ولو كان تقييم الداخل لتجربتنا
يختلف كثيرا عن تقييمات الخارج الذي ينظر إلى تجربتنا باعتبارها تجربة نائشة ووليدة
وغير ناضجة، ولكن الإشادة الدولية بها تأتي من باب تشجيع مسار المغرب نحو الانتقال
الديمقراطي، وباعتبار أن ديمقراطية ناشئة تُحرز بعض التقدم خير من الاستبداد أو الفراغ
وغياب المؤسسات.
غير أن الممارسة الديمقراطية في بلادنا لا تزال تواجه عدة عقبات، من بينها:
-أولا:
أن ديمقراطيتنا ماتزال تمثل مجرد هامش مطبوع-بشكل من الأشكال بالتحكم والتوجيه في العالية،
وكونه نبتة ما تزال في طور التأقلم مع المناخ الاجتماعي والذهني في السافلة. فإذا كانت
الدولة، تدفع بشكل أو بآخر بديمقراطية على المقاس تتيح قدرا من المشاركة في السلطة،
فإن الشعب لم يتشبع بعد بالديمقراطية ربطا بعدة عوامل منها انتشار الجهل والأمية القرائية
والكتابية، وظهور جيل جديد من الأميين سياسيا في أوساط من يعتبرون أنفسهم متعلمين ومثقفين.
وربطا بما سبق، قد يبدو التحكم في المسار الديمقراطي مُفكّرا فيه، وقد تكون له أسباب
معقولة. وهذا ليس من قبيل المبالغة، بل هو درس بليغ من دروس الانتخابات البرلمانية
الأخيرة.
ثانيا: أن الفسيفساء الحزبية التي نراها اليوم، لا تبدو أصيلة، ولا تعكس
بأي حال نتاجا طبيعيا وتلقائيا لاختمار أفكار سياسية في قاع المجتمع ما قد يسفر عن
هياكل وبنى سياسية متجذرة وقاعدية نابعة من حاجات اجتماعية. إن وجود أزيد من ثلاثين
حزبا لشعي يزيد عدد سكانه عن 33 مليون بقليل يمصل ظاهرة مصطنعة ومثيرة للاستغراب، وتضخما
غير طبيعي للظاهرة الحزبية عندنا. فلعل هذا ما ينهض دليلا على أن عشرات الأحزاب-التي
لا محل لها من الإعراب إنما خُلقت خلقا، أو سُمح لها بالتواجد القانوني بغاية رسم مشهد
حزبي مفكك وهش وفسيفسائي يسهل التحكم فيه وتوجيهه، وبالتالي القدرة على التحكم في مجريات
أي عملية انتخابية كيفما كانت نتائجها. كما أن البلقنة الحزبية تمنع ظهور أي قوة سياسية
مهيمنة وقادرة على تشكيل الحكومة بمفردها ما يجعلها بحاجة دائما إلى "دفعة"
من الجهات الوصية. فعدا مكسب تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات، فإنه
من السهولة بمكان على الدولة التدخل للإمساك بجميع الخيوط وإعادة رسم الخريطة السياسية
التي تتمخض عنها الانتخابات من خلال عدد من الأحزاب غير المستقلة والذيلية ما يجعل
مخرجات العمليات الانتخابية فاقدة لأي مضمون.
ثالثا: أن فكرة الديمقراطية في قاع المجتمع لاتزال هشة، ويقع فهمها بشكل
مغاير لمقاصدها الأصيلة. فهذا حال معظم المسجلين باللوائح الانتخابية المنتمين في معظمهم
للفئات الهشة اقتصاديا وثقافيا، فالعملية الديمقراطية تستحيل في هذه الأوساط إلى نوع
من تأدية الواجب تجاه الدولة أو تجاه الأعيان المحليين والقبليين دون إدراك الأبعاد
العميقة التي يراهن عليها المؤمنون بالديمقراطية. وعلى العكس من ذلك، اختار القسم الأعظم
من المجتمع من المتعلمين والتلاميذ والطلبة والموظفين والنخبة المثقفة أخذ مسافة من
العملية الديمقراطية والتبرم من الموضوع برمته باعتبار أنها ليست في مستوى الطموحات.
وكاستنتاج عام بخصوص واقع ومآل ديمقراطيتنا يجوز القول بأن خطوات متثاقلة
نحو ترسيخ الفعل الديمقراطي خير من التوقف عن المشي في طريق الديمقراطية أو الهرولة
المتسرعة نحو ديمقراطية مثالية متوهمة منزوعة الصلة بالواقع الاجتماعي الحاضن لها.
كما أنه على الطوباويين من بيننا أن يتوقفوا مليا عن ما جرى ويجري في علاقة مجتمعنا
بالدمقراطية حيث سيتسنى لهم أن يقتنعوا بأن زمن ترسخ التقاليد الديمقراطية الحقة عندنا
ينبغي أن يُعدّ بمئات السنين، وإذ ذاك يمكننا الالتحاق بركب الأمم المتقدمة ديمقراطيا،
وتتحول الديمقراطية عندنا إلى سلوك اجتماعي واعي ومسؤول وحر، وتتحول الديمقراطية عندنا
إلى آلية محايدة ومستقلة لإفراز الأجهزة الحكومية بما يعبر صدقا وفعلا عن حاجات المجتمع.
*كاتب
وأستاذ باحث
abdellatif.ereguigue@yahoo.fr