يبقى التراث ذاكرة ثقافية تُظْهر الإرث
الحضاري والثقافي والإنساني للأمم، الذي به تتشكل حضارتها الإنسانية والتاريخية
والأدبية.
بل يعد التراث نافذة نطل من
خلالها على القيم والآداب والعادات
والتقاليد والأمثال والعبر والألغاز والأساطير والنكت والأغاني والحكايات الشعبية
الخاصة بالأمم . ونظرا لقيمة التراث وأهميته في الحياة الإنسانية فقد شكل مرجعا ملهما للكتاب الذين انفتحوا عليه
ووظفوه في نصوصهم الروائية الجديدة.
ولو بحثنا في الرواية العربية المعاصرة، فسنجدها راهنت على توظيف الموروث
السردي والموروث الشفهي من خلال الاستفادة
منه واستحضاره في النص الروائي . ما خلق نوعا من التعالق بين الأدب القديم (المكتوب
أو الشفهي) وبين الأدب العربي المعاصر. ما جعل الباحث في الرواية يطرح العديد من الأسئلة عن طرق الاشتغال بالتراث.
وفي مقالتنا هذه اخترنا الإحاطة بتجليات توظيف التراث في الرواية المغربية من خلال تجربة الكاتب المغربي
الميلودي شغموم في روايته (عين الفرس).
إذن كيف يوظفُ التراث في الرواية المغربية
المعاصرة؟أين تظهر تجليات هذا التراث في رواية عين الفرس؟ هل يمكن تجديد الكتابة
الروائية انطلاقا من التراث؟ وهل يتعلق الأمر بنقلة طليعية أم انه مجرد نكوص إلى
الوراء؟
لعل
الإجابة عن هذه الأسئلة المشاكسة يفرض علينا أن ننبش في العديد من الكتب
والدراسات التي أنجزت عن الرواية المغربية الحديثة والمعاصرة, والتي من خلالها نكتشف أن الرواية المغربية حسب أحمد اليبوري،"عرفت مجموعة من التطورات ، منذ الثمانينيات والتسعينات، من ذلك توظيفها للتراث الأدبي والفكري والتاريخي والأسطوري بدرجات
متفاوتة"1.
وقد تنوع توظيف التراث في الرواية
المغربية بين :
-
استحضار عبارات أو مفردات ( ذات حمولة دينية أو فلسفية ).
-
توظيف عبارات مسكوكة.
-
توظيف معجم مقطعي.
-
توظيف أحداث أو أسماء أو أعلام أو شخصيات.
-
توظيف حقب تاريخية.
إلى جانب هذا هناك أعمال تعتمد شكلا آخر من التوظيف والمتمثل في اتخاد
شكل اطارات سردية تضم عدة قصص وأساطير متنوعة، ففي التراث العربي نجد مثلا نص الليالي ( ألف ليلة وليلة)،
التي اعتمدت على الإطار لتوليد حكاياتها.
"وعلى غرار نص (الليالي) تجنح رواية عين الفرس إلى انتاج حكاياتها ضمن
نص سردي يضمن إمكانية التكاثر والتعدد. وبذلك تكون قد راهنت على استراتيجية سردية
مزدوجة تواجه بين مستويين: المستوى الأول, يستمد مقوماته من سجلات السرد العربي
الإسلامي الكلاسيكي, والمستوى الثاني يتخذ من القالب الروائي الغربي أفقا لانتظامه
الخاص...بهذا المعنى تكون رواية (العين) قد أعلنت انحيازها إلى سؤال الذاكرة
التراثية باعتباره أفقا للحفر والبحث التجريبيين"2.
إن أول شيء يمكن الوقوف عليه في رواية (عين
الفرس) هو طريقة الحكي التي تذكرنا بالطريقة الكلاسيكية القديمة في (ألف ليلة
وليلة)، والقائمة على "الحكي من أجل البقاء". فإذا كان عبد الكبير
الخطيبي يقف عند مبدأ القص, باعتباره فتنة مطلقة, وهو يتأمل العبارة التالية (احكي
حكاية وإلا قتلتك),فهذا المبدأ هو الذيتتأسس عليه رواية (عين الفرس).
إلى جانب هذا يلاحظ أن الكاتب الميلودي شغموم
لا يتورع في اخفاء ملامح التراث في نصوصه، فلوتتبعنا رواية عين الفرس فسنجد أن
أحداث هذه الرواية تتأسس على حكاية حميد و"لدالعوجة" الذي ينتمي إلى
جماعة لا تجتمع إلاعلى ضلالة، وذيل الحكاية يتجلى في أسطورة ملعونة تعرف باسم
(البسطيلة),وهي الطعام اللذيذ الذي حلم به سكان عين الفرس الذين يعيشون
الجوع والبؤس. فعين الفرس كما
يقدمها الكاتب, مدينة ينتشر فيها البسطاء والمقهورون, فالخير مقطوع عنهم, ما جعلهم
يصدقون الأوهام والنبوءات الكاذبة التي تقال لهم.
إلى جانب هؤلاء البسطاء هناك طغيان دوي السلطة الذين ينشرون الاستبداد
والظلم في عين الفرس. في هذه العين يرى الناس حزمة ضوء ساطعة كل ليلة منبعثة من
البحر, فيتساءلون عن ذلك الضوء والأسطورة الملعونة أو النبوءة المنتشرة بين أهل
المدينة, فيظنون أن الضوء ماهو إلا طعام
البسطيلة, لكن يكتشفون فيما بعد حينما ينكشف الغطاء عن سفن الإسبان ويعرفون
أن الضوء منبعث منها,وأنه لا وجود لنبوءة تتحدث
عن طعام الجياع, وإنما السفن توظف الضوء لاصطياد الحيتان.
لقد استطاع الميلودي شغموم استجماع هذه
الحكاية من حكاية صغرى موجودة في التراث الشعبي, حيث أشار أحمد محمد حافظ* إلى أن حكاية (عين الفرس) أسست من حكاية صغيرة وهي: إن أشعب الطماع لما تخلق
حوله في يوم من الأيام مجموعة من الصبيان, تضايق فلم يجد مخرجا للتخلص منهم سوى في
أن يكذب عليهم, ويزعم أن شخصا في مكان معلوم يفرق حلوة لذيذة, فلما انطوت الخدعة
على الصبيان صدق أشعب نفسه فلحق بهم مهرولا.
فالمادة الحكائية هنا تراثية وشعبية تستمد
جوها من المتخيل الشعبي, فتنحاز إلى شروط المتن الحكائي الأسطوري الذي يتملك الذات
ويسحرها.
إنها إذن - الرواية- تجمع مادة الأسطورة والخرافة والحكاية ضمن ما
يناسب فضاء النص, بذريعة الاستفادة من
التراث والمصادر العربية. ويبدو أن
الميلودي شغموم قد راهن على استنطاق التراث من خلال توظيف الأسطورة لسبك نص وفق
قوالب جديدة تطمح إلى صياغة نص روائي عربي جديد, وهذا ما جعل الكاتب يمارس نوعا من
اللعب التجريبي في توظيف التراث، ويمكن تسجيل هذا اللعب عبر عدة مستويات:
-
''المستوى الأول :إذ في بناء مقومات سرده عاد
إلى سجلات السرد العربي الإسلامي الكلاسيكي (الليالي).
-
المستوى الثاني: بناء السرد استجاب لمعايير
التبويب الفني المراهن عليه ضمن أفق انتظار الجنس الروائي بما هو قالب فني غربي''3,(نذكر هنا أن الرواية قسمها إلى ستة فصول, كل ثلاثة
فصول عنونها بعين, وكل فصل أعطاه عنوان حرف من حروف العين على الشكل التالي:ع,ي,ن.).
''بهذا البناء السردي
المزدوج وبهذا التمفصل المعماري تنخرط عين الفرس ضمن سيرورة التجريب وكأنها في
مجموعها عينان: عين على التراث العربي الإسلامي,وعين على التراث الغربي
المعاصر"4.
ولو تمعنا في الشخصيات الموظفة فسنجدها تحقق
للقارئ نوعا من الألفة والغرابة, (فشخصية محمد بن شهرزاد) تحيل على أصل معروف في
ذاكرة الثقافة العربية الكلاسيكية, إنها شهرزاد الأليفة في متخيل الشرق العربي
الإسلامي بطلة ألف ليلة وليلة, وذكر هذا الاسم ماهو إلا إعلان عن الانخراط في
دائرة التراث.أما باقي الشخصيات أو أغلبها فتصيب القارئ بنوع من الغرابة من حيث
الاسم الذي يزاوج بين الجد والهزل, وتوليف بين الاسم الشخصي واللقب أو الكنية التي
تؤكد على استثمار فني لأفق انتظار الأوساط الشعبية إذ "هناك أسماء مقرونة
بألقاب تحيل على عاهات وعيوب فيزيولوجية,ظاهرة سلوكية مثل: محمد بن شهرزاد الأعور,
حميد ولد العوجة, مبارك بوركبة ,صالح الرعدة"5,وكل الألقاب والكنيات
ماهي إلا توظيف أخر للمخزون التراثي الشفهي.
هوامش:
1-انظر أحمد اليبوري، مقال "الرواية المغربية الجديدة والتراث"
http://www.minculture.gov.ma/index.php/2010-01-11-01-40-04/etudes-essaie/296-ahmed-yabouri-roman-marocain-et-patrimoine
2-محمد أمنصور، استراتيجيات التجريب في الرواية
المغربية المعاصرة,شركة النشر والتوزيع المدارس الدار البيضاء، ص171.
*- أستاذ جامعي يدرس الأدب
الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل ـ القنيطرة- اضافة إلى كونه شاعرا من أعماله: ديوان
(كيمياء)، وديوان(عزلة الكائن).
3-محمد
أمنصور, نفس المرجع, ص172
4-نفس
المرجع, ص 172.
5-نفس المرجع, ص176.