-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

مختزلة إلى روح الفيلسوف "خالد بزوبع فنان" - يوسف اقسيم


كنت حيا وستظل حيا ليس رثاء، ولكنها حقيقة لا بد لها من استمرارية وأمل.
اللغة الطبيعية دائما تكون في حيرة عندما يختارها شخص ما للتعبير عن الأفكار والمعاني التي يريد تمريرها بموضوعية تامة، لكن ومع ذلك سأحاول تطويع نفسي لتقبض عليها لأجل أن تربط المعاني الشعورية والروحية التي أريد لها أن تكون شعاعا يضيء روح الفيلسوف "خالد بزوبع فنان".
لم أكن سوى طالبا كباقي الطلبة الذين التحقوا بالجامعة ليتعودوا بسرعة على حفظ محاضرات الأساتذة بأية وسيلة، قصد استعراضها يوم الامتحان، وهكذا كنت من كثرة إعادة تدوين المحاضرات أستطيع القبض على بعض الأفكار وحفظ بعض المقاطع والعبارات التي تبدو لي مناسبة للحصول على أعلى النقط، وأحيانا أدناها. لقد كنت أجهد نفسي لحمل كل ما يمكنه أن يقيني من عنف الواقع وشدة القهر التي يمارسها "الشعور" الذي ينتاب العاطلين عن العمل. وكنت كما الجميع، أحاول أن أفهم ما يدور في خلد كل أستاذ على حدة، حتى تتناسب أفكاري مع أفكاره يوم الامتحان، وكأني أمارس على نفسي وعليه نوعا من المكر والخداع. أقول له: بدون وعي مني ها أنا ذا معك أوافقك في كل ما تقوله وفي كل الآراء التي تنقلها إلينا من هنا وهناك دون أن أعرف أُسسها وتاريخ تطورها وكيف أصبحت على هذه الحال، وما هي إشكالاتها؟ وكأن الطرق متشعبة ما عليك إلا أن تدخل في التيه.
 لا أدري ما السبب؟ لكن كل ما عرفته آنذاك هو أنه "عُرف" يتبعه الجميع لكي ينالوا الدرجات العليا. فسرت على المنوال. دون أن تزرع فينا الجامعة روح التفكير ؟ ولا كيف نتوصل إلى فكر ينتقد؟ وما الطريق إلى الابتكار والإبداع؟
لربما كان هذا العرف؛ هو الجذر الذي تنبني عليه ثقافتنا. أَوَلَيس الولاء للسلف مبدأ وجب عدم تخطيه، كيفما كانت نوعية وزمن وتاريخ هذا السلف.
عندما التحقت بالجامعة أول مرة لكي أدرُس بشعبة اللغة العربية، لم أكن حينها أحب شيئا اسمه "الفلسفة" والأكثر من هذا تمثلي لها كان فظيعا، لا أعرف ما السبب الذي جعلني أعيش كل هذا الصراع النفسي مع هذه التي توصف بالفلسفة من طرف الناس. كل ما يمكن قوله الآن، هو طرح هذا السؤال حتى لا أكون محليا في قولي وأبدأ بحكي طبيعة ونمط البيئة المتزمتة التي ترعرعت فيها قبل أن أغادرها وأنا عمري اثني عشر سنة لأتبع مسار القراءة والكتابة خارج قريتي، التي وجدت فيها الفلاسفة بالنسبة لهم مجرد زنادقة، يخرجونك من دائرة ثقافتك الدينية ويلجون بك إلى عالم بعيد كل البعد عما يراه الجمع.
 وما القول المأثور "من تمنطق تزندق" إلا شاهد تجذر منذ االقديم فينا... أو إن السبب راجع ايضا لطبيعة البيداغوجيا التي كانت توظف في مادة الفلسفة بحيث لم تكن تناسب قدراتي في المرحلة الثانوية، أو لربما أشياء أخرى... على كل حال لنعد للسؤال: ولأني الآن، أنا؛ باعتباري المتحدث عن نفسي ، وباعتباري أنتمي إلى الجمهور بلغة الفلسفة، وبلغة الواقع، هل ثقافاتنا الشعبية منها والراقية بالمعنى الحسي والمجرد استطاعت إلى اليوم أن تتغدى من الفلسفة والعلم والأدب والفن؟ وهذه الأشياء الأخيرة نحن لا نستطيع أن نحدها بحدود، لأنها لا نهائية واللانهائي مفهوم مجرّد. وما نحن إلا قطرات من الندى تتساقط تباعا، فلا تقيموا للانهائي حدودا ومتاريس.
 لم أكن لأعرف أستاذا في شعبة الفلسفة اسمه "خالد بوزبع فنان"، وكم أنا آسف على ذلك، إلا بعدما مرت تلك الأيام بسرعة كبيرة. حيث كانت حالة "التعرّف" على جامعة "سيدي محمد بن عبد الله" بأجوائها التي لم تكن تخمد حينها داخل ساحاتها التي حُدّدت جغرافيتها في يوم من الأيام من طرف الطلبة ب(المركب الاستشفائي شمالا. حي عوينة الحجاج جنوبا. وغابة وسلان شرقا. ثم قنطرة الليدو غربا) تغري كل الطلبة الذين أفقدهم الواقع جرعة الصمت. هذه الجغرافيا كانت هي وحدها الحاضن والجامع الكبير الذي جعلني ألتقي ببعض الأصدقاء الذين يدرسون الفلسفة والسيكولوجيا بكلية الآداب، لقد كانوا أصدقاء حقا، عرّفوني على العديد من الأساتذة الذين لهم صيت وصدى داخل الجامعة وخارجها من بينهم معلمي خالد بوزوبع فنان بل "أبي" كما سمتني زوجته وسيدته كما كان يحلو له وصفها بهذه العبارة. أحببتهم كثيرا لشغفهم الذي قل نظيره للفكر والمعرفة، منهم من عاشرته سنين طويلة ومنهم من كنا نجتمع وإياه، في حلقات النقاش التي كانت تدور بيننا داخل مقصف كلية الآداب، وبين أرجاء وساحات الجامعة وهي تلفظ آخر أنفاسها لتشق طريقها بين دروب المتاهة.
مع بداية الدورة الأولى من الموسم الجامعي 2015/2016 تشوقت كثيرا إلى النظر في وجه "خالد" بعدما كنت قد سمعت الكثير من الأخبار الطيبة والروحية التي يوصف بها من طرف طلابه، والتي غالبا ما كنت أسمع صداها كثيرا داخل مقصف كلية الآداب من خلال الحوارات التي كانت تدور بين رواد المقصف. أحببت في بداية هذا الموسم الجديد معرفة المزيد من المعلومات عنه. إذ بمجرد أن بدأ الطلبة يلتحقون بقاعات دروسهم، هممت إلى معرفة موعد الحصة وعنوان المادة التي سيشرف على إلقائها "خالدا"، لقد كانت (كل يوم جُمعة من أيام الأسبوع، من الساعة الثالثة إلى حدود الساعة السادسة "..." درس الذكاء الاصطناعي في علاقته بالذكاء الإنساني (الدورة الأولى)، وخاصة إشكالية المحاكاة؛ أي كيف نفهم الطريقة التي يشتغل بها الذكاء الإنساني من خلال أخذ تصورات نظرية الذكاء الاصطناعي التي لا علاقة لها في البداية بنظرية الذكاء الإنساني لكنها يمكنها أن تقدم فهما لطبيعة الذكاء الإنساني وخاصة "نموذج تورن"... وما هي مبررات هذه المقاربة...؟ وهل المحاكاة كافية لفهم الاشتغالات المعرفية للذكاء الإنساني؟ وكل هذه الأسئلة وأخرى... بالنسبة له كانت مبررة على الصعيد الإبستيمولوجي والميتودولوجي...) أما الدورة الثانية فكان قد خصصها ل(فلسفة الرياضيات).
 أولى الحصص التي حضرتها كانت بالفعل صدمة كبيرة بالنسبة لي، تأكدت أولا أن ما كنت أسمعه من وصف كان تمثُّلي له ضعيف جدا. تأكدت أيضا أن جهلي لا حدود له، وأن المبادئ التي تربيت عليها وجب إعادة النظر فيها، فكيف لا، وها أنا ذا أسقط مبدئا تعلمته طيلة مساري الدراسي "الجسم السليم في العقل السليم"... أكذوبة.
 ونظرا لأننا نعرف الأشخاص بالحواس أولا، كانت المحاضرات الأولى التي أحضرها عبارة عن "تعرف ثان" ولكن من نوع خاص، من نوع حسي وروحي وفكري للفيلسوف "خالد بوزوبع فنان" كنت كلما ولجت حصة من حصصه لا أستطيع مسايرة ما هو بصدد معالجته، لأنه لم يكن يحكي الفلسفة أو العلم بل كان يعالج إشكالاتهم معنا ويتساءل بتبحر فلسفي ورياضي ومنطقي كبير حول جل النظريات العلمية والتوجهات الفلسفية الرياضية والمنطقية المعاصرة منها والقديمة التي كان يدرسها، ويقف عند كل مفهوم أو تصور قد يفهم خطأ، أو هو في الأصل مفهوم غير واضح المعالم كمفهوم (الحدس الخالص عند كانط...) فيحاول توضيحه معنا مؤصلا له متبعا مسار خيوطه التي شقها هذا المفهوم/التصور طيلة مساره التاريخي وامتداداته في العلوم. أولم يكن همُّ الفيلسوف قبل كل شيء، هو أن يشتغل على التصورات؟
  كنت عندما أنهي تركيزي معه أغيب في الخيال فأتصوره بقامته وهالته التي تمتد كلما أمعنت النظر فيه وهو جالس في كرسيه المتحرك، بجسده النحيل، وبتسريحة شعره التي تغطي الجانب الأمامي من رأسه وقد خلى من الشعر، وحاسوبه الأبيض الذي لم يتخل عنه يوما، وحده من يعرفه أكثر منا بكثير، ووحده الذاكرة التي حفظته إلى الآن... ولغته العربية الفصيحة والبليغة التي يوظفها من دقة جرس الدخول إلى دقة جرس الخروج، والتي غالبا ما كانت تؤجل وتمتد إلى أن يمل ويكل حارس الكلية. وإلى أن تدق السيدة هي الأخرى على باب القاعة التي كانت تعود في الموعد الذي حدداه بينهما قبل أن تنصرف بعدما أوصلته إلى مكتبه. لم يكن حينها مباشرة ينهي الدرس بل كانت تنتظر إلى أن ينهيه وهو مطمئن القلب والعقل، وكانا معا (السيدة والحارس) يخلان معنا بالعرف حبا في أن نتعلم وحبا في الفيلسوف. لقد كان الحارس يخبرني دائما عندما أتقاسم معه بعض الأخبار عن المعلم، بأنه لم ير بعد مثيله وهو الذي أفنى عمره بين دروب الجامعة، يقول: إنه أستاذ بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أسرق السمع أحيانا كثيرة عليكم وعندما أحس بأنني لا أفهم وأنا الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، أترككم لإحضار كوب من البن، لألعن الزمن الذي غدر بطفولتي دون تعلم.
 بعدما أنهي إمعان النظر أجدني أجر رجلاي خارج القاعة بكل حذر مخافة أن أزعج الحاضرين، مطأطأ الرأس. كغريب هائم في غابة كثيفة الثمار، يسأل نفسه، هل أستطيع قطف ما اريد من هذه الغابة وأنا الغريب التائه الذي لا يعرف كيف يقطف التمار دون أن يؤدي الشجرة...
بعد خمس سنوات من الالتزام لحضور درس الأستاذ الفيلسوف خالد بوزوبع فنان، التي تعلمت فيها الكثير من الأشياء، وبعدما أصبحت قلوبنا وأرواحنا واحدة مع الفيلسوف، نحن الطلبة الذين لم نكن لنخلف موعدا من مواعيد حصصه التي كان عددنا داخل قاعة درسه لا يتجاوز أربعة أو خمسة طلبة على اكبر  تقدير، إلا إذا ما جاء أحد زواره من الطلبة الذين عرفوه مبكرا، لكن ساقتهم الأقدار خارج الجامعة بحثا عن لقمة العيش.     
آه، آه... لو كانت الكلمة تستطيع أن تقول عنك الكثير لو كانت اللغة تستطيع أن تجمع كل تلك الإنسانية الكونية التي جمعتها في روحك وفكرك، آه لو كانت اللغة تصف كل تلك النقاشات العلمية والمساعدات التي كنت تقدمها لنا كلما هممنا إليك بالسؤال... أحببناك معلما وأستاذا وإنسانا ومرشدا وفيلسوفا، اخترت الرحيل عن عالمنا ونحن الذين لم نكن نحب أن ترحل من قاعة الدرس أبدا، اخترت الرحيل مبكرا لتخلد في الأذهان والأرواح روحا وفكرا وفلسفة، فإلى روحك الزكية التي أتنفس من خلالها؛ الرحمة والمغفرة، وإليها ألف سلام لأن رسالتها المقدسة للعلم والمعرفة  وصلت، وإن كنت متيقنا من أنها لم تغادرنا يوم 19 يناير 2020 بل ظلت خالدة كما اسمك خالدا.  

عن الكاتب

ABDOUHAKKI
  1. عرفت الأستاذ خالد بوزوبع فنان محاضرا و عالما وفيلسوفا لم يشهد فضاء الجامعة له مثيلا.
    أقول في حقك ما قيل عن المتنبي: ملأت الدنيا وشغلت الناس. كنا في ما مضى لا نتحدث إلا عنك
    ونحن طلبتك، عن علمك و فلسفتك وتميزك...
    حقا فقدت الجامعة أستاذا جليلا.
    رحم الله أستاذنا خالدا، وسيظل خالدا في ذاكرتنا.

    ردحذف




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا