القريـــــــــــــة قصة قصيرة : أمينة شرادي

القريـــــــــــــة قصة قصيرة : أمينة شرادي

أخيرا وصل القرية، تجمهر حوله أهلها بوجوه شاحبة أكلتها أشعة الشمس وفراغ

الجيوب. عيونهم متجهة صوب السيارة الطويلة العريضة التي تلمع على بعد كيلومترات. متسائلين عن سبب مجيئها بعد غياب طويل ووعود كثيرة وبراقة. ترجل أحدهم والابتسامة العريضة تستوطن محياه ولو أنها غامضة لا تظهر ما تبطنه. تحلقوا حوله كأنهم في حلقة من حلقات السوق الأسبوعي، ينتظرون بخوف وأمل وحزن وفرح. ينتظرون.أخذ يمشي بخطوات متثاقلة وخائفة، رافعا رأسه ويده اليمنى لا تفارق جيبه.انه سي أحمد بن الحاج ياسين، كان قد زارهم يوما منذ خمس سنوات واعدا إياهم بالعمل على تحسين أوضاع قريتهم اذ هو نجح في الانتخابات. فقد كان هنا منذ خمس سنوات خلت، في الموعد نفسه، وترجل من سيارته ومشى بتثاقل وثقة ووعدهم بالجنة الخضراء وصاح فيهم بكل ما أوتي من قوة وتحمل وخداع:

-        اسمعوني يا أهلي وحبايبي، بفضلكم ستتغير أوضاع القرية إذا وضعتم ثقتكم في. سيظل مكتبي مفتوحا لكل أهل القرية من صغيرها الى كبيرها.

استوطنتهم سحابة من الفرح والاعتزاز بالنفس والكرامة، وهم القوم المنبوذ والمنسي من خارطة الدولة. ان هطلت الأمطار، انقطعت سبل التنقل والترحال وتحولوا بقدرة قادر الى محاصرين من كل جانب ينتظرون الرحمة من الله ومن المسئولين. وان اشتد عليهم الحر والقر، تلونت سحنتهم وجفت أفواههم وشح مائهم في انتظار الفرج من عند الله ومن عند المسئولين. فلم لا يفرحون وقد أصبح لهم صوت في البرلمان سيمسح الغبار عنهم وستطفو أحلامهم فوق السطح وتنتعش كما ينتعش الزرع بشتاء وفيرة بعد طول جفاف. وكل ذلك بفضل بن قريتهم سي احمد.يومهاخرجواعنبكرةابيهموالأمليتسابقمعهموعيونهمتوزع الابتسامات التي لا تعبر لهم عن شيء بدون تردد ولا حساب. تبعه أهل القرية متسائلين وقانطين ومنتظرين. لقد انتظروا كثيرا. يومها، كانت الشمس حارقة، كان يوم من أيام الصيف الحارة والطويلة، جاءهم سي أحمد بسيارته الصغيرة، فرش معهم الأرض واحتسى ما طاب له من الشاي المنعنع والمحلى رغم أن طبيبه المعالج كان قد نبه عليه الابتعاد عن السكريات. شرب وشرب وضحك وحكى ووعدوأهل قريته صامتون ويبتسمون.وكان يرافق سي أحمد شيخ القرية، الحاج عمر، كظله ويعتبر مخزن أفكاره ومنبع معلوماته.فاغتنمها فرصة ليبصم بصوته وأصابعه العشرة على وعود سي أحمد كما تعود أن يفعل دائما وقال بصوت قوي رغم هوانه:

-        لقد قلت لكم بأن سي أحمد لن ينسى أهله وعلى يده ستتغير أوضاع قريتنا.

صفق الجميع وتعانقوا وأخذوا يباركون بعضهم بعضا وهم الفقراء المنسيون يخرج منهم رجل يتكلم عنهم وعن مشاكلهم. صفقوا من جديد حتى تورمت أيديهم وذبحوا الذبائح من جديد وزغردت النساء من جديد. لكن صوتا دفع دفعا من وسط الجموع ويبدو أنه تلقى ما تيسر من العلم،وقال بنبرةحادة وكلام لاينطق به سوى أهل العلم:

-        قل لي يل سي أحمد، هل ستتكلم عن كل مشاكلنا في البرلمان؟

أجاب بثقة كبيرة:

- إذا ساعدتموني ونجحت في الانتخابات، ستعيشون في النعيم وستبنى المدرسة والمستوصف وتعبد الطريق وووو...

وأعاد صاحب الصوت العارف وقال بنبرة محاسبة:

-        لقد قلت نفس الكلام البارحة، وطرت كما تطير صغار العصافير وهجرتنا.

تلون وجه سي احمد، على حد علمه لم يكن يعلم أن بين اهل قريته من أكمل تعليمه، كلهم فلاحون بسطاء وفقراء ولا يجيدون القراءة والكتابة. اضطرب والتفت يمنة ويسرة كأنه يبحث عن منقذ يخرجه من ورطته. نظرات محاسبة للشيخ عمر. عدل من جلسته وأخذ منديلا يداري به ارتباكه وعرقه وقال بصوت كالهمس في الليل:

-  ما اسمك يا أخ؟ أنا لم أعرفك.

-   اسمي كمال المعطاوي. والدي، رحمه الله، محمد المعطاوي الذي وعدته كما وعدت كل أهل القرية. ومات بحسرته وشماتته.

علت ساعتها أصوات احتجاج غير مفهومة كأنها استيقظت للتو من سبات طويل،وتؤيد كلام كمال وتريد أنتفهم.

وجاء صوت مبحوح من الخلف يتدحرج فوق الرؤوس ويتعثر لكنه نطق وقال:

- كما تعلم يا سي احمد، نحن لم نتعلم مثلك لكننا ندرك الأمور ونفهم ولسنا بأغبياء. نحن فقط طيبون، طيبون يا سي أحمد ..

واشتد عليه السعال وتحجرت الدموع في مقلتيه واتكأ على عصاه وظل واقفا شامخا كجبال الأطلس ينتظر. فطن سي أحمد للوضع الصعب، فاقترب من كمال وحضنه وحاول امتصاص غضبه، لأنه لاحظ تأثيره على الحاضرين. وحاول اختلاق دور المسكين المغلوب على أمره وأن المسئولية كانت كبيرة وثقيلة عليه وأنه حاول وحاول...

بعدما نجح في الانتخابات منذ خمس سنوات، لم يعد حبل التواصل قائما مع أهل قريته واختفى عن الأنظار وتركهم ضحية الانتظار والأمل الأعرج والصبر الدائم. فعاد يحمل بين يديه آمالا أخرى قد تجدي وتنفع ويجني من بعدها ثمارا.  ظانا بأن الحال هي الحال. ربما الفقر استفحل واليأس استوطن لكن تفكيرهم تغير وتجرعوا مرارة الهزيمة والشتيمة بكل شجاعة.

تدخل الشيخ عمر على الخط محاولا توضيح لأهل القرية أمور في السياسة ورفع صوته كما رفع صوته منذ خمس سنوات وقال بلهجة آمرة مغلفة بلباس الاستعطاف:

- سي أحمد، لا يكذب عليكم. كم مرة زرته في مكتبه ووجدته غارقا في بحر من المسئوليات وأولها مشاكل قريتكم. وقف لكي يسمع صوته أكثر بعدما بدت له العيون تتراقص والوجوه تغير من سكناتها واستطرد:

- لكن يد واحدة لا تصفق وظل مصمما على اسماع صوتكم في البرلمان وسيصل هذه المرة ان شاء الله.

  سأل سي احمد الشيخ عمر عن كمال المعطاوي، فاتضح له بأنه منافس قوي وأهل القرية يحبونه ويثقون بهومتعلم. كيف تعلم ومتى؟ سأله بعنف.

صمت الشيخ وتذكر يوم سمع من اهل القرية بأن ابن المعطاوي هاجر الى المدينة للدراسة، تذكر ساعتها بأنه استهزأ منه ومن ذكائه ناعتا إياه بالبليد مثل الجميع. عند عودته، كان لصيقا بأهل القرية، لا يخطو خطوة الا معهم وبهم، محاولا رفع الضرر عنهم وجبر النفوس التي تلقت الضربات تلو الضربات وما زالت صامدة مثل جبالهم.

فالصبر على المصائب أطاح برؤوس كان قد أصابها الوهن والقلق بعد طول غياب وهم في غنى عن مصائب أخرى وانتظارات أخرى ووعود فارغة. لذا قرروا بصوت واحد وعلني التصويت لكمال.

قبيل الانتخابات بأسابيع قليلة اختفى كمال المعطاوي من القرية. واختفى أثر سي أحمد ولم تعد سيارته تطل عليهم عند كل صباح ومساء. لم يفهموا سبب الغياب. هل خذلهم هو الآخر ورحل ولن يعود الا بعد خمس سنوات أخرى؟ أسئلة غيرت صفو الماء القليل المتواجد بآبارهم وأنزعت النوم من جفونهم. احتاروا وسألوا الشيخ عمر العارف لكل شيء بالقرية. أجابهم بكل ثقة وحزموتوثر:

 -  لم اره منذ مدة. ان كمال هذا غير قادر على حل مشاكله الخاصة كيف به سيدبر مشاكلكم.

عادوا خائبين ومنكسرين وكأنهم على موعد مع الهم والكرب والفقر. في انتظار الفرج.

جاءهم الخبر اليقين ذات صباح وهم في حقولهم الجافة محاولين إعادة الحياة اليها ولو بالهمس والسهر الطويل، جاءهم صوت ينادي بأعلى صوته بأن سيارة في الأفق تتمايل بين الصخور والأرض العطشى قادمة نحوهم.

تجمهروا حول السيارة بوجوه أكلتها أشعة الشمس وفراغ الجيوب.

أمـــــــــــينة شــــــــرادي