-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

الخطاب الحجاجي من العزل المنهجي إلى الابستمولوجيا التعددية* تأليف: شاييم بيرلمان ترجمة: أنوار طاهر**

يعد وجود النظرية التي تتأسس عليها قاعدة المصطلحات والأفكار والتصورات الخاصة بالدراسات التجريبية أو الاختبارية، واحداً من الشروط الأساسية في إثراء ووفرة
البحوث المتعددة التخصصات interdisciplinaire. ودون توفر هذا الشرط، فأن كل العلوم ستكون عرضة لمخاطر إحداث عزل منهجي بين بعضها والبعض الآخر، لطالما كانت مُصرة على تبني الزعم القائل بأن كل علم يبحث في ظواهر مستقلة ومختلفة تماماً عن تلك التي تدرسها بقية العلوم. فلم يعد في إمكاننا تحديد عناصر التماثل بين تلك الظواهر في الحقول المعرفية لكثرة تباينها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أمسى من الصعوبة للغاية توضيح الصلة بين مفهوم التنافر الإدراكي لعالم النفس الاجتماعي الأميركي فستنغر(1) من جانب، وقانون التناقض حسب تعريفه المعطى في المنطق الشكلاني؛ ومبدأ التضاد حسب تعريفه المعطى في نظرية الحجاج من جانب آخر(2).
وهذا ما صادفناه مع علم النفس الاستدلالي أيضا، عندما ظلّ هو الآخر متجاهلاً الإسهامات المهمة في المنطق الحديث لسنوات عديدة. لولا عالم النفس السويسري جان بياجيه الذي يعود له الفضل الكبير في إعادة تفعيل العلاقة بين علم النفس والمنطق، وذلك من خلال مجهوده العلمي الفردي منه أو المشترك مع زملاءه من المناطقة. وبالمثل، عانى علم اجتماع المعرفة كثيراً من عدم وجود نظرية في الاستدلال غير الشكلاني. لأنه من الواضح، أن الاستدلال الشكلاني بحكم طبيعته نفسها وحسب تحليل النظرية الحديثة في البرهان، يعد احد أنواع الاستدلال غير قابلة للتأثر بالشروط النفسية والسوسيولوجية للمعرفة. إذ أن خصائص الاستدلال الشكلاني في التجريد وثبات الصلاحية، تجعله غير قابل للفهم والصياغة إلا بحسب المصطلحات الأفلاطونية platoniciens أو الشكلانية البحتة. وهذا ما يدعونا إلى التأكيد مرة أخرى على أن نظرية الحجاج هي النهج البحثي النقدي الذي يساعدنا في الكشف عن المواضع الخطابية التي يمكن لمجمل العوامل النفسية والسوسيولوجية أن تُمارِس بوساطتها تأثيراً كبيراً على المخاطَب لا يمكن إنكاره ابدا.
تشير نظرية الحجاج l’argumentation إلى دراسة مجمل التقنيات الخطابية التي تهدف إلى التأثير في الجمهور المخاطَب وبالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق التوافق فيما بينهم وتعزيز روح الالتزام تجاه القضايا المطروحة لغرض الاتفاق عليها(3). وكل حجاج يفترض وجود متكلم يعرض لخطاب معين (يمكنه التواصل به كتابياً أو شفاهياً)؛ وجمهور متلقٍ لذلك الخطاب ألحجاجي (ومن الممكن أن يتماثل هنا المتلقي مع المتكلم عندما يعقد مشاورة مع النفس مثلاً)؛ ويتطلب أخيراً تحقيق حالة من التوافق مع القضية المطروحة للمداولة والنقاش أو تعزيز شدة التأييد تجاهها بواسطة ابتكار  استعدادات جديدة تدفع بالمخاطَب نحو الفعل أو المباشرة فوراً في انجازه عند الاقتضاء.       
أن ذلك العرض الموجز لأساسيات نظرية الحجاج يكشف لنا عدداً كبيراً من المفاهيم ذات الصلة المباشرة بعلم النفس الاستدلالي وعلم النفس الاجتماعي وحركية العلاقات الإنسانية. وقد كان لنا في مؤلفنا "مصنف الحجاج" مناسبات عديدة عملنا فيها على إدراج وبيان مختلف الدراسات النفسية المتعلقة بمنزلة ومصداقية المتكلم؛ وأثر نظام عرض الحجج. واشرنا أيضاً إلى أهمية الوسط الثقافي ودوره في تبني الحجج. وفي المساهمة المحكمة للفيلسوف ابوستل في الجزء المكرس عن نظرية الحجاج والصادر عن المركز البلجيكي لأبحاث المنطق(4)، دوّن فيها الكثير من النظريات النفسية والسوسيولوجية التي من الممكن تطبيقها على نحو مفيد في دراسة فرضيات نظرية الحجاج. وكذلك في مقالته الموسومة: "البلاغة، علم الاجتماع-النفسي والمنطق"(5) حاول تباعاً فحص الأعمال البحثية المخصصة لدراسة حركية الاتجاهات والمواقف والاعتقادات؛ ولديناميكية الجماعات ونظرية المعلومات من جهة، وقدم من جهة أخرى عدة افتراضات بشأن تطبيقاتها الممكنة في دراسة مستويات فاعلية الأنماط الحجاجية.
 ولو كان الوقت متاحاً، لقمنا بفحص مختلف الجوانب المتعلقة بنظرية الحجاج والملائمة في إعداد دراسات متعددة التخصصات وبشكل أكثر تنظيما. لهذا، سنقتصر في الوقت الحاضر، على الإشارة إلى بعض ابرز تلك الجوانب.
من المعروف أن من بين شروط الحجاج الأساسية، هو أن نحافظ على رغبتنا في إقناع المتلقي الذي يستمع للخطاب؛ وفي ضرورة التثبت العقلاني/المنطقي على حد سواء، وهو ما يقتضي وجود لغة مشتركة بين المتكلم والجمهور المخاطَب. وهنا، علينا أن نعرف جيداً، في أي وقت وتحت أي ظرف من الظروف يمكن استعمال وتفعيل تلك العناصر الحجاجية ؟ وكيف يجري التحول من حالة الأمر إلى الإقناع ؟ وما هي الشروط النفسية والسوسيولوجية التي تدفع نحو إحداث ذلك التحول؟ وهل سيكون هناك ثمة تمييز في هذا الصدد، لتلك الشروط التي تعزز من الحجاج المتحرر من الإجراءات المحددِة لقواعد الاتصال المؤسساتي الإلزامي بين المتكلم والمخاطَب لمجتمع ما أو لبعض الحالات في بعض المواقف؟ ويكفي أن نفكر  في هذا الشأن بالمؤسسات السياسية والدينية؛ وفي التعليم الإلزامي، وفي جميع الإجراءات التي ينص عليها القانون الوطني والدولي والتي تهدف إلى تعزيز الاتصال وتبادل الأفكار عند الفرد أو بين شخصين، في الدعوى القانونية؛ أو في المحادثة.  
أن ما تثيره اللغة من إشكالات عديدة بوصفها أداة في التواصل والحجاج، يهيئ مجالا خصبا لدراسات اللسانيين وعلماء الاجتماع. فإلى جانب لغة النحو المشتركة واللغة العادية، نلاحظ أيضا أن وجود لغات مقدسة ولغات تقنية وبما تتضمن عليه من تداخل مع اللغة اليومية خلال العملية الحجاجية، إنما تستحق تحليلاً دقيقاً للغاية. واقرب مثال أنموذجي لذلك التداخل هي اللغة القانونية بوصفها لغة محكمة غامضة تقتصر على دارسيها ومزاوليها، من جانب ومن جانب آخر، هي لغة متاحة للجميع. أن طريقة التفاعل الحاصلة في القانون بين الاستعمالين الشائع منه والتقني، يمكن لها أن تُنشئ  مقاربة تساهم إلى حد كبير في فهم الطريقة التي تداخلت فيها مفاهيم الانظمة الفلسفية مع اللغة اليومية وحوّرت الاستعمال الشائع لمفاهيم مثل: الواقع؛ الحرية؛ الجوهر؛ الوجود؛ الطبيعة؛ الإله وغيرها.
وقد اشرنا سابقا إلى أنه من اجل أن يتسم الخطاب الحجاجي بالفاعلية، ينبغي أن يستند المتكلم على القضايا المسلّم بها لدى الجمهور المخاطَب. وهنا، علينا أن نتساءل، كيف يمكن للمتكلم قياس أو على الأقل تقييم درجة التوافق والتأييد عند المتلقي؟  ثم إلى أي مدى وتحت أي ظرف يمكن أن يتضامن جميع الأفراد الذين يمثلون الجمهور المنتظم اجتماعياً، من اجل تأييد القضية المطروحة؟ وهل يوجد بينهم جماعات معينة تكون أكثر تمثيلاً للرأي السائد، وكيف يمكننا تمييز ذلك؟ بل وكيف يمكننا أن نؤسس لخطاب حجاجي على أقوال مؤكدة مسبقاً لدى الفرد أو جماعة ما؟ وما هي تلك الظروف التي نتوقع فيها حصول حالة من التغيير في الرأي أو في الموقف ؟ وحول هذا الأمر، علينا أن نتساءل عن دور مبدأ الثبات الذاتي(6) الذي يشير إلى قوة الشعور بصلابة المبادئ وبوهم اكتمالها، ويفرز خطاباً يرسخ من جهة للآراء السائدة عندما لا يكون هناك سبب معقول يدعو للتخلي عنها؛ ومن جهة أخرى يعمل على تثبيت قاعدة العدالة الشكلانية(7) التي تقضي بمعالجة المواقف المتشابهة إلى حد كبير  بنفس الطريقة تماما تبعا لنصوص قانونية محددة وبمعزل عن سياقاتها المختلفة؟
 ونحن نعرف أهمية استعمال "الأنموذج/الصورة/المثال السابق" وما ينتجه من سلطة في الحياة الاجتماعية وخصوصا في الحياة السياسية. وبواسطة التحليل المنهجي للعلوم سيمكننا توضيح أهميتها كذلك في جميع التخصصات الفكرية. ويبدو لي أن مثل هذه الدراسة ستكون نافعة لا سيما في  بيان مفهوم "قوة" الحجة. وهو مفهوم خاص بنظرية الحجاج، رغم انه غريب عنها بعض الشيء، خاصة وان الحجاج لم يعرف طوال تاريخ استعمالاته الشكلانية سوى تلك البراهين الصائبة والمتطابقة مع القواعد العامة؛ أو  تلك التي ليست كذلك. في الوقت الذي نعلم فيه انه لا يكفي في الخطاب ألحجاجي أن تتطابق الحجج مع قواعد معينة حتى يمكنا التوصل إلى استنتاج قسري كما هو الحال عليه مع المنطق ألبرهاني. فالحجج إما أن تكون قوية أو ضعيفة. وعليه كان من الأجدر أن نتساءل عن كيفية الوصول إلى تقييم مناسب لقوة أو ضعف الحجة ؟ وهل يتماثل هذا التقييم بشكل متواز مع فاعلية الحجاج ؟ وإذا كانت خاصية الفاعلية في الحجاج تتحدد حسب نوع الجمهور المخاطَب. فهل علينا أن نُرجع الحجاج إلى مفهوم الصلاحية التي تتحدد وفق احتمالات قابلة للحساب في الاستنتاج؟ مع العلم انه لا يمكن اختزال جميع الحجج إلى ذلك النمط من الاحتمالات الحسابية. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أهمية معرفة وتحديد أنواع الحجج التي يمكن أن تنبني بطريقة شكلانية وما هي شروط بنائها؟
وحتى يكون للحجة أي فاعلية، ألا يجب أن تكون وثيقة الصلة بموضوعها. لكن، كيف يمكننا تحديد خصائص ذلك المفهوم المتعلق بطابع الملائمة بين الحجة وموضوعها؟ وهل بإمكاننا تحقيق ذلك سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر، في ظل هيمنة استعمالات بنية الدلالة الشكلانية لمفهوم اللاتجانس وانعدام الصلة بين الحجة وموضوعها؟ وكيف يمكننا تمييز ملامح ذلك المفهوم في التخصصات الأخرى حيثما يجري استعماله بشكل لم يزل غير واضح بعد؟
بعبارة أخرى، أن الأدلة البرهانية ذات طابع قسري، تجعل من الصلة المنطقية بين المقدمات والنتيجة عنصراً ثابتاً لا شك فيه. بينما نجد أن الحجاج ليس قسرياً البتة، وهو ما يدعونا إلى التساؤل إلى أي مدى سيؤدي فيه دفاع المتكلم ألحجاجي عن قضية معينة إلى إضعاف ثقة المتلقي تجاهها؟ فمنْ يعتذر  يدين نفسه، كما يُقال عادة. والجدال حول سمعة شخص ما، يعني، في الواقع، أنها أمر مشكوك فيه ولا يمكن أن تقع خارج موضع النقاش. لكن، عندما يستوجب الأمر أن نحاجج لصالح قضية معينة والدفاع عنها، علينا أن نتساءل عن الأسباب التي تدعونا إلى إدخالها في موضع النقاش؟ ونواجه المشكلة نفسها بخصوص التعريفات العلمية، فما السبب الذي يدفعنا إلى تعريف مفهوم معين؟ ومتى نفترض، بعكس ذلك، أن المفهوم واضح بما يكفي لدرجة لم يعد فيها بحاجة إلى تعريف؟ ومثل كل أشكال الحجاج، سواء ما كان يشير منه إلى تبادل ودي للآراء أو نقاش عام، وعلى امتداد زمن الفعل الذي ينبغي على الخطاب ألحجاجي الأعداد له أو انجازه، يجب أن لا تترك مناقشة الأسئلة المتعلقة بالقرارات أو حتى بتحديد المفاهيم إلى الأحكام التعسفية لكل منا.
 وقد نلاحظ أن هناك بعض المسائل التي لا يمكننا النقاش فيها، بل ولا يجوز أن تكون موضع سؤال، على الأقل ليس في كل وقت. وكان أرسطو قد حدد في كتابه "الطوبيقا" أي نوع من المشاكل يمكن لنا النقاش حولها. بالنسبة له، لا يجوز مناقشة منْ يستفهم حول قضية احترام الوالدين أو حول قضية وجود الإله، وإنما ينبغي معاقبته. وكذلك نجد في القانون إن الحكم الصادر بحق قضية معينة هو من الأمور غير القابلة للنقاش بالمرة، إلا في حالات استثنائية. ونحن نعلم انه في المجتمع الحريص كثيراً على مبدأ الكفاءة في الأداء، إنما يجري الاستناد على العادات والإجراءات القانونية لغرض التحكم والمراقبة غير المنقطعة لتلك الرغبة عند الإفراد في التواصل بين بعضهم البعض، حتى جرى تحويلها إلى مجرد حوار مضجر وطويل بين اموات فحسب. ولهذا السبب أشير هنا إلى الأهمية الكبيرة للدراسات التاريخية والسوسيولوجية المتعلقة بدراسة الإجراءات المتحكمة في إنتاج صور محددة للنقاش والتواصل؛ وللمتشاركين فيه؛ ولموضوع حواره بل وحتى لزمانه ومكانه، تلك الإجراءات التي كثيرا ما قد تُفضي إلى إحداث تعديل في النظام القانوني نفسه وبما يتلائم وتشريعاتها.
 وهنا كان علينا أن نتساءل حول العديد من القضايا: فما هي الشروط التي تسمح لفرد دون غيره بالكلام في هذا الظرف أو ذاك؛ وما هي القواعد التي ينبغي له أن يخضع إليها؛ ما هي أصولها والنتائج المترتبة عليها؛ كيف ولماذا تتطور تلك القواعد؟ ويمكن أن نتبين من خلال تلك الأسئلة وغيرها بهذا الخصوص، العديد من التحولات الملحوظة والحاصلة، ابتداء من المراسيم الدينية حيث يجري التحكم باستعمالات الخطاب في أدق تفاصيله؛ وحتى ابسط تبادل في الكلمات بين أصدقاء عِشرة طويلة.
وهنا استذكر ما يُقال لنا عادة حول أن التفكير النقدي يمكن تطبيقه على أي موضوع كان. وهو قول ليس بصحيح أبدا، فحتى يومنا هذا، لم يكن هذا الحال عليه أبدا حتى لدى الأوساط الأكثر تحرراً في معظم المجتمعات المعروفة تاريخيا. وإلا بماذا نفسر ظاهرة اجتياح التفكير النقدي لمجالات جديدة، لم يعهدها من قبل؟ ولماذا لم يكن لبعض التوجهات النقدية في فترات معينة أي تأثير  يُذكر، بينما حققت الأخرى المشابهة لها كثيراً لمنجزات ثورية على صعيد السياسة والعلم والدين؟
وهذا ما يدعونا إلى أن نتساءل، هل تختلف أنواع الحجج المستعملة وكذلك مستويات فاعليتها تبعاً لاختلاف السياقات والتخصصات والحقب، وهل يمكن تصنيفها؟ وهل يمكن تمييز أنماط من الأسلوب في الحجاج، مثل الأسلوبيات الكلاسيكية والرومانتيكية التي وصلنا بعد تعريف كل منها وتحديد مفهومها إلى وجود ثمة تعارض فيما بينها يعود إلى استعمالات الحجج المشتركة lieux communs في الخطاب والمتأسسة على خصائص الكم والكيف(8)؟
وهناك بعض من الحجج التي نصطلح عليها شبه منطقية، تكتسب صلاحيتها من قوة التثبت العقلاني الذي تستدعيه نماذج الاستدلال الشكلاني المنطقية أو الرياضية المعتمدة بشكل ضمني في ذلك النوع من الحجج. فهل هذا يعني أن تلك النماذج المستندة عليها الحجة المعطاة هي متماثلة لدى المتكلم وعند جمهور المخاطَبين على اختلافهم؟ وينبغي علينا أن نتساءل هنا أيضا، عن سياق تلك الحقب والأوساط التي كانت فيها تلك الحجج مصدر فخر وامتياز؟ ربما كان ذلك في سياق ثقافي لم يصل فيه الوعي الإنساني إلى امتلاك صورة واضحة عن الاستدلال المحكم بصورة شكلانية بحتة، لكن، حتى هذه الفرضية تحتاج إلى شيء من الفحص والاختبار.
وعندما نصادف ذلك النوع الاستثنائي من الحجج الذي يبدو لنا غير فعّال ومنتهي الصلاحية، بل وفي غاية السذاجة. فهل في إمكاننا إرجاع الأسباب التي أدت إلى تشكيل هذا النمط من الاستجابة نحوها، إلى  حدوث تحول في معارفنا؛ أو إلى حصول تغيير في القيّم المسلّم بها والذي ربما قد يكون مرتبطا بتغيير  في البنية الاجتماعية بأكملها؟
وهل يمكن لجميع الأنماط الحجاجية أن تكون قادرة على كشف تلك التغييرات؟ ألا تحظى بعض أنواع الحجج بمكانة متميزة بهذا الصدد، مثل الحجة عن طريق المماثلة بقياس حالة على أخرى مشابهة لها ومختلفة عنها في السياق؟
أن مشكلة الحجج المنتهية الصلاحية التي لم تعد تتوافق وسياقات الخطاب الجديدة، لا تنفصل بالطبع عن تلك المتعلقة بالحجج المستعملة في الخطابات الثقافية الخاصة بالمجتمعات البعيدة عنا كثيراً. وهذا ما يدعونا إلى التساؤل عن نوع الحجاج المعتمد عند تلك المجتمعات وعن ما يمكن أن يكشفه لنا عن آرائهم السائدة بل وكذلك عن قيّمهم وبنيتهم الاجتماعية؟ وفي هذا الصدد، ستظهر لنا مشكلة واسعة النطاق، تعلق بإمكانية وجود نماذج مهمة من الحجج قد لا تكون معروفة في مجتمعاتنا، أو قد تكون متضمنة داخل أشكال استعارية أدبية يصبح التعرف عليها امراً مستحيلاً علينا؟ فما هو الشكل الذي تتخذه لدى المجتمعات الأولى، مثلاً، التقنية الحجاجية في انفصال المفاهيم dissociation des notions (9)  (كالتضاد بين الحقيقة والمظهر)؟ وما هي أوجه التعارض التي تسمح بإعادة تنظيم المفاهيم وبما يؤدي إلى العثور على حل مناسب؟ 
ومن جانب آخر، علينا أن نتساءل حول إمكانية أن يوجد هناك نظام مقرر مسبقاً ولا جدال فيه يعمل على تحديد استعمالات الحجاج، ويمكننا أن نعتبره النظام الأكثر فاعلية؟ وكيف يمكن له أن يؤثر على فاعلية الخطاب، وما هي الأسباب؟ وعلى نحو مماثل، ما هو التأثير الذي يمكن أن تنتجه واقعة أن نكون أول أو آخر المتكلمين أثناء نقاش ما؟ هل هناك ثمة نظام في أسبقية الكلام حسب درجة الامتياز ضمن التسلسل الاجتماعي الهرمي، وكيف تمّ تأسيسه؟ نعلم جيداً، أن التقاليد والأعراف هي السلطة التي كانت تعمل على تسوية مثل تلك المسائل. لكنها ولا بد وان تكون قد أهملت في الوقت نفسه العديد من الأمور الأخرى التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، فما هي تلك المجالات غير المفكِّر فيها؟ وفيما يتعلق بالتخصصات التي لطالما سعت إلى البحث عن قيمة الحقيقة/والصدق/والحقّ، هل كان أولَت لجميع تلك الإشكالات أي أهمية تذكر ؟
من المعروف أن جميع التخصصات العلمية تسعى إلى تحقيق التقدم، ومن اجل ذلك ينبغي لها أن تضع مجموعة من الفرضيات تخضع فيما بعد لاختبار التجربة. وهنا علينا أن نتساءل: هل أن اختيار تلك الفرضيات اعتباطي، أم كان نتيجة لاستدلال حجاجي؟ دون أن ننسى، أن صياغة الفرضية نفسها يتطلب من العالِم اللجوء إلى استخدام لغة سيجري الاستعانة بها في وقت لاحق لوصف التجربة والتحكم فيها في آن واحد. وهذه اللغة هي نتاج تقليد علمي طويل سمح بتطورها ضمن مسار يتلاءم ومقتضيات خطابه. حتى لم يعد في الإمكان انجاز  جدلية النظرية والتجربة دون اللغة المعدّة والمعدّلة من طرف رجل العلم. وبمقدار ما تستعين فيه تلك الجدلية بهيكل الأبنية المفاهيمية الذي يتداخل مع نتائج التجربة والإحصاء، لا يمكننا بعد ذلك، إنكار الدور الذي تلعبه التقنيات الحجاجية في تشييد ذلك الهيكل. إذن، أليس من الأجدر هنا، أن نتساءل عن أنواع الحجج التي تساهم في عملية تطوير العلوم الاستقرائية؟
وفيما يتعلق بدور تلك الحجج في العلوم الاختبارية، قد يبدو للكثير انه يتصل بابتكار الفرضيات  أكثر منه في إثبات صلاحيتها. وينطبق هذا الأمر بصورة خاصة على العلوم الاستقرائية التي تفترض مسبقاً وجود الاتساق والانتظام وبالشكل الذي يسمح بالتنبؤ والتحكم في النتيجة في آن واحد. لكن هذا ليس هو الحال عليه مع تخصصات العلوم الإنسانية، مثل علم التاريخ الذي يدرس الوقائع غير القابلة للتكرار المتطابق، حيث يكون من الصعوبة بمكان تحديد أنماط منتظمة ومتسقة ومنعزلة بما يكفي عن سياقها الخاص لتكون قابلة للمقارنة فيما بعد. في هذه الحالة، ينبغي أن تركز تلك العلوم في أبحاثها على المحتوى اللغوي الحجاجي لتلك الافتراضات التي لطالما وصفناها وحكمنا عليها بالدقة والتنوع والاتساق. بل وفي بعض الأحيان، تعبر تلك الافتراضات عن رؤى شاملة للإنسان والعالم معا،ً وكثيرا ما تكون موضع تعارض وعدم انسجام، كما هو الحال عليه في الانتروبولوجيا الفلسفية أو في الانطولوجيا، حيث تكون العلاقة بين الأطروحات الفلسفية وبين ما يمكننا أن نختبره فيها بهذا الصدد، غير مباشرة للغاية وغير واضحة المعالم، لوجود مجموعتين من الحجج التي تتعارض الواحدة منها مع الأخرى. فكيف يمكننا، إذن، وضع تقييم محدد عن قوة تلك الحجج؟ هل توجد معايير يمكنها أن تحدد خصائص الصلاحية والاحتمالية ي تلك الحجج، وتتميز بكونها معايير مستقلة عن الأنظمة الفلسفية ويمكن لها أن تحسم الأمر بين وجهات النظر المطروحة في الوقت الراهن؟ وهنا علينا أن نشير إلى أهمية الدراسات التاريخية والتحليلية للأنظمة الفلسفية لا سيما في تسليط الضوء على قضية في غاية الحساسية تتعلق بتلك الحجج التي لطالما تمّ تحييدها واستبعادها على مدار تاريخ الفلسفة أو لتلك التي جرى تعزيزها والإعلاء من شأنها(10).
أن الفائدة من عملية إكساب مختلف أنواع الحجج الطابع الشكلاني البحت وإخضاعها كذلك إلى الإحصاء، هو أمر لا يمكن إنكاره بالطبع. لكن عملية الشكْلَنَة هذه تقتضي على الدوام وجود فرضيات مشيدة مسبقاً تختزل الاستدلال ألحجاجي/غير الشكلاني إلى استدلال شكلاني، وتفترض أيضا وجود أحكام/ومواقف مسبقة حول أهمية ما يتم استبعاده من الحجج نتيجة حصول ذلك الاختزال إلى الخاصية الشكلانية المتسقة في الاستدلال. لاحظ أنه عندما يكون لتلك المواقف اثر كبير على الشأن العام، فلابد لها وان ترتبط بفلسفة غير مطلقة وقابلة للنقاش والجدل. لكنها ستكون على العكس من ذلك، مواقف مقبولة ومسلّم بصلاحيتها بسهولة كبيرة في حال اقتصار أهميتها على نطاق ضيق ومحدود يخص الجانب المنهجي والأكاديمي إذا جاز التعبير. فإذا كنا نرى في مذهب النفعية احد أكثر الفلسفات المثيرة للجدل، فهذا يعود في احد أهم أسبابه إلى أن مفهوم المنفعة ظلّ في الواقع أداة أساسية نتمكن بواسطتها من المقارنة بين الحلول لبعض مشاكلنا الخاصة، حتى صار من السهل جداً، الاعتراف بقيمة معيار المنفعة. ويُقال الشيء نفسه، على كيفية إيجاد صيغة اتفاق تحدد الفائدة من استعمالات حجج معينة وتحييد أخرى غيرها في العلوم والتكنولوجيات المتعلقة بتطبيقات محددة، كما وينطبق ذلك تماما على الحجج ذات الأبعاد الفلسفية. لذلك، تمثل دراسة الحجج المرافقة لمساع الاختزال إلى الشكْلَنَة من الدراسات المهمة التي تساهم في تسليط الضوء بشكل كبير على بنية مناهج العلوم والتكنولوجيات ومقارنتها مع بنية مناهج التفكير الفلسفي
كنا قد اشرنا سابقا في كتابنا "مصنف الحجاج" حول أهمية خاصية الفاعلية في الحجاج(11). وما توصلت إليه نتائج الدراسات النفسية مؤخراً يعزز ذلك بتأكيده على أن طريقة الأسلوب المختارة في عرض بعض الحقائق من شأنها أن تجعل من تلك الحقائق حاضرة في الوعي بصورة ما أو بأخرى وبالشكل الذي يمكن له أن يؤثر في استجابة المخاطَب؛ وبالتالي على فاعلية الحجج المستعملة نفسها. ومن المؤكد، أنه سيكون لهذه الطروحات اثر كبير  في علم الأسلوبيات stylistique. كل ذلك، يدعونا للإشارة إلى أهمية فحص العديد من الصور figures التقليدية في البلاغة من زاوية فاعليتها الحجاجية على المتكلم والجمهور المخاطَب والخطاب على حد سواء. وبوجه عام، أن تحليل الصور البلاغية المتعددة وفقاً للأنماط الحجاجية المتصلة بها، يساعدنا على تحديد آثارها على مختلف مستويات الوعي والإدراك لدى الجمهور المخاطَب، بل ويساهم في بيان الحالات التي يكون فيها استعمال بعض الحجج في غير محله ومتى يكون ضرورياً. والى جانب الدراسات الأسلوبية وغيرها التي ينبغي الاستعانة بها لغرض إبراز الكيفية التي يتفاعل بها الشكل والمحتوى كما –هو الحال في الكليشيهات– في ذهنية الجمهور المخاطَب. ينبغي علينا أن نتساءل، إلى أي مدى تكون فيه التغييرات في الشكل ممكنة دون أن ينطوي ذلك على تغيير مماثل في المحتوى، والى أي حد يكون الاثنين فيه غير منفصلان؟ هذه  الإشكالات تتطلب في مجملها الكثير من الدراسات المتباينة بحسب المجالات المعرفية، تبدأ من التخصصات العلمية المتعددة لتشمل حتى الإعلانات التجارية.
ودون شك، يمكن لعلم النّفس أيضا، بل ولعلم النّفس المرضيّ والفلسفة أن يساهموا جميعا في توضيح خصائص وشروط تحقق مفهوم ماهو معقول  raisonnable الذي لا يمكن أن يُفهم خارج سياق الحُجّة. فما معنى أن يكون الاختيار أو القرار معقولاً؟ وماذا نعني بالعقْلنة أو بعرض ماهو معقول رغم انه لن يكون كذلك بالفعل؟ ماذا نعني بالتأويل المعقول لظاهرة أو لرمز أو لنص أو لسلوك معين؟ وهل يعد مفهوم ماهو معقول من المفاهيم التي يمكننا التعبير عنها أو تعريفها بمصطلحات نفسية أو اجتماعية أو فلسفية؟ ووجهات نظر هذه العلوم المختلفة جميعاً، هل هي متداخلة؛ أم أنها مجرد أكْوَام معلومات مرصوصة بعضها فوق بعض الآخر ولا تسمح بأي اتصال أو تواصل فيما بينها قد يؤثر على مبدأ الوضوح والاتساق في الفرضيات الأساسية المعتمدة في كل اختصاص؟ وكيف يمكن أن تساهم نظرية التحليل النفسي في التأويل وبشكل كبير في إعادة قراءة وفحص نماذج الحجاج البلاغي؟ ومن المعروف أن مدرسة المحلل النفساني جاك لاكان قد أولَت اهتماماً كبيرا للغاية لمثل تلك الأسئلة الإشكالية.
ختاماً، آمل أن يكون ذلك العرض البسيط لبعض العينات من الإشكالات المتضمنة في الحجاج والتي من الممكن أن تكون موضوع بحوث متعددة التخصصات، قد أوضح أن الأمر يتعلق بمجال من التحقيقات واسعة النطاق لم يتم استكشاف منها إلا القليل جدا.
الهوامش
*هذا عنوان مقال فيلسوف البلاغة الجديدة شاييم بيرلمان (1912-1984)والمنشور تحت عنوان:
Ch. Perelman : Recherches Interdisciplinaires Sur L’Argumentation, un article publié dans son livre : Le champ de l’argumentation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, p. 111-119. Cet article est à l’origine un rapport présenté, le 6 septembre 1966, à Evian, au Congrès mondial de sociologie, paru dans Logique et Analyse, Bruxelles, 1968, vol. XI, pp. 502-511.
(1) L. Festinger, Theory of cognitive Dissonance, Evanston, Row and Peterson, 1957 et Jack W. Brehm and Arthur R. Cohen, Explorations in cognitive Dissonance, London and New York, Wiley and Sons, 1962.
(2) Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca, Traité de l’argumentation, § 46.
(3) Cf. Traité de l’argumentation, p. 5.
(4) La théorie de l’argumentation, perspectives et applications, Louvain, Nauwelaerts, 1963, 614 pages.
(5) Leo Apostel: Rhétorique, psych-sociologie et logique, Op. cit., pp. 263-314.
(6) Cf. Traité de l’argumentation, pp. 142-144.
(7) Ibid., § 52.
(8) Cf. Ibid., § 25, ainsi que l’article : Classicisme et romantisme dans l’argumentation, ci-dessous, pp. 397-406.
(9) Cf. Traité de l’argumentation, § § 89-93.
(10) Cf. L’argument pragmatique, ci-dessus, p. 101.
 (11) Cf. Traité de l’argumentation, § 29.

     **باحثة ومترجمة من العراق- متخصصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية

  


      

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا