-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

من يخاف من العَلمانية؟ د. السيد نصر الدين السيد

لم يحظى مفهوم بمثل ما حظى به مفهوم “العَلمانية” من حملات هجوم وتشويه يفتقد أغلبها لأسس النقد الموضوعى البناء. وهو الهجوم الذى لم يقتصر على مجرد المفهوم
بل إمتد لكل من حاول الدفاع عنه فنابهم ما نابهم من تهم التكفير والخروج عن الملة والعمالة لقوى خارجية. ومما يثير العجب إغفال المهاجمين، بشتى أطيافهم، عما حققه تطبيق مفهوم العلمانية من إنجازات بإعتباره واحدا من أهم مرتكزات “الدولة الحديثة“. وهى الإنجازات التى تشهد عليها أحوال المجتمعات التى تبنت هذا المفهوم بدءا من مجتمعات ما يطلق عليه إسم العالم المتقدم ومرورا بتركيا وإنتهاءا بالنمور الأسيوية وفى القلب منها ماليزيا وإندونيسيا. ويدفعنا هذا الهجوم الشرس والمتواصل، خاصة فى هذا الوقت الذى تعيد فيه الأمة المصرية بناء مؤسساتها، إلى التساؤل عن دوافعه. وتقتضى الإجابة على هذا التساؤل عرضا لمفهوم العلمانية ولما ينطوى عليه من أسس ثقافية
و”العَلمانية (بفتح العين)” تعنى ببساطة الفصل بين ما يحكم “عالم الدنيا” (أو “عالم الشهادة“)، وما يحكم “عالم الآخرة” (أو “عالم الغيب“). أى أنها تعنى “الفصل” بين العالمين ولاتعنى “إقصاء” أحدهما لحساب الآخر. فكل منهما تحكمه قواعده وقوانينه الخاصة الذى يؤدى الخلط بينهما إلى إفساد الإثنان معا. ففى “عالم الدنيا“، الذى يتميز بالتغير الدائم والمتسارع، لايوجد مكان للمطلق فكل شيئ فيه نسبى، فما ينجح فى مكان بعينه قد لاينجح فى مكان مختلف، وما يصلح لزمن ما قد لايصلح لزمن آخر. وهو عالم تشكل أحداثه المتلاحقة إرادة الإنسان وأفعاله، ويحاسب فيه الإنسان على نتائج أفعاله حسابا آنيا لايقبل التأجيل. أما “عالم الآخرة” فهو عالم المطلق بإمتياز فكل مافيه مقرر سلفا وكل ما فيه خالد لايتغير، ولامكان فيه لفعل أو إرادة الإنسان. وتعنى العَلمانية، كركيزة أساسية من ركائز الدولة الحديثة، “الفصل” التام بين كل ماهو “دنيوى“، يتعلق بـ “سياسة” شئون المجتمع البشرى، وكل ماهو “دينى (أو “أخروى“)”، يتعلق بعلاقة الإنسان بربه وبما يرجوه فى عالم الآخرة
أما العلمانية كثقافة فتقوم على أربعة مبادئ رئيسية هى: “تمكين الإنسان“، “أولوية المعرفة البشرية“، “إنسانية الأخلاق” و”سنة التطور“. ويعنى المبدأ الأول للثقافة العلمانية، “تمكين الإنسان“، رد الإعتبار للإنسان وتمكينه من لعب الدور الرئيسى فى إدارة شئون دنياه وذلك بإستخدام ملكاته الفكرية وقدراته الذهنية فقط. وهو الأمر الذى يعنى تحرير عقله وضميره من كافة أشكال القهر والإرهاب الفكرى.
أما ثانى مبادئ الثقافة العلمانية، “أولوية المعرفة البشرية“، فيعنى الإعتراف بالدور المحورى الذى تلعبه هذه المعرفة فى حياة الإنسان. والمعرفة البشرية هى تلك التى ينتجها الإنسان بإستخدام ملكاته العقلية وأدواته الذهنية وعلى رأسها المنهج العلمى. ولعل أهم ما يميز هذه المعرفة هو أنها ليست “مقدسة” فهى تخضع للمراجعة الدائمة والتدقيق المستمر. فالتحقق من صدق أى مقولة أو فكرة تتعلق بأى شأن من شؤون الواقع يتم عبر مقارنتها مع أحوال هذا الواقع الفعلية وتحديد مدى تطابقها وملاءمتها مع تلك الأحوال.
وثالث مبادئ الثقافة العلمانية هو مبدأ “إنسانية الأخلاق“. وهو المبدأ الذى يؤكد على أن معرفتنا بالصواب والخطأ ترتكز، فى الأساس، على فهمنا لطبيعة الإنسان ولطبيعة المصالح المشتركة لأفراد المجتمع الذى يعيش فيه. ويقوم هذا المبدأ على ثلاثة أسس هى: “القاعدة الذهبية“، “مسئولية الإنسان” و”عقلانية الأحكام“. و”القاعدة الذهبية” هى قاعدة “أحب لأخيك الإنسان ما تحبه لنفسك”. أما “مسئولية الإنسان” فتعنى مسئوليته الكاملة الآنية وغير المؤجلة عن نتائج أفعاله أمام نفسه وأمام مجتمعه. وأخيرا “عقلانية الأحكام” الذى يعنى قدرة الإنسان، عبر إستخدامه للعقل والمنطق، على التوصل مبادئ حاكمة لما يجب على الإنسان تبنيه من سلوكيات.
أما رابع مبادئ الثقافة العلمانية فهو “سنة التطور“. ومؤدى هذا المبدأ هو أن “الغد هو الأفضل دائما“، وأن المستقبل هو الزمن الذى سيجسد فيه المجتمع أحلامه المتجددة وتطلعاته المشروعة ويقيم فيه عصره الذهبى بأيدى وأفكار أبنائه المعاصرين. أى إنه المستقبل القابل للتحقق على أرض الواقع عبر العمل المنظم والمخطط لأفراد المجتمع. والماضى من منظور هذا المبدأ لايمثل عصرا ذهبيا ينبغى إعادة إنتاجه بل هو فقط مادة للنقد والتحليل لإستخلاص الدروس المستفادة. ويتلازم هذا المبدأ مع مبدأ آخر هو أن “الإبداع هو شرط التطور“. فمجرد البقاء فى واقع تتغير أحواله بإيقاعات متسارعة وغير مسبوقة هو التخلف بعينه. وبقدر تنوع الأفكار التى ينتجها الإنسان وبقدر أصالتها وجدتها بقدر ما يتمكن هذا الإنسان من السيطرة على مقدرات واقعه ومن تطويع هذا الواقع لصالحه.

والآن، وبعد أن إستعرضنا ما يعنيه مفهوم العلمانية ولأسسها الثقافية، سأترك إجابة السؤال الذى طرحناه فى البداية لفطنة قارئ المقال … !

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا