في الأيام الماضية فقدت الرغبة في الكتابة، ليس لأن
الحروب والنزاعات المستمرة أصابتني بالكآبة فهي لا تنفك تقتل الشيوخ والنساء
والأطفال وتدمر بيوت الأبرياء
وتهجرهم من أوطانهم فيصبحوا لاجئين أذلاء بعد أن
كانوا بين ذويهم أعزاء، وليس لأن شبح الإرهاب أصبح يطاردنا في جزئيات حياتنا
اليومية فما بالك بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الشعوب والمجتمعات، وليس
كذلك لأن الحرية والكرامة والعدالة لا زالت حبيسة في بنود الاتفاقيات وشعارات
الندوات وعناوين المقالات ... فقدت الرغبة في الكتابة لأن مجتمعنا فقد الرغبة في
القراءة. فمَن من بين الشباب يحمل بين يديه كتاب؟ أو يقرأ في جريدة؟ أو يبحث بين
الرفوف عن رواية؟ المجتمعات لا تفنى من فقر أو من مجاعة...
المجتمعات تفنى حين تفقد الرغبة في القراءة أو
تحسبها مجرد هواية.
فيما مضى كانت القراءة ممارسة نخبوية وظلت حكرا على
علية القوم من النبلاء والعلماء. وحتى وإن وُجدت الرغبة عند فئة من العامة كانت
سرعان ما تصطدم بظروف الحياة الشاقة التي اعتمدت على السواعد وليس على العقول
والأدمغة، ناهيك عن صعوبة الحصول على الكتاب وعلى المعلومة. أما اليوم، فالكتاب لم
يعد تلك التحفة النادرة والقطعة الثمينة، فهو يملأ الرفوف والخزانات وأوراقه،
عديمة القيمة، أصبحت تلُفُّ الحاجيات. ومع ظهور الحاسوب والتقنية الرقمية صارت
الأفكار تدون وتحفظ في جزء من الثانية، كما أن المعلومة أصبحت في متناول الجميع وأصبحت
المعرفة ملكاً لكل البشرية.
هذا التحول الفارق في تاريخ الإنسانية من الاعتماد
على القوة الجسدية إلى الاعتماد على الفكر والتكنلوجيا قد أطلقته بلا شك قوى غيبية
لا ندركها،ومهدت له شخصيات عظيمة تفانت في نقل المعرفة وتطويرها من حضارة لأخرى
حتى جاءت الساعة التي انفجرت فيها العلوم كبراكين ثائرة، وزلزلت الخرافات البالية
والعادات القديمة، وحدثت الأرض أخبارها وكأنها قرية صغيرة. البعض منا قد أدرك عظمة
اليوم الذي نعيش فيه وشرع يأخذ نصيبه في عملية البناء المتعاظمة، والبعض الآخر لا
زال يتساءل عما يحدث لنا ولا يستطيع استيعاب ومجاراة الأحداث المتسارعة. لكنها
مرحلة انتقالية فقط، وسيعي الجميع لا محالة ضرورة تغيير نمط الفكر وأسلوب الحياة
لضمان مقومات العيش الكريم.
لقد أصبح جليا أن الشعوب التي لا زالت تفتقد إلى
الوعي والمعرفة هي التي تعيش ظروفا اقتصادية واجتماعية معقدة. فالتقدم في زماننا صار
يعتمد على القراءة وتحصيل العلوم والبحث الذاتي عن حقيقة الأشياء وجوهرها. ولذلك
أصبح التعليم ثروة قومية تفوق قيمتها كل المعادن الثمينة. والمجتمعات التي لا
تستثمر جهودها في التعليم ونشر الوعي والمعرفة بين جميع المواطنين هي مجتمعات
مهددة بالزوال والاندثار ولو بعد حين.
والمقصود من النهوض بالتعليم هو جعله وسيلة لبناء
المقدرة والتشبع بالقيم الإنسانية حتى نتمكن من إطلاق القوى الكامنة في الأجيال
الصاعدة ومحو التعصبات المتأصلة بكل أشكالها والسعي نحو الامتياز وتحقيق الرقي
والازدهار لمجتمعنا وللإنسانية جمعاء. وليس المقصود منه توجيه الأجيال وبرمجتها
على نوع محدد من المعرفة يزيد من حدة التعصبات ويؤجج الصراعات القائمة بين الشعوب
المختلفة. كما يفترض في هذه العمليات التعليمية أن تكسبنا البصيرة الروحانية
اللازمة لنشر قيم التسامح والمحبة والتعاون بين جميع البشر، وتدعيم أسس السلام
والوحدة واحترام الحقوق والحريات.
قد نتساءل من يتحمل هذه المسؤولية؟ بالطبع نتحملها
جميعا، أفرادا ومجتمعات ومؤسسات. فالآباء يتحملون مسؤولية تعليم أبنائهم وزرع بذور
الوعي والمعرفة ورعاية ملكة البحث والقراءة بكل عناية وإفساح المجال لحرية
الاختيار واتخاذ القرار، وعلى المجتمع ومؤسساته توفير الموارد والكفاءات وتطوير
المناهج ومراجعتها باستمرار لكي تحقق أهدافها المنشودة. ويبقى الفرد مطالبا ببذل
الجهد والمثابرة على اكتساب المعرفة وتحصيل العلوم المختلفة، ليس فقط لتحسين
مستواه المادي والاجتماعي ولكن بالأحرى للسمو بكيانه الروحاني والتفكر في ماهيته
وكل الأمور الوجودية التي تسمو بالروح وتذكرنا بالهدف من وجودنا في هذه الحياة
الدنيا.
لقد كانت هذه الفترة مفيدة جداً للتأمل والتفكير،
وكانت أحداثها ومجرياتها مصدرا للتعلم ومراجعة الأهداف والمواقف. وقد أصبحنا
متيقنين أكثر من ذي قبل أن التغيير الحقيقي لا يتأتى إلا من خلال ازدياد الوعي
وتطور الثقافة، فغياب الوعي يؤثر سلبا في جميع مناحي الحياة الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية. وكل هذا يعتمد على سلامة العملية التعليمية واهتمامها بكل
الفئات العمرية، كما يعتمد على انخراط المجتمع بكل فئاته في نشر الوعي وتطوير
الفكر وترسيخ القيم ... ولنتذكر دوما بأنه لا وعي بلا ثقافة
ولا ثقافة بلا قراءة.