أنا
لست أقليًّا، لأنني مواطن كامل المواطنة. أنا لست أقليًّا لأنه من حقي أن أختار لغتي
وثقافتي وعاداتي الاجتماعية، وأن أختار ديانتي أو لا أختار بالمَرَّة؟أنا لست أقليًّالأنه
من
حقي أن تكون لي ميولات فكرية وفنية تميزني عن غيري من الناس؟ لماذا يجب أن أشبههم
في كل شيء؟ لماذا يزعجهم اختلافي إلى هذا الحد؟ أم أنه "يزعزع" قناعاتهم
ويجعلهم يفكرون في اختياراتهم من جديد؟ أليس ما يهمنا جميعا هو أن نكون مواطنين صالحين
نؤدي واجباتنا بتفان ومسؤولية، بل بكل حب وتضحية؟ فلماذا لا يكون الاختلاف تنوُّعاً
مثمراً بدل أن يصبح قضية؟
إن استعمال
مصطلح الأقلية في زمن العولمة صارمرتبطا بالحقوق والاضطهاد والتهجير والإبادة. فكلما
كان الموضوع يتعلق بالأقليات إلا وفهمنا أنه حقوقي بالدرجة الأولى وليس مجرد توصيف
لفئات المجتمع وتحليل لمكوناته.وليس غريبا أن تتعالى الأصوات المطالبة بهذا الحق وسط
المحافل الدولية والهيئات الحقوقية تجاه الدول ذات المرجعية القومية أو الدينية، وليس
تجاه الدول التي تعتبر المواطنة إطارا جامعا لكل مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم
العرقية أو الدينية. لأنه وبكل بساطة لا معنى لمفهومالأقليات في دولة المواطنة.
والحديث
عن ضمان حقوق الأقليات يقابله على مستوى الفرد حديث التسامح وقبول الآخر المختلف. وهو،
بالرغم من توفر نية صادقة في إقرار الحق والعدل بين الناس، يظل حديثا متعاليا يُقرُّ
بنوع من التَّراتُبية بين فئات المجتمع ولا يرقى إلى مستوى التعايش الحقيقي والمساواة
في الحقوق والواجبات التي يشملها مفهوم المواطنة وتكفلها دولة الحق والقانون.
إن مفهوم
الأقليات ليس وليد اللحظة فهو قديم قدم التاريخ، وملازم لتنوع الجنس البشري من حيث
المظهر والانتماء واللغة والثقافة والدين. وقد وُجدت الأقليات والفوارق البشرية والاجتماعية
والطبقات في المجتمعات القديمة، واستمر وجودها حتى اليوم نتيجة عدم استقرار الجماعات
السكانية، ومن جراء تشابك العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتلاقح الحضارات وتكوّن
المجموعات الفرعية في بيئات جغرافية متباينة.
وقد
كانت مسألة الأغلبية والأقلية محور معظم الصراعات على السلطة والنفوذ والتملك والسيطرة
على الثروات والموارد والأرض منذ أقدم العصور حتى اليوم. ولكن فيما مضى لم تكن هناك
دساتير ولا أنظمة ديمقراطية، ولم يتخيل أحد أن يصبح للإنسانية هيئة أممية تعنى بحقوق
الإنسان ومحكمة دولية تحاكم المستبدين من كل مكان. ولست أقول بأن ذلك تحقق بالتمام
والكمال، وإلا ما كنت لأكتب هذا المقال. ما أود إيصاله من خلال هذه السطور هو أن المفاهيم
القديمة لم تعد صالحة في هذا العصر،فهي قد تطورت مثلما تطورت القيم والمعايير المحددة
لمعنى الخير والشر.
لذلك
بدل أن يكون النقاش حول تواجد الأقليات في مجتمعنا من عدمه، وكيف يمكن لنا أن نضمن
لها حقوقها كاملة هي الضعيفة المستضعفة، حري بنا أن نوجه النقاش في اتجاه ترسيخ مبادئ
الديمقراطية وأسس المواطنة والانتماء الكلي للعالم الإنساني والمجموعة الدولية. وإذ
نقوم بذلك سنكتشف مدى التناقض الذي نعيش فيه، سواء من الناحية القانونية أوالاجتماعية
أوالتربوية. فنحن نرفع عاليا شعار المواطنة والعالمية ونعيش بثقافة الأمة، ونريد بناء
الدولة المدنية ونخشى في نفس الوقت أن يفقد المجتمع هويته الدينية.
قد نظن
للحظة أنها أمور ثانوية لا تستحق كل هذا الجدل وهذا الاهتمام، ولكنها في الحقيقة توجد
في صميم الأحداث وعليها تتوقف صحة المجتمع من الناحية الثقافية والسياسية وبالتالي
الاقتصادية والاجتماعية. وخير دليل ما حققته الدول الغربية من تقدم على جميع الأصعدة،
منذ أن أسست للدولة المدنية وللوحدة الإقليمية، متجاوزة بذلك كل الحواجز العرقية والدينية
والثقافية واللغوية.وسواء تعلق الأمر بعولمة الثقافات أو بنشوء ثقافة عالمية، فإن انصهار
المجتمعات المختلفة في مجتمع عالمي أصبح السمة المميزة والدافع المُحفِّز لجميع الدول
المتقدمة، القديمة منها والحديثة.
الدول
الحداثية التي تتخذ من المواطنة مرجعية وإطارا عاما لأنظمتها السياسية والاجتماعية
لا يمكنها أن تتبنى هوية ما تعبر فقط عن فئة من المواطنين حتى وإن كانت تشكل ما يسمى
بالأغلبية، لأنها بذلك تجعل منها، أي هذه الفئة، فئة غالبة في مقابل أقلية أو مجموع
أقليات مستضعفة تستجدي حقوقها. وهذا ينطبق على الهوية الإثنية واللغوية والدينية وكل
الهويات المجتمعية الأخرى، التي من المفترض أن تصبح هويات فرعية تنصهر في الهوية الوطنية
ذات الطابع المدني والقيم العالمية.
إن الاتساق
مطلب ضروري من أجل تحقيق النمو. لذلك لا يمكننا أن ندعي أننا مجتمع يؤمن بالقضاء والقانون
ويستند عقده الاجتماعي على مفهوم المواطنة، في حين تجدنا بين الفينة والأخرى نتحدث
عن التسامح وحقوق الأقليات، ولو عن حسن نية، في زمن أصبح فيه المواطنون الحقيقيون،
على اختلافهم، سواسية. ولذلك أيضا، أنا لست أقليًّا. فأنا مواطن، وقبل كل شيء ... أنا
إنسان.