يتوخّى كتاب الباحثة التونسيّة هالة الوردي الصادر مؤخراً باللغة الفرنسية Les Derniers Jours de Muhammad الكشفَ على شخص نبيّ الإسلام محمّد في
أيامه الأخيرة من وجهةٍ تاريخيةٍ لا تدين سوى لعرضِ المتون الروائية على اختلاف مصادرها. اختلاف مصادر الرواية التي سيقت في الكتاب من دون طمس شيء منها هو، بالضبط، ما يُحسب للباحثة، أولاً، باعتبار أن شطراً كبيراً من الدراسات الحديثة التي تناولت السيرة النبوية ظلت تنزلق في مستوى من مستوياتها إلى مركزة مصدرٍ على حساب آخر، أو تكريسه باعتباره يحتمل قدراً أعلى من الشياع والمصداقية.
من ناحية ميتيدولوجية أو منهجية، تقوم الباحثة بعرض مجمل المتون الروائية ومن ثمّ تباشر ما يشبه قراءات متأنية لهذه الروايات. قراءاتٌ قد تخلص في بعضها إلى الكشف عن تناقضات غير قابلة للحلّ أو عن مساحات مبهمة في الحقبة ذات الصلة، تطرح علامات استفهام كبيرة أو باستنتاجات تتصل بسمات تتعلق بشخص الرسول، وتنعكس بالضرورة على حلقات مقربين من حوله من الصحابة أو من العائلة.
تخلص صاحبة «من السلطة في الإسلام» (2012) في كتابها إلى فكرة أن المتون المتصلة بسنوات وأيام الرسول الأخيرة هي متون قد تُفضي إلى قلب التصوّر عما يمكن أن يكون قد حدث فعلاً بخلاف السيرة الرسميّة. نتحدّث عمّا يقترب من كونه معاناة صعبة لشخص الرسول في أيام مرضه الأخيرة في القدرة على التحكّم بسياقات المستقبل السياسية، وعن استنتاجات تتصل بمجمل الشخصيات المحيطة بالرسول ومدى تأثيرها سلباً أو إيجاباً في ترجيح سياق سياسي سلطويّ على آخر (أبو بكر، عمر، علي، العباس، عبدالله بن عباس، عائشة، حفصة). ليس إلقاء بذور الشك على هذه الحقبة المفصلية في حياة الرسول هو المركزيّ أو الفارق في عمل الباحثة، بل إن السيرة في ذاتها تحتمل عبر المتون غير احتمالٍ. ولا يحتاج الباحث إلا إلى القدرة أو الإمكانية المعنوية والعملية بمعزل عما يتيحه الظرف الراهن من مساحات تسمح بحرية التعامل التاريخيّ الصرف مع المتون. على أن هذه المتون بحدّ ذاتها هي متون لا تزال، لدواعٍ يطول شرحُها، تقع في منطقة حسّاسة، راهناً، إذ تظل قابلة لاستخدامات وتجييرات الجماعات المحتربة على حيازة ما يُسمّى «الحقيقة» أو المعنى المكتمل للسيرة، كما حدث بالفعل.
طبعاً قد لا يُتاح نشرُ هذا الكتاب في بلد عربيّ لأسباب معروفة تتّصل بالعجز عن التعامل مع شخص النبي من موقع قد يمسّ، ولو تلميحاً، المخيال الجمعيّ. مخيال تأسس كما مجمل ما يتصل، بحقل الهاجيوغرافيا، في مدى قرون، على ترتيب عصمة هذه الشخصية الفائقة والاستثنائية في التاريخ البشري. إنه كتاب صدر عن دار نشر فرنسية باللغة الفرنسية وهو موجّه أصلاً إلى القارئ باللغة الفرنسية وسوف يستدخل تفسيرُ محتواه، بالضرورة، نقاشات وجدالات لن تكون ثيمة الإسلام الأوروبي وتماساته العملانية مع الآخر بمنأى عنها. ليس هذا البحث الأول من نوعه في التعامل مع حقبة حساسة في التاريخ الإسلامي بمنهجية تاريخية، بل يمكن للقارئ أن يدرج غير بحث في هذا الإطار ليس أهمها كتابات هشام جعيط أو حتى، من الجيل الأقدم، شطراً من كتابات طه حسين في السيرة والفتنة مثالاً لا حصراً. غير أن ما يتوخّى من هذه الكتابات بعد عقود طويلة، لم يتجاوز الأطر النخبوية، فضلاً عن أنه غير قادر على زعزعة مستويات مكينة من تصوّرات المؤمنين حول السيرة المكرّسة بشقيها السنيّ والشيعيّ، لما لهذه السيرة من تأثيرات على الراهن السياسيّ/ الدينيّ. لا تضع منهجية البحث التاريخية، كما هو ملاحَظ، مقام النقل أو الناقل في مستوى أول أو مركزيّاً في اعتماد المتنِ الروائيّ، بخلاف التصوّرات الفقهائية أو الأوثودوكسية التي لا تقيم اعتباراً كبيراً للمتن، إلا بعد التأكد من صلاحية سلسلة الرجال الإسنادية. في هذا السياق، لا تزعزع الخلاصات العقلانية المتكئة على المتون الروائية تصورات المؤمن، إذ لا يطمئن المؤمن للخلاصة إلا في حضنها الإسنادي المعتمد. نورد مثلاً رواية محاولة اغتيال الرسول، التي تردُ في السيرة، أثناء عودة الرسول من غزوة تبوك، في ما يُسمّى بـ «مؤامرة العقبة»، حيث يصيب مجهولون بعيرَ الرسول بهدف إفقاده التوازن وانزلاقه بالنبي أسفل الوادي. المثير في ما تكشف عنه الباحثة هو إغفال مجمل الرواة، على نحو شبه متعمّد يثير الشكوك، أسماء المتآمرين المهمة التي علمها الرسول وأسرّ بها إلى حذيفة بن اليمان، فيما يورد ابن حزم الظاهري (القرن الرابع) رواية يتيمة تذكر الأسماء وهي رواية منقولة بسند صحابي هو «الوليد بن جميع» الذي يشك ابن حزم بموثوقيته، فيما تثق به مصادر حديثة معتبرة سابقة على ابن حزم بقرنين أو أكثر. نورد هذا المثل تحديداً لنلفت الانتباه إلى مركزية النقَلة في مسألة التعامل مع المتون في الرؤية التقليدية. تستمد السيرة النبوية الرسمية التي بوشر تدوينها بعد انتصاف القرن الثاني من وفاة الرسول ديمومتها وثباتها، لا بالضرورة من مستوياتها العقلانية (سنياً أو شيعياً) بل في استبطانها لبنية نفسية شعورية إيمانية عبر مراكمة هوامش وحكائيات وتلاوات وتنبؤات وجماليات كتابية، طيلة قرون طويلة. بنية قد لا تكون قابلة للزعزعة عبر قراءات عقلانية (مطلوبة وضرورية) تملأ مساحة مبهمة هنا أو هناك في عمق التاريخ. المسألة تتصل بآليات الكشف أو فحص السيرة ودراسة مستويات متنوّعة من البنية الثقافية أو الاستهلاكية الثقافية، التي يقع في صلبها الراهن السوسيو ـ ثقافيّ ومدى تأثيرات هذه البنية على تصورات جماعة إثنية أو دينية ما. بهذا، نفهم أن يمرّ جهد بحثيّ شاق في المنتديات الثقافية أو في الصحف العربية عموماً بخفوت تام يصل حد اللااكتراث، فضلاً عن انتشاره وشياعه في مساحة قرائية عربيّة أوسع.
هالة الوردي، «أيّام محمّد الأخيرة»، دار ألبن ميشل Albin Michel 2016.
أيامه الأخيرة من وجهةٍ تاريخيةٍ لا تدين سوى لعرضِ المتون الروائية على اختلاف مصادرها. اختلاف مصادر الرواية التي سيقت في الكتاب من دون طمس شيء منها هو، بالضبط، ما يُحسب للباحثة، أولاً، باعتبار أن شطراً كبيراً من الدراسات الحديثة التي تناولت السيرة النبوية ظلت تنزلق في مستوى من مستوياتها إلى مركزة مصدرٍ على حساب آخر، أو تكريسه باعتباره يحتمل قدراً أعلى من الشياع والمصداقية.
من ناحية ميتيدولوجية أو منهجية، تقوم الباحثة بعرض مجمل المتون الروائية ومن ثمّ تباشر ما يشبه قراءات متأنية لهذه الروايات. قراءاتٌ قد تخلص في بعضها إلى الكشف عن تناقضات غير قابلة للحلّ أو عن مساحات مبهمة في الحقبة ذات الصلة، تطرح علامات استفهام كبيرة أو باستنتاجات تتصل بسمات تتعلق بشخص الرسول، وتنعكس بالضرورة على حلقات مقربين من حوله من الصحابة أو من العائلة.
تخلص صاحبة «من السلطة في الإسلام» (2012) في كتابها إلى فكرة أن المتون المتصلة بسنوات وأيام الرسول الأخيرة هي متون قد تُفضي إلى قلب التصوّر عما يمكن أن يكون قد حدث فعلاً بخلاف السيرة الرسميّة. نتحدّث عمّا يقترب من كونه معاناة صعبة لشخص الرسول في أيام مرضه الأخيرة في القدرة على التحكّم بسياقات المستقبل السياسية، وعن استنتاجات تتصل بمجمل الشخصيات المحيطة بالرسول ومدى تأثيرها سلباً أو إيجاباً في ترجيح سياق سياسي سلطويّ على آخر (أبو بكر، عمر، علي، العباس، عبدالله بن عباس، عائشة، حفصة). ليس إلقاء بذور الشك على هذه الحقبة المفصلية في حياة الرسول هو المركزيّ أو الفارق في عمل الباحثة، بل إن السيرة في ذاتها تحتمل عبر المتون غير احتمالٍ. ولا يحتاج الباحث إلا إلى القدرة أو الإمكانية المعنوية والعملية بمعزل عما يتيحه الظرف الراهن من مساحات تسمح بحرية التعامل التاريخيّ الصرف مع المتون. على أن هذه المتون بحدّ ذاتها هي متون لا تزال، لدواعٍ يطول شرحُها، تقع في منطقة حسّاسة، راهناً، إذ تظل قابلة لاستخدامات وتجييرات الجماعات المحتربة على حيازة ما يُسمّى «الحقيقة» أو المعنى المكتمل للسيرة، كما حدث بالفعل.
طبعاً قد لا يُتاح نشرُ هذا الكتاب في بلد عربيّ لأسباب معروفة تتّصل بالعجز عن التعامل مع شخص النبي من موقع قد يمسّ، ولو تلميحاً، المخيال الجمعيّ. مخيال تأسس كما مجمل ما يتصل، بحقل الهاجيوغرافيا، في مدى قرون، على ترتيب عصمة هذه الشخصية الفائقة والاستثنائية في التاريخ البشري. إنه كتاب صدر عن دار نشر فرنسية باللغة الفرنسية وهو موجّه أصلاً إلى القارئ باللغة الفرنسية وسوف يستدخل تفسيرُ محتواه، بالضرورة، نقاشات وجدالات لن تكون ثيمة الإسلام الأوروبي وتماساته العملانية مع الآخر بمنأى عنها. ليس هذا البحث الأول من نوعه في التعامل مع حقبة حساسة في التاريخ الإسلامي بمنهجية تاريخية، بل يمكن للقارئ أن يدرج غير بحث في هذا الإطار ليس أهمها كتابات هشام جعيط أو حتى، من الجيل الأقدم، شطراً من كتابات طه حسين في السيرة والفتنة مثالاً لا حصراً. غير أن ما يتوخّى من هذه الكتابات بعد عقود طويلة، لم يتجاوز الأطر النخبوية، فضلاً عن أنه غير قادر على زعزعة مستويات مكينة من تصوّرات المؤمنين حول السيرة المكرّسة بشقيها السنيّ والشيعيّ، لما لهذه السيرة من تأثيرات على الراهن السياسيّ/ الدينيّ. لا تضع منهجية البحث التاريخية، كما هو ملاحَظ، مقام النقل أو الناقل في مستوى أول أو مركزيّاً في اعتماد المتنِ الروائيّ، بخلاف التصوّرات الفقهائية أو الأوثودوكسية التي لا تقيم اعتباراً كبيراً للمتن، إلا بعد التأكد من صلاحية سلسلة الرجال الإسنادية. في هذا السياق، لا تزعزع الخلاصات العقلانية المتكئة على المتون الروائية تصورات المؤمن، إذ لا يطمئن المؤمن للخلاصة إلا في حضنها الإسنادي المعتمد. نورد مثلاً رواية محاولة اغتيال الرسول، التي تردُ في السيرة، أثناء عودة الرسول من غزوة تبوك، في ما يُسمّى بـ «مؤامرة العقبة»، حيث يصيب مجهولون بعيرَ الرسول بهدف إفقاده التوازن وانزلاقه بالنبي أسفل الوادي. المثير في ما تكشف عنه الباحثة هو إغفال مجمل الرواة، على نحو شبه متعمّد يثير الشكوك، أسماء المتآمرين المهمة التي علمها الرسول وأسرّ بها إلى حذيفة بن اليمان، فيما يورد ابن حزم الظاهري (القرن الرابع) رواية يتيمة تذكر الأسماء وهي رواية منقولة بسند صحابي هو «الوليد بن جميع» الذي يشك ابن حزم بموثوقيته، فيما تثق به مصادر حديثة معتبرة سابقة على ابن حزم بقرنين أو أكثر. نورد هذا المثل تحديداً لنلفت الانتباه إلى مركزية النقَلة في مسألة التعامل مع المتون في الرؤية التقليدية. تستمد السيرة النبوية الرسمية التي بوشر تدوينها بعد انتصاف القرن الثاني من وفاة الرسول ديمومتها وثباتها، لا بالضرورة من مستوياتها العقلانية (سنياً أو شيعياً) بل في استبطانها لبنية نفسية شعورية إيمانية عبر مراكمة هوامش وحكائيات وتلاوات وتنبؤات وجماليات كتابية، طيلة قرون طويلة. بنية قد لا تكون قابلة للزعزعة عبر قراءات عقلانية (مطلوبة وضرورية) تملأ مساحة مبهمة هنا أو هناك في عمق التاريخ. المسألة تتصل بآليات الكشف أو فحص السيرة ودراسة مستويات متنوّعة من البنية الثقافية أو الاستهلاكية الثقافية، التي يقع في صلبها الراهن السوسيو ـ ثقافيّ ومدى تأثيرات هذه البنية على تصورات جماعة إثنية أو دينية ما. بهذا، نفهم أن يمرّ جهد بحثيّ شاق في المنتديات الثقافية أو في الصحف العربية عموماً بخفوت تام يصل حد اللااكتراث، فضلاً عن انتشاره وشياعه في مساحة قرائية عربيّة أوسع.
هالة الوردي، «أيّام محمّد الأخيرة»، دار ألبن ميشل Albin Michel 2016.