ونقف في هذه المجموعة على تجربة شعرية جديدة من تجارب الشاعر محمد بودويك. تجربة تتكئ على رؤى شعرية يحضر فيها الذاتي والعام ملتحمين، يسندهما معاً أفق الجمال الممتد أمام الشاعر. الجمال في ما يُرتقب حدوثه في الوقائع والكائنات والأشياء، والجمال الذي يبني به الشاعر متخيله مراهناً فيه على لغة جديدة ومبتكرة؛ يلزمها أكثر من تلقٍّ، وأكثر من دراسة قبل أن تبوح بأسرارها ومدخراتها الرمزية.
وإذا انطلقنا من عنوان الديوان: (أقنعة تتنازع مشنوقا)، فإننا نجده يستلهمه من الفنان التشكيلي البلجيكي جيمس إسنور James Esnor (1860 ـ 1949). وهو استلهام أملته دلالات بعض نصوص الديوان، خاصةً وأن بين الفنان التشكيلي والشاعر مشتركاً يتمثل في استعادة كل منهما طفولته أو على الأرجح اللحظات الأكثر تأثيراً من هذه الطفولة. ويمكن تلمُّس ذلك في نصوص محمد بودويك التي تحمل عناوين (صفير في أذن المحارة الهاجعة) و(صفحة من كتاب الخيبة يا ليلى) و(ما يشبه سيرتي). وتقابلها موضوعة الأقنعة المتنازعة التي استوحاها الفنان البلجيكي من طفولته، وخاصة من دكان عائلته الذي يتذكر منه الأقنعة المخيفة التي كانت تبيعها جدته. وعلى أيٍّ فإن بين الشعر والتشكيل علاقة أبدية، تضبطها الطبيعة الخاصة لهذين الفنين العصيين على الاستهلاك السهل، ويؤكدها البعد المرئي والمتخيل لآثارهما الفنية.
من جانب آخر، يواصل الشاعر محمد بودويك، من خلال هذا العمل الإبداعي، مشروعه الشعري الذي لا يستكين إلى المتداول من الأنماط التعبيرية في الشعر المعاصر؛ إذ نجده يغادر الغنائية البسيطة الممتلئة بالعواطف والمشاعر السطحية، ليعوضها بعوالم خاصة تلتئم فيها المعرفة بالحكمة، والسخرية بالاحتجاج في وجه الواقع الآسن. ويمكن الوقوف على ذلك في معظم الديوان، وبصورة جوهرية في نصوص مثل (برج الميزان) و(مصباح أبي العلاء) و(نحن الكلب الذي اصطاد السيارة) و(الجن يملأ القدر بالحصى).. كل ذلك في لغة خاصة تجتهد في اقتناص الصور الطرية غير المسبوقة، والرموز المكتنزة بالدلالات العميقة. كما تنفتح هذه اللغة على تعدد الأصوات واجتراح النفس السردي كلما دعت الضرورة الفنية إلى ذلك.
وعموماً، فإن ديوان (أقنعة تتنازع مشنوقا) يوفر لقارئه متعة التلقي الفني للنصوص الشعرية، كما يتيح له أيضاً التأمل في تجربة شعرية مغربية ناضجة مرَّ صاحبها ـ خلال عمره الأدبي الطويل ـ بمراحل فنية منفتحة على ما عرفه الشعر، عربيا وعالميا، من لحظات دالة ومشعة في مسيرة تطوره وحداثته. وبذلك نعتبر هذا العمل مكسباً نوعياً للخزانة الشعرية المغربية.
كلمة الشاعر والناقد الدكتور عبدالسلام المساوي
