دين الإنترنت على غرار إنسان الإنترنت. والرأى الشائع أن ظاهرة الإنترنت وُلدت فى عام 1969 وكانت لأغراض تعليمية وعسكرية، ثم تمت مع بداية التسعينيات ببزوغ
ظاهرة جديدة هى ظاهرة الحياة الدينية التى بدأت تتحرك من المعابد إلى الإنترنت. وبناء عليه لم تعد الممارسات الدينية فى حاجة إلى بناء مخصص للعبادة أو إلى علماء عقيدة أو إلى سلطة دينية. وقد وردت إلى ذهنى هذه الأفكار وأنا أقرأ كتابا صدر عام 2005 تحت عنوان «الدين والفضاء السَيبْرى» وهو عبارة عن اثنى عشر بحثا لعلماء فى علم الاجتماع الدينى وعلم اللاهوت وتاريخ الأديان والبحوث كلها منتقاة من مؤتمر دولى انعقد فى جامعة كوبنهاجن فى عام 2001، أى مع بداية القرن الحادى والعشرين تحت عنوان «الدين وكمبيوتر الاتصالات» والسؤال اذن: ما معنى الفضاء السيبرى؟
لفظ الفضاء هو المكان فى إطار الكون أما لفظ «سيبرى» فهو اختصار للفظ الأصلى «سيبرنطيقا» المشتق من لفظ يونانى ويعنى ربان السفينة أو الحاكم. واللفظ فى معناه العلمى يعنى الاتصال والتحكم فى الحيوان وفى الآلة وبفضله تمت صناعة الكمبيوتر. وقد صك هذا المصطلح أديب أمريكى اسمه وليم جيبسون فى عام 1948 وهو عبارة عن كمبيوتر يشتمل على كل معلومات العالم الذى نعيش فيه بحيث يمكن القول إنه يحاكى العالم أو إن شئت الدقة فقل إنه يحتوى على عالم افتراضى.
والسؤال بعد ذلك: ما العلاقة بين الدين والفضاء السيبرى؟ أو فى صياغة أخرى: ما العلاقة بين الدين والإنترنت؟ وفى حالة الصياغة الثانية يثار سؤال آخر:
هل الانترنت صالحة لتوليد دين أيا كان؟ وإذا كان الجواب بالايجاب فما هى خصائص هذا الدين؟ وبماذا يتميز عن أى دين آخر من الأديان القائمة على كوكب الأرض؟
وهل يكون محصورا فى الانترنت أم فى إمكانه أن يكون خارجه؟.
وقبل الجواب عن هذه الأسئلة ثمة مسألة فى حاجة إلى تنويه، وهى أن مصطلح «دين الانترنت» الذى صككته عنوانا لهذا المقال لم يكن واردا فى أبحاث ذلك الكتاب إنما الوارد هو التفرقة التى اصطنعتها أنا ستازيا كرافلوجا فى كتابها المعنون «الخطاب الدينى والفضاء السَيبرى» (2002) بين «الدين على الإنترنت» و«الدين فى الانترنت».
الدين الأول يقصد به الدين الذى يولد فقط فى الفضاء السيبرى ويتمتع بدرجة من الواقع الافتراضى أما الثانى فيقصد به المعلومات الخاصة بأى دين سواء كان دين فرد أو دين مؤسسة والذى دفعنى إلى هذه التفرقة ما لاحظته على الانترنت من أنه فى الفترة من 1996 إلى 1997 وجدت صفحات بلغ عددها 865 وكلها عن طالبان ومع نهاية عام 2001 وصل عدد الصفحات إلى 329000 ومن هنا ينبغى النظر إلى هذه الزيادة فى ضوء الأحداث الارهابية الخاصة بـــــ11 سبتمبر 2001 والتى حدثت فى نيويورك وذلك بتدمير مركز التجارة العالمى إلا أن هذا الرصد يقف عند حد استخدام الإنترنت كوسيلة تكنولوجية وليس كوسيلة ابداعية لتوليد دين. أما إذا حدث هذا التوليد فيقال عن الدين، فى هذه الحالة، إنه دين الانترنت.
والسؤال إذن: كيف يكون ذلك؟ إن الانترنت تفرز بيئة ثقافية لمدينة كونية مغايرة للمدينة الأرضية. وقد تخيلها بوذى على النحو الآتى: رأى نفسه فى الحلم على هيئة فراشة فتساءل: هل أنا فراشة أحلم بأنى انسان أم أننى حلمت أننى فراشة؟ وترتب على هذين السؤالين سؤال آخر وهو على النحو الآتى: أين الحقيقة فى هذين السؤالين؟ أو فى صياغة أخرى: هل ثمة حقيقة؟ وأظن أن الجواب فى هذه الحالة يأتى بالسلب وإلا لم يكن ثمة مبرر لإثارته لأن الأغلب والأعم هو أن ثمة حقيقة، والمتشكك يصبح موضع اتهام كما حدث للفيلسوف «بروتاغوراس» فى العصر اليونانى القديم عندما أنكر الحقيقة فصدر حكم بإعدامه.
وإذا كان الجواب بالسلب فيمكن القول فى هذه الحالة إن دين الانترنت يأتى خاليا من المعتقد الذى هو، فى جوهره، حقيقة مطلقة لا تقبل التعددية وإذا خلا الدين من المعتقد فإنه يقف عند حد الإيمان المنفتح على بنى البشر أجمعين دون إقصاء وبذلك تمتنع الأسئلة التى يقال عنها إنها أسئلة ميتافزيقية وإذا لزم التوضيح وهو لازم فالسؤال اذن:
ما الميتافزيقا؟.
هذا الفظ معرب عن لفظ يونانى وهو يرادف بالعربية «ما بعد الطبيعة» والمقصود به العلم الذى يأتى بعد علم الطبيعة وموضوعه الوجود العام، أى المطلق أو الله. وقد ارتأى الفيلسوف الألمانى العظيم «كانط» أنه ليس فى مقدور العقل الانسانى قنص المطلق الذى هو الله، وبالتالى فإنه ليس فى مقدوره حسم الاختيار بين براهين إثبات وجود الله وبراهين عدم إثباته. وأظن أن «كانط» محق فيما يذهب إليه، لأن العقل الانسانى نسبى بحكم طبيعته الانسانية، ومن ثم فإدراكاته كلها نسبية وتدخل فى تناقض مع مطلقية الله وبناء عليه فإن الاشتغال بعلم الميتافزيقا أو ما بعد الطبيعة مضيعة للوقت والأفضل منه الاشتغال بعلم الكون أو «الكسمولوجيا». ولا أدل على ذلك من أن «الفضاء السَيبرى» يسمح لنا بالكشف عن بنية الكون وعن امتداد الكون إلى الحد الذى فيه يمكن القول إن «الكسمولوجيا» هى العصر الذهبى لعلم الفلك كما أنها العصر الذهبى للانسان بمعنى أنه فى الطريق إلى تأسيس الوعى الكونى الذى من شأنه أن يزيل اغتراب الانسان عن الكون إلا أن هذا الوعى الكونى لن يكون تاما إلا بوحدة الانسان مع الطبيعة. وهذه الوحدة تعنى تأنيسها إلا أن تأنيسها لن يكون تاما إلا ببزوغ انسان كونى.
فهل هذا فى الإمكان؟.