الفساد يعشش في كلّ مؤسسة، وفي كلّ دائرة، كما في
النفوس، وخصوصاً في نفوس الذين يستولون بقوة الزعبرة والمال والطائفة والنفوذ والسلاح
على أحلام الناس،
وحقوقهم. هذه حقيقة لا لبس فيها، ولا مجال للأخذ والردّ في شأنها،
لأنها "متل عين الشمس". لكن، والحقّ يُقال، ثمة في كلّ مؤسسة، وفي كلّ دائرة،
كما في نفوس الكثيرين من الناس، مكانٌ مرموق للضمير، للقانون، للحسّ بالمسؤولية، وللتمسك
بالنزاهة والأخلاق والقيم، وبمعايير العمل الوظيفي. هذه أيضاً حقيقة ساطعة، وأنا أرغب
في هذا المقال في الإضاءة عليها، من خلال تجربة شخصية عشتها.
جرت العادة أن يضطر "المواطن" أو
"المواطِنة" إلى تكليف أحد الأشخاص لينوب عنه في دخول "غابات"
الدوائر الرسمية في الدولة، و"دهاليزها"، و"كواليسها"، و"أروقتها"،
لإجراء معاملات إدارية، لقاء مبلغ من المال، تفادياً لوجع الرأس، ومنعاً لكلّ ما من
شأنه تأخير المعاملة، من خلال ذرائع وتبريرات "وظيفية"، يطلقها أحد الموظفين،
الغاية منها على العموم قبض عمولة لـ"تسهيل" إنجاز المعاملة بالسرعة اللازمة.
لكن التجربة البسيطة التي عشتُها خلال الأسبوع الفائت،
مكّنتني من اختبار العكس تماماً. فقد قررتُ أن "أغامر" بأعصابي ووقتي، بالتزامن
مع اهتماماتي الدؤوبة في هذه المرحلة بمسائل متعلقة بالشأن الانتخابي العام، وبدرس
احتمالات ترشّحي، لتمثيل "الأقليات" في بيروت.
كنتُ في صدد إجراء معاملات إدارية في إحدى المؤسسات
التابعة للضمان الاجتماعي. وكان هدفي أن أتمكّن من تسجيل والديَّ وتسجيل نفسي في الضمان
الاختياري، وتقديم الأوراق القانونية اللازمة، وتسديد ما يتوجب عليَّ لتنفيذ ذلك. أقول
بصراحة، إن "الهلع" كان مسيطراً عليَّ، أنا التي لم أتعوّد أن أحتكَ بعالم
الدوائر الرسمية، ومعاملاتها الروتينية. لكني أستطيع ان أجاهر بالقول إني خرجت من تلك
التجربة، وأنا أشهد لـ"نظافة" كفّ ذلك الموظف، الذي أبى إلاّ أن يقوم بواجبه
على أكمل وجه، من دون أن يُشعِرني بـ"تربيح جميلة". قال لي بالحرف الواحد،
باللغة اللبنانية الدارجة: عم أعمل واجبي، يا ستّ. أنا موظف بالدولة اللبنانيي، وعم
أقبض راتبي، ومسؤوليتي إنّي سهِّل معاملات الناس، مش عرقلتها، أو تأخيرها، أو قبض عمولة
مقابل تنفيذها. ما بريد تشكريني".
لا أخفي أني ذُهلتُ، وارتبكتُ، وقد لمتُ نفسي، لأني
في قرارتي، غالباً ما كنتُ أصل إلى استنتاج مفاده أن إصلاح المؤسسات مستحيل، لأن الفساد
يعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها.
أريد أن أُعلِم "مواطِناتي" و"مواطنيَّ"،
بما جرى معي، وأن أنوّه بهذا الموظف – "المواطن"، لأنه أشعرني بأن الفساد
ليس قدراً.
Joumana.haddad@annahar.com.lb / Twitter: @joumana333