-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

سعيد يقطين : جيل بلا بوصلة

أفرح كثيرا حين أرى كتابا جديدا في الدراسة الأدبية لباحث من غير جيلي، أو دراسة له في مجلة، أو أقرأ خبرا عن حصوله على جائزة. يعود مصدر السعادة إلى أن هناك استمرارية للعمل وللمجهودات التي بذلت، سواء في مجال التأليف أو الترجمة، منذ السبعينيات من القرن الماضي، وأن الأجيال الجديدة تواصل المسيرة بعزيمة واجتهاد وفرادة. كما أن هذه السعادة تؤكد رؤيتي للمستقبل، رغم كل الإكراهات والشروط غير المناسبة، وتبين أن الذين يتشاءمون من واقع التعليم المغربي، ومن الجامعة المغربية أنهم يعلنون انتهاءهم وإفلاسهم، بتشبثهم بلعن واقع معتم بدل أن يشعلوا شمعة تضيء الطريق. 
كما أن الذين يدينون واقع الجامعة هم على صواب، ولكنهم لا يبذلون أي جهد لتجاوز ما هو قائم، في إطار الكائن والممكن. عندما أواجه بتدني المستوى، أسأل ما نقدم لهؤلاء الطلبة لندينهم؟ إذا كنا لا نجدد أسئلتنا، وطرق تدريسنا، وبيداغوجيتنا، ونعمل على مواكبة ما يجري في العالم من حولنا على مستوى الإنسانيات بصفة عامة، والدراسات الأدبية، خاصة، أنى لنا أن نبحث عن المستحيل؟ ومع ذلك فالواقع، بمرارته، أفضل من السوداوية والتشاؤم، ولا سيما إذا بقيت روح التفاؤل سائدة.
لم يعد في إمكاني متابعة ما يكتبه الدارسون المغاربة «الشباب». فتعدد الجامعات لم يعد يتيح لنا معرفة الأسماء الجديدة. في السبعينيات وحتى الثمانينيات كانت مدينتا الرباط وفاس مركزيتين جامعيتين، وكان من الممكن التعرف على ما يجري فيهما، وما تقدمانه من أسماء جديدة. الآن تبزغ بين الفينة والأخرى أسماء جديدة، من مختلف المناطق التي تتوفر على كليات، رغم أن الحظوة ما تزال تحتلها جامعات الرباط وفاس، بالإضافة إلى الدار البيضاء ووجدة ومراكش وأَكَادير. 
فكرت مرارا في متابعة مجهودات الأجيال الجديدة، لمعاينة ماذا يكتبون، وكيف يفكرون في الأدب؟ أفعل ذلك متى كان متيسرا، لكن كثرة الانشغالات تحول دون التركيز على بعض القضايا التي تفرض علينا الاهتمام بها ومناقشتها. لكن المرء لا يمكنه سوى أن يتفاءل بوجود استمرارية الأجيال، وهي تبذل أقصى الجهد لمواصلة المسير.
هذا التطور ما كان له أن يتحقق لولا الخلفية المعرفية التي تشكلت في السبعينيات والثمانينيات بصورة خاصة. وهي ما تزال تشكل، بصورة أو بأخرى، الرصيد الذي تنهل منه هذه «الأجيال» الجديدة، لذلك لا بد من متابعة هذه التجارب الجديدة ومواكبتها بالتحليل والنقاش ليشتد عودها، وتتجاوز إكراهات غياب التفاعل، وسوء التقدير. في الإبداع الأدبي يمكننا أن نتحدث عن أجيال: جيل الستينيات، جيل التسعينيات، لكن في النقد الأدبي، والدراسة الأدبية والفكرية يصعب ذلك. فالإبدالات الفكرية التي يمكن أن تتوزع عليها التجارب قليلة، ولحظات التحول الكبرى نادرة. كما أن المسافة الزمنية بين الدارسين قصيرة. فمواليد الخمسينيات بدأوا الكتابة في السبعينيات والثمانينيات، وبعضهم يواصل الكتابة. ومواليد الستينيات والسبعينيات بدأوا الكتابة في الثمانينيات والتسعينيات. وهم مستمرون إلى جانب دارسين آخرين من الثمانينيات والتسعينيات. فهناك أجيال تتعاصر، وإن كنا نستطيع التمييز بينهم بما يراكمه السابقون في السن ولو بخمس أو ست سنوات، فيجعلنا هذا نميز بين «الأجيال» حسب الإبدال الذي هيمن في حقبة معينة، وما برز بعد ذلك.
في الثمانينيات سادت البنيوية في المغرب، والوطن العربي، واستمرت إلى التسعينيات، وإن ظل من يستثمر بعض إنجازاتها بشكل أو بآخر، لكن مع بداية الألفية الجديدة يمكننا الحديث عن «ما بعد البنيوية» في الدراسات الأدبية. بهذا التمييز يمكننا الحديث عن «جيل» ما بعد البنيوية، مقابل جيل الثمانينيات والتسعينيات. فما الفرق بين «الجيلين»؟ وما هي العلاقة بينهما؟ وما مستقبل الدراسة الأدبية العربية بصفة عامة، والمغربية بصورة أخص؟
أؤكد أولا ما قدمت به هذه المقالة، بأن هناك جيلا جديدا يواصل المسير، وهو يبذل قصارى جهده لتطوير الدراسة الأدبية العربية. هذه حقيقة. ثانيا إن هذا الجيل يواجه مشكلات عديدة على مستوى المنهج، والرؤية، والنص. وهو يواجه واقعه ومستقبله بلا بوصلة. وهذه بعض الملامح الدالة على ذلك، وإذ أقدمها هنا بصورة مجملة، فإني أتمنى أن تناقش، ويفتح بصددها حوار نقدي وأبستيمولوجي مفتوح بهدف المستقبل.
أبدأ بتحديد الشروط التي اشتغلنا فيها نحن الجيل الذي ساهم في تشكيل البنيوية، لإبراز ما يجعلها مختلفة عن نظيرتها بالنسبة إلى جيل ما بعد البنيوية، لتضح أمامنا الصورة ناصعة، بغية فرز أوجه الاختلاف وآثارها على التجربتين، للوصول إلى ما يمكن أن يسهم في خلق شروط جديدة لتجديد دماء التجربة الجديدة، ومدها بما يلزم لتحقيق أهدافها، بعد الوعي بشروط تشكلها والإكراهات التي تواجهها.
لا أتحدث عن البنيوية باعتبارها حقبة صافية، لقد شابها ما شاب كل حقب تطور الدراسة العربية الحديثة من مشاكل، بل إني أعتبر ما وصلنا إليه الآن وليد وعينا بها، وممارستنا لها، لكن مع ذلك أعتبرها أهم الإنجازات التي تحققت في التاريخ العربي الحديث. كانت «البنيوية» نفسها بوصلة جيل. أما جيل ما بعدها فهو يتحرك في مسارات متعددة، وبلا بوصلة.

تشكلت كل «الإبدالات» الأدبية العربية الحديثة، بدءا من الرومانسية إلى ما بعد البنيوية، مرورا بالواقعية والبنيوية، في واقعنا الأدبي في ضوء تأثيرات خارجية، ولم تتحقق من مقتضيات يفرضها التحول الداخلي لصيرورة الفكر الأدبي العربي. 
وليس لذلك من تفسير سوى أن أي إبدال معرفي لا يمكنه أن يتولد في تربة فكرية، إلا إذا كانت ثمة عوامل كثيرة تتدخل في تشكله، وتتصل مجتمعة بتطور العلوم والمعارف. ولما كانت العلوم عندنا غير متطورة، ظلت المعرفة غير العلمية هي السائدة. 
وهذه المعرفة لأنها تتأسس على جاهز التصورات، لا يمكنها أن تسهم في تكوين إبدالات متطورة على المستوى الداخلي، ولذلك ظلت تستند إلى ما ينتج خارج فضائنا الثقافي، وغالبا بدون فهم أو استيعاب. ورغم ذلك، فإن الرومانسية أعطت الذات مكانتها في الإبداع الأدبي ضد النزعة الإحيائية التقليدية (النهضة). 
كما أن الواقعية جرّت الأدب إلى الاهتمام بالمجتمع وقضاياه الأيديولوجية. في حين جعلته البنيوية يبحث عن خصوصياته الكامنة في بنياته الشكلية بغض النظر عن سياقاته. أما ما بعد البنيوية فقد أعادته إلى الانفتاح على الحياة والثقافة والمجتمع والهوية. 
هذه التطورات رغم أهميتها في خلق جو من السجال والنقد، وإعطاء حيوية للحياة الأدبية، لم ينجح أي منها في ترك «تراث» فكري قابل للتطوير، ولذلك ساد الانقطاع المسيرة النقدية العربية، فكان أي تراكم يتحقق في أي حقبة يصبح عرضة للتجاوز والقطيعة بعد استنفاد ما جاء من أجله.
هل جيل ما بعد البنيوية تمكن من وعي هذه الصيرورة ليشتغل بطريقة مختلفة عما قبلها؟ إذا لم يستوعب أي جيل ما تركته الأجيال السابقة، سواء على مستوى الإنجازات وحدودها، والإكراهات وآثارها، ويعمل على فهم كل ذلك جيدا، لا يمكنه أن يؤسس لممارسة ووعي جديدين، وسيعيد الصورة نفسها التي تكرست منذ عصر النهضة. إن نعتنا لهذا الجيل بكونه بلا بوصلة، لا يعني سوى تسجيل واقع تؤكده الوقائع والمنجزات. فبماذا يتميز هذا الجيل عن سابقه؟
لقد مثلت البنيوية في الوطن العربي منذ أواخر السبعينيات إلى التسعينيات تحولا كبيرا على مستوى فهم الأدب وممارسة النقد، ولذلك اعتبرتها أهم إنجاز عرفته الدراسة الأدبية العربية الحديثة. لقد اشتغل بها نقاد وباحثون كانوا قد تشبعوا بالواقعية والبنيوية التكوينية، ولكنهم تبينوا أن ما آل إليه النقد الأيديولوجي الدوغمائي ليس سوى الطريق المسدود. فكان الانصراف إلى البحث في البنيات بقصد تقديم رؤية جديدة تتصل بالأدب في ذاته. هكذا اختزلت البنيوية عندنا في مقولة «النص ولا شيء غير النص»، بدون تمثل روحها وإدراك فحواها. فاعترض عليها المعترضون بزعم «قتل» المؤلف، وإعلان موت التاريخ، ولم يذهب المتحمسون إلى استيعابها باعتبارها إبدالا حقيقيا يقدم تصورا علميا للأدب، فصارت ممارسة نقدية تتعايش فيها الاجتهادات «البنيوية» المختلفة بدون تمييز بين العلمي والنقدي، وبين علم وآخر. فظل التعامل معها على أنها «منهج بنيوي»، وكفى. 
يبرز ذلك بجلاء في ازدهار عملية الترجمة من الفرنسية لغة البنيوية، ولغات أخرى كالإسبانية، والإنكليزية. وفي الأطاريح الجامعية الكثيرة التي طبع أغلبها. وساهمت الندوات العربية والمؤتمرات، والمجلات والجرائد الثقافية في إشاعة البنيوية ومصطلحاتها التي دخلت اللغة العربية من بابها الواسع. فصارت كلمات: الشعرية والسيميائيات والسرد والراوي والتناص والخطاب والنص والعلامات، فتشكل بذلك وعي مشترك بمرجعية واحدة وموحدة. لكن الخلط بين الأدبيات البنيوية كان سائدا. ولعل السبب في ذلك يعود، إلى أن البنيوية وصلت إلينا في بداية انتقالها إلى «ما بعد البنيوية» فلم نستطع التمييز بين التشكل (الستينيات) والتطور(الثمانينيات). فكان فهم الحقبتين وكأنهما حقبة واحدة. 
كان التعامل السائد هو أننا أمام «منهج» جديد، سمي أحيانا «النقد الجديد» جاء ليقوض النقد الخارجي للنص. وكانت هذه الجدة مغرية للكثيرين، فانخرطوا فيها بوعي أو بغير وعي. فكانت النتيجة: عدم القدرة على التمييز بين الإنجازات البنيوية، من جهة، وتمثل تعدد المشاريع البنيوية وتطورها، من جهة أخرى. ففي هذه المرحلة كانت تتعايش عندنا أمشاج من المفاهيم تتداخل في ما بينها بدون تفريق: الخطاب والعلامة، والشخصيات والعوامل، والنص والتناص والتلقي، والدوال والمدلولات، والبنيات والوظائف، ويقدم كل ذلك على أنه «بنيوية». وبدأت محاولات الاشتغال في نطاق اختصاصات محددة: الأسلوبية، والبويطيقا، والسيميائيات، والبلاغة الجديدة، وتحليل الخطاب، ولسانيات النص، ولكن ضمن التصور نفسه على أنها جميعا «مناهج بنيوية»، وليست «علوما» تكونت، ولكل منها مقدماتها ومقاصدها وإجراءاتها، ما دامت لا تهتم بأيديولوجية النص، أو ما يتصل بخارجه. وصار الخلط بين الأدبيات الفرنسية «المحضة» مع الكتابات الأنكلوساكسونية «الهجينة» بدون سؤال عن الفروقات والمرامي والمقاصد.
فلم تتطور الاختصاصات التي تشكلت في المرحلة البنيوية، خاصة في فرنسا، مع «البويطيقا»، والسرديات والسيميائيات بصورة عامة. 
رغم كل هذه الجوانب المتعلقة بصلاتنا بالإبدال البنيوي، كانت ثمة بوصلة تقود المسترشد بها إلى سؤال لم نجب عنه بما يكفي هو: ما البنيات؟ ومع ذلك كان الهم مشتركا وموحدا. مع ما بعد البنيوية أين اتجهت البوصلة؟

ابتدأ نفض الذهن عن البنيوية ليس بالحديث عما بعدها، ولكن عن طريق تغيير مسار البوصلة في اتجاه «النقد الثقافي» باعتباره بديلا ليس فقط عن البنيوية، ولكن عن «النقد الأدبي» أيضا. وقدم النقد الثقافي باعتبارها «البوصلة» التي يمكن بواسطتها تجديد دراسة العمل الأدبي، بالالتفات إلى الأنساق «المضمرة» الثاوية في النص؟ وليس النقد الثقافي، كما يسلم بذلك كل مؤرخيه والمشتغلين به أيضا سوى مظلة كبرى تختبئ وراءها كل المقاربات أيا كان نوعها أو اتجاهها. وجاءت ترجمة كتاب تودوروف عن «الأدب في خطر» لتكرس الاتجاه نفسه ولتكنس أوراق خريف البنيوية المتساقطة على الأرضية العربية المجدبة. فصار الحماس للدراسات الثقافية، والنقد الثقافي، وما بعد الاستعمار، وتكاثرت محاور الاهتمام التي تدور حول السياق والدلالة والتأويل والأنساق والجنوسة والهوية والنسوية والذات والآخر، والحجاج، إلى جانب ما تبقى من «البنيوية» عند البعض الآخر الذي وصل متأخرا، فظل يعالج مصطلحية السيميائيات والعلامات والسرد والسرديات والراوي بالمرجعيات التي تحققت في الستينيات أو السبعينيات، دون العمل على مواكبة التطورات التي تحققت مع السرديات ما بعد الكلاسيكية أو مع التطويرات التي عرفتها السيميائيات الجديدة.
لا تقف المعضلة عند حد الاشتغال بالنص والعلامة بمعناهما اللغوي الذي كان مهيمنا خلال المرحلة البنيوية، بل تعدتها بسبب بروز النص الرقمي إلى بداية الانخراط لدى البعض في الاهتمام بالثقافة الرقمية، والوسائط الاجتماعية، والإشهار، فصارت البوصلة التي كان يسترشد بها في تحليل النص المكتوب هي نفسها المعتمدة في البحث عن النص المرقوم، فكان الوعي والممارسة وليدي التصورات الجاهزة الموروثة عن ذهنية الاشتغال بما وُجد وتيسّر. وكانت النتيجة أمشاجا جديدة من الاشتغال بالأدب، وبالعلامات المختلفة، وبالإبداع التفاعلي بدون تمييز أو تفريق. وما هذا الغصن إلا من تلك الشجرة.
إن الشروط التي توفرت مع ما بعد البنيوية على المستوى العربي مختلفة جدا. فالذين بدأوا ينتجون دراساتهم الأدبية وجدوا من جهة التربة مهيأة مرجعيا. لقد ترجمت الكثير من الأعمال التي تنسب إلى بعض رواد البنيوية وما بعدها كما تقدمها الدراسات الأنغلوساكسونية: من ألتوسر وفوكو وديريدا إلى بول ريكور مرورا برايموند وليامز وإدوار سعيد وهومي بهابها وسواهم. كما أن التمييز بين الثقافة العالمة والشعبية الذي يقدمه أصحاب النقد الثقافي ميزة يتميزون بها كان قد تحقق مع البنيوية نفسها. إننا نجد العدد الثامن من «تواصلات» 1966 الذي دشن بداية تشكل الدراسات السردية بنيويا تعامل مع ما كان يعتبر خارج نطاق الأدب، مثل الرواية البوليسية، والسينما،،، بل إن دراسات بروب المورفولوجية حول الحكايات العجيبة ابتدأت مع بداية القرن العشرين. والأمثلة لا حصر لها. ويمكن قول الشيء نفسه عن الاهتمام بالوسائط الجماهيرية والعلامات وغيرها. لقد كانت البنيوية بداية حقيقية لتغيير النظر في الأدب وفي الثقافة أيضا. وتركيزها على الجانب «البنيوي» في مستواه الشكلي كان مع «البويطيقيين» فقط. أما السيميائيون فقد انشغلوا بالدلالات والمعاني. وبالنظر إلى السرديين نجد ميك بال على سبيل المثال لا الحصر، ابتدأت مشتغلة بالسرديات البنيوية ثم انفتحت على جوانب أخرى في المرحلة ما بعد البنيوية، من المنظور السردي نفسه، على النقد النسائي والثقافي وعلى الثقافة الشعبية.
كانت هجرة النقد الثقافي إلى الفضاء العربي محاولة لفصل ما تراكم، عربيا، من أدبيات خلال المرحلة البنيوية لدى بعض الباحثين، مع المرحلة الحالية. فلم ينجم عن ذلك سوى القطيعة مع مرحلة مهمة من الدراسة الأدبية العربية. لم يحدث نقاش حول البنيوية في صيغتها العربية بهدف الوقوف على منجزاتها وحدودها ومشاكلها بهدف إقامة الجسور مع ما يليها. بضربة لازب ألصقت بها تهمة أنها كانت «جمالية»، و«أدبية»، وأن ذلك ليس هو الجانب الذي يمكن الالتفات إليه في النص الأدبي وغيره من النصوص التي لم تكن تعتبر أدبية حسب التقليد العربي. فجاءت كلمة «الأنساق» لتحل محل «البنيات». وكما أننا خلال المرحلة البنيوية لم ندقق في «البنيات» صرنا فيما بعدها نتحدث عن «أنساق» نقوم بإسقاطها على نصوصنا التي لم نتعرف على بنياتها. 
إن الانتقال من إبدال معرفي إلى آخر يتطلب معرفة إكراهات الإبدال السابق وحدوده، بهدف إنجاز مرحلة جديدة تنبني على ما تأسس في مرحلة سابقة. أما تحريف مجرى التطور فليس سوى ممارسة القطيعة التي تجعلنا لا نطور معرفتنا ولكن نجرِّب سبيلا آخر نتوهم أنه يمكننا من حل مشاكل قراءتنا للنص. إن البنيوية جاءت، أدبيا، لتؤسس علما لدراسة الأدب. والعلم يتطور لأنه لا يطرح إلا الأسئلة التي يمكنه الجواب عنها. ومتى أجاب عن أسئلة طرح غيرها ليفتح مجالات جديدة للبحث. وتلك هي البوصلة. أما خلق مسارات جديدة ومتعددة ومختلفة فليس سوى التيهان، والتشتت. 
أفرح لأن لهذا الجيل إنجازات مهمة وواعدة. لقد تحققت له شروط كثيرة غابت في زماننا، مثل المراجع، والنشر، والجوائز، والمحفزات، وتراجع الحساسيات. لكن الغائب الأكبر لديه هو الحوار والعمل الجماعي. اتخاذ زوايا منعزلة قد يخلق ناقدا لا معرفة علمية وثقافية.

القدس العربي

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا