توطئة، لابد منها: من مدينة مكناس، عاصمة الدولة العلوية إبان حكم المولى إسماعيل، مدينة
المعالم الحضارية الغراء مثل المدرسة البوعنانية وقصر هري الصواني وحبس قارة.. والمآثر
المعمارية الطغراء كباب منصور العلج وصهريج الصواني.. والمشاهد الطبعية الفرهاء من
قبيل جبال زرهون ووهاده وبساتينه الغناء..
من مدينة، اتخذتها الأعمال السردية مادة حكائية واتخذتها القصائد غرضا
وتجربة ورؤيا شعرية، واستلهمت من عمرانها وهندسة ساحاتها وقصباتها وروعة زخرفها
لوحات تشكلية ومؤثثات سينوغرافية، ومن تاريخها وشخصياتها كتابات دراماتورجية..
من مدينة، يلفي فيها المؤرخ والكاتب والشاعر والفنان والسائح والمتصوف
ضالته، وما يرضي غروره.. وبما أنها كل ذلك فلا غرو، أن نلفي لديها مبدعين عظاما وموسيقيين مرموقين وشعراء كبارا..
ولئن كان الشعر المعاصر وليد المدينة، البار أحيانا والعاق أحيانا،
تبعا لظروف فرضتها المرحلة على الشعراء، فإن كثيرا من المدن لا تكاد تذكر إلا
ويذكر معهاالشعراء، كالسياب وحجازي وعبد الصبور.. على سبيل التمثيل لا الحصر، فإن
مكناس باتت لاتذكر في المجالس الثقافية إلا ويذكر معها شاعرها الفذ محمد شنوف،
الملقب بزرياب مكناس، ولا تذكر مكناسة الزيتون في محفل أدبي إلا واستدعى الذكر
الشاعر الزرياب. فمن هو الشاعر محمد شنوف؟ ما أهم أعماله؟ وما أروع قصائده؟ ما
الذي ينماز به عن أقرانه من شعراء المدينة؟ وعن أترابه ورعيله من شعراء الوطن؟
على سبيل التعريف:
الشاعر محمد شنوف
من مواليد : 04 – 04 – 1960 بمدينةمكناس، متزوجوهوأب لطفلين، اشتغل كأستاذ اللغة الإنجليزية بثانوية الزيتون بمكناس،
عاد به المقام إلى مسقط رأسه، بعد سنتين قضاها بمدينة سيدي إفني وسنة واحدة بمدينة
سيدي قاسم.
نشر الديوان
الأول بعنوان:مِن هاجرَيأتي زَمْزَمُه، والديوان الثاني بعنوان:إليكِ انتَهَى الأمرُ. وله
ديوان ثالث قيد للطبع بعنوان: صدًىفي المَدى.
له كثير من القصائد منشورة بصحف محلية
ووطنية ومواقع إلكترونية أدبية مغربية وعربية. له العديد من المشاركات بعدة ملتقيات ومهرجانات شعرية محلية ووطنية وعربية.احتفي
بديوانه الأول احتفاءات عدة،وكرم في حفلات تكريم وضيافا تشرف في مدن مغربية مختلفة وأخرى
مغاربية بمدينة البليدة بالجزائر.
حاصل على الإجازةفي الأدب الإنجليزي
– من كلية الآداب بفاس سنة 1984، وعلى دبلوم كليةعلوم التربية – من كليةعلوم التربية بالرباط سنة
1985.له عدة اهتمامات أخرى جمعوية وحقوقية وتربوية وثقافية وسياسية، تقلد فيها مناصب
ريادية، وطلعية..
وأخيرا يلقب محليا ووطنيا بزرياب مكناس.
في البدء كان " من هاجر يأتي زمزمه"
-الغزل عندما يستمد متعلقاته من القدسي-
"من هاجر يأتي زمزمه" هو عنوان الديوان الأول لزرياب مكناس،
وهو في نفس الآن عنوان إحدى فرائده، التي مطلعها:
"كم ران علي ظلام أسى *** ومض الأحلام ينمنمه"
"والقلب حصيد جف ظما ***
من هاجر ياتي زمزمه"
حيث يلمس القارئ العادي قبل الناقد
المتخصص حضور حقل دلالي وجداني (ران، الأحلام، القلب، هاجر) في تضام وتلاحم مع حقل آخرطبعي
(ومض،حصيد، جف، ظما، زمزمه)، يشرعن الذهاب فرضيا إلى إرساء مضمن للقصيدة عند غرض
الغزل..فما خصوصية الغزل عند الشاعر محمد شنوف؟ أهو تجربة وجدانية فريدة لها خصوصيتها
أم مجرد تعبير عن حالة إنسانية عارضة، تغنى بها الشعراء وغيرهم على حد سواء..؟ ما
الخصوصية التي أضافهاالشاعر شنوف إلى القصيدة العموديةعموما والغزلية منها خصوصا؟ بمعنى ما
الميزات التي انمازت بها قصيدته عن غيرها، وغزله عن غيره من القصائد والغزليات
الأخرى؟
بالتوغل في ثنايا القصيدة -معجميا ودلاليا- يتبين أن هناك خصوصية
انماز بها التعبير عن الكم الشعوري لدى الشاعر،استوعبه غرض الغزل الذي استوى في
قصيدة عمودية، ذلك ما تؤكده امتدادات النواة الدلالية الأولى (هواها، أصبو، علقت، الوجد،
الوجه، تمشي، تخطو، الحسن، النهد، الصدر، الصخر بكى قلبا، الحب، جيش الأشواق، تهوى،
ذكرى، استشفي الضر، الصب.. القلب) التي تؤكد غرض القصيدة الأساس وتكرسه على طول
القصيدة. في حين تتصاعد وثيرة النواة الدلالية الثانية، التي تصور هذا الوجد وحال
الواجد ( زمزمه، الروح، الأقدار، الأقداس، مريمه، الشمس، نورا، الفلك، صهوات، الأم،
عرش، الجان، تقري، كل مكان، الطائر، يخضر، مائي يختمه، قابا قوسين، جهنمه، البدر،
سناه، كل مقطعة يدها، حسان الخلد..)في تصوير ينفك من عقاله الدنيوية/ التحتية/ المستفلة،
ليتسامى في رحابة الأخروي/الفوقي/ المتعالي، مما يضفي عليه طابعا مفارقا ويطوقه
بهالة قدسية، أي يلتحم المعجم الديني، بالمعجم الدنيوي، في حركة تسام من الأسفل
نحو الأعلى (يؤكده حتى نظام الصوائت وغلبة المستعلية منها: أترنمه؛ََََُُْ،مع نذرة
الكسر والجر وانتفاء الإقواء..)..وهو لعمري سمة جدة في التعبير الشعري عن غرض
الغزل، إنه غزل أقدامه في الأرض وهامته في السماء، مما يخلق توازنا دلاليا، عكسته
التعادلية المعجمية، بين صبابة العشق المتدفق والغامر والمشتركوالإنسي، وبين ارتقاء
العاشق بنفسه عن عشق العوام، ووصال العوام، وارتواء العوام،إلى صبابة الشعراء،غزل
يبلغ منتهاه مع نهاية القصيدة "لولاها لا ما كنت هنا ** أتلو شعري أترنمه"
لتصبح تلك "الهي" هي تعلة الوجود الفعلي والشعري وغايته،وهو تشذيب
وتهذيب وإضافة دلالية إلى كل التشكيلات التعبيرية السابقة عن هذا الكون الدلالي
(الغزل ومتعلقاته)، أكسبت الشعر والشاعر قيمة دلالية مضافة وسمة جمالية مثمنة،
ووسمت حبه بالإطلاقية الأفلاطونية، وأسبغت على غزله لباس القدسية الدينية، فتقاربت
دواله ودلالاته من دوال ودلالات بردة البويصري، مع وجود الفارق البين على المستوى التداولي
قدسية وقيمة ومقصدا وغاية..
ولقصيدته"لها صدعي" صدوع ومرجعيات:
-الصورة الشعرية عندما تتخذ من الموسيقى مرجعية-
ينتمي هذا النص إلى الديوان الأول للشاعر شنوف "من هاجر يأتي
زمزمه" يلاحظ المتكلم/السامع تزاوجا فاتنا بين الصوت والصمت، بين الحركة والسكون،
بين الصامت القصير والصائت القصير والصائت الطويل.. هذا من جهة الأصوات..
أما من جهة الصورة، فإنها تجد مرجعياتها وارتدادها في حقل الموسيقى (
كعرف العود آهاتي، أنا كالعود أوتار، صدعي عند مولاتي، تشدو كل نبضاتي، همس أشواق،لحن،
طرب). فما هذا التناسب العذب؟ وأين تجلى على المستوى النصي والانجازي أو الأدائي
للقصيدة؟
أول مظاهر هذا الانسجام والتناسق هو في التوظيف الكثيف لصوت الدال /د/،
الصوت العذب والجميل (يدعوني، إذا، العود، تشدو، تبتدي، "تهذي"، كأخدود،
الدجنات، مجاديفي، أجد، شهادا، الشهد، الدهر، سدول، وقود، عد، الغيد، ورد، دمي،
غدي) إذ لا يكاد ينتسج بيت (بشطريه) دون وجود هذا الصامت (صدْعي، أجدْ..) الذي
يغدو إما صوتا قصيرا مع صائت قصير(عندَ، الشهدُ..) ، أو صوتا مضاعفا مع صائت طويل
(عود، تبتدي، أخدود، مجاديفي، سدول، قود..) وهو الغالب المهيمن.. الذي يعبر القصيدة،
ناظما بين كلماتها وأبياتها، كنوتة موسيقية، تحافظ على تماسك الإيقاع وتدفقه
بسلاسة عبر مجاري القصيدة الصوتية، مالئا الفراغات التي يحدثها التمفصل بين
الوحدات الكبرى/الدالة، عبر ما يستمده من استطالة وتمدد ناتج عن تحققه مع المدود
الصوتية عند الإنجاز أو الأداء أو التحقق، كذلك يحقق هذا الصوت الإيقاع على مستوى
الوحدات الصغرى/غير الدالة (بنفنست) كفاصلة أو "نقرة أو قرعة" داخليةتوزعالمتواليات
الصوتية/الإيقاعيةوتنظمها، وتذكر الأذن بالتقطيع الصوتي/ الإيقاعي الأول.. مما
يضمن للقصيدة توزيعها الايقاعي، الذي يتحقق موسيقيا عند الأداء الحسن.
والخلاصة أن هذا الصوت جلاه الشاعر في أبهى حلله، عندما قيده بحروف
المد، مما أطلقه بمثالية، وعذوبة وهو يسيل ويتدفق ممتدا في النفس والنفس، مع
الصوائت الطويلة، التي تضاعف تجليه وترسخ حضوره في الأذهان، بعد انقطاعه وتمفصله
في اللسان.. وهو ما لا يفطن إليه إلا الشاعر الموهوب والناظم الفنان..
ذلك أن
للشاعر محمد شنوف تمكنا من العروض دقيق، ينعكس حلاوة وطلاوة في الإيقاع، ويدرك
بوضوح عند الأداء -نبرا وتنغيما وتطريزا- عندما تصدح به حنجرته.. وله مكنة في انتقاء
أصوات قصائده في انسجام تام مع معانيه، يترجمه إلقاؤه المتقن، الذي يعزف الإيقاع ألحانا،
وينظم الأصوات كنوتات موسيقية، ويطلق المقاطع أجراسا،ولعل من معايير الإجادة
النظم، بمعناه الجرجاني ومعناه العام والالتئام بين أجزائه سمة فارقة بين الغث
والسمين، وهو ما حاولنا الكشف عنه في هذه القصيدة.
وقع "التئام أجزاء النظم" وأثره في
قصيدة
" إليك انتهى الأمر" للشاعر "محمد
شنوف"
"إليك انتهى الأمر" هو العنوان الذي اختاره الشاعر محمد
شنوف لديوانه الثاني، وهو كذلك عنوان إحدى خرائده، فما الذي يرفعها إلى منصة عنوان
الديوان؟ ما سماتها الشعرية المميزة؟ أهناك قطيعة
أم تشاكل بين مستوياتها؟ ثم ما مصدر اللذة التي تجدها الذات القارئة لها؟
يستهل الشاعر قصيدته بالقول:
"عدمت القوافي إذا لا أراك
بها، كالمرايا تناغي بهاك
فليس كمثلك أنثى فتونا
تتوبل بالكبرياك أناك"
القصيدة من حيث إيقاعها، منظومة على بحر المتقارب، المعروف عنه أنه
بحر تغن بامتياز، ومعلوم أن الشعر العربي غنائي بامتياز، ذلك أن إيقاع هذا الوزن
طربي جدا، كما علمنا القدامى وذكرنا به
المحدثون كالبروفسور عبد الله الطيب، الذي يراه إيقاعا يصلح للإطراب الخالص..
(كتابه المرشد)، ومن حيث غرضها، فهي تجهر بمواجيد الحب، ومقامات العشق، ومكابدات
الصبابة.. وهي مفاهيم تجد جذورها في حقل الغزل، ونواته الدلالية.. مما يكشف
-بداءة- عن التحام جزأين من أجزاء النظم، هما الوزن، والغرض.. فإلى أي حد تناسبا
والتأما؟ وما مظاهر ومستويات هذا الالتئام والتناسب وأثره على النص من جهة،
والمتلقي من جهة أخرى؟
القارئ/المستمع لهذه القصيدة يلفي فيها لذة وعذوبة لا يستطيع تبين
مصدرها بدقة، فهو يطرب لها من حيث جرسها الموسيقي، ويلين لها من حيث فيضها الشعوري،
فكيف استطاع الايقاع الشعري الثابت أن يستوعب الشعور الانساني المتحول، بل أن يعبر
عن تجربة الشاعر الخاصة بطريقة هي الأخرى خاصة؟
لقد جاء حب الشاعر فيضا على
جنبات قواف مجازة، تزيد التنغيم تنغيما، وتنطلق كزفرات يطلقها الشاعر للتنفيس عن
ضغط ما يحتدم داخله، مستفيدا من المدود الصوتيه أو الموائع (مد الألف خصوصا) لما
تسمح به من إطلاق طويل للنفس، كآنين أو تنهد أو زفير، وهي الحالات التي تصاحب كل
ضغط نفسي واحتدام عاطفي ودفقان انفعالي، وكلما ازداد اشتداد الأمر إلا وزادت معه
الزفرات.. لذلك نجد القصيدة تتنفس من ضغط
التمنع وذروة التيم بهذه المدود الصوتية، فالتجربة
الشعرية في حالة ضغط نفسي قصوى، ناجم عن لين جانب الذات الشاعرة في مقابل تصلب
وتصلد موضوعها الشعري ، وهو ما أفلح الشاعر في تصويره (إيقاعيا) عبر توظيف صوت
الكاف، المهموس اللين، الذي عكس لين جانب الشاعر وانصياعه "أضم هداياك شوقا
كأم ** تقلب طفلا بغير حراك / وما إن تبدى خيالُك حتى ** توارت جيوشي وراء
لواك"، ويرافق انصياع الشاعر انكسار كل الوسائل التي توسل بها لبلوغ مراميه،
وانجراره في استسلام وراء حبه، تمثل في موقع الكاف الإعرابي المجرور(بالاضافة
غالبا) ليعزز هذه الدلالات. فيجري غرض الغزل في أدق تفاصيل القصيدة مثلما جرى في
أدق عروق الشاعر.. وهنا ملمح ناص وبارز من ملامح الصنعة والمكنة الشعرية، تمثل في
مدى التئام الدلالة بالصورة بالإيقاع وتناسبها جميعا، تجلى هذا التضام والالتئام
والتناسب في أبهى حلله في قول الشاعر: "كموج تكسر ملء ثغاب ** فظل يعافه زجر
مداك" وقوله "وقد كنت دنياي يوما، تهاوت ** علي حطاما بغير سماك"
فالصورة وإن جاءت عفو خاطر، فإنه خاطر شاعر مجيد، مادامت من شروط الإجادة الشعرية
ومقاييسها التئام أجزاء النظم والتحامها، التي أبان عنها هذا الموضع.
إضافة إلى تناسب الإيقاع والغرض، وباعتبار الشاعر صانع أصوات، أي
القادر على تطويع الأصوات لأسر الأسماع وسحر القلوب وخلب الألباب، فإن الشاعرمحمد
شنوف في هذه القصيدة، صاغ معزوفة تقدم للأذن رشوة الإيقاع الذي انماز بالرونق
والحلاوة والطلاوة، قبل أن تخلب القصيدة لبه بدلالات الحب، ومعاني العشق، وماء
الصبابة الذي يمتد من عيون القصيدة إلى مصبات المتلقي المتعطشة، فتتشرب الشعر
والحب والجمال، مع الشاعر، وتكابد مكابداته، وتتمثل خيلاته، وتتصور مكاشفاته..
وذلك عبر مستوى ثالث من
مستويات التناسب والالتئام، هو الصورة الشعرية، التي ترفع من وثيرة تأثر المتلقي
وتزيد من حقينة استيعابه لما يتلاطم داخل الذات الشاعرة ويرتد صدى ورذاذا في
الشعر، فالتضافر بين الصوت والصورة، ينقل المشهد الشعري بدقة وصدق، فالشاعر وإن
كان صانع أصوات (في أصله الإغريقي) فإن
الشعر يبقى تتفكيرا بالصور كذلك
(إخنباوم)، لذلك فكل بيت في هذه القصيدة -إضافة إلى صواتته المسكوكة- فإنه مسبوك
بماء صور شعرية جزئية، مستقاه من صورة بؤرية جارية، هي صورة الماء، بكل ما علق
بها من دلالات نتيجة التجربة الانسانية،
مع الماء وتنوع السيرورات التي اندرج فيها (سعيد بنكراد)، فالتصويربالماء -بالمعنى
الشعري- هو النسق المولد لكثير من التداعيات التصويرية، المصاحبة للإيقاع، من قبيل
التمرئي: (كنهر تمثل نجم سماك) التضارب: (على صخر شاطئ ذكراك أثوي** فأندب، أسلو،
وأضحك باك) الانكسار: (كموج تكسر ملء ثغاب..) العرفان: (كأني نبي يناديه سر **
كأني كليمك طور سناك) الابتهال: (وطيفك فوقي غمام ضنين ** يعلل مجدب روحي بماك)
الانصياع: (وإني ببحر هواك غريق ** وقد خانني السبح، حسبي يداك) الطاعة: (وأشهد
ليل النوى كم تخلى ** علي مشيرا بشق عصاك) الاستغاثة: (أصفت،خرفت، فهل من شتاك)
المواجهة: (فألقيت فيهم خطاب زياد) ثم تبلغ الصورة/البؤرة مداها الدلالي، كنتيجة
منطقية لمقدمة عندما يقر الشاعر بأن المحبوبة كالماء تحيي وتميت (إليك انتهى الأمر
إن شئت أحيى** وإن شىت أردى بمحض رضاك) فتجري كل التداعيات الجزئية، في مجرى
الدلالة الأول (الحب والغرام) وتتلاشى فيه كقطرات معنوية في يم الشعر.. تمنحه
عذوبة وفروتة.. وتجعل القارى يسبح في عمق إحالات متساوقة، على الماء والحب في نفس
الآن، فيدرك أن الثاني للشاعر بمثابة الأول للانسان.. فيخرج المجرد (الحب) في صورة
المحسوس (الماء) وتترسخ دلالته لدى المتلقي.. وأي متلق لا يدرك أهمية الماء
بالنسبة للانسان؟!
وزبدة القول؛ إن النص عموما جماع أنساق (عبد الله الغذامي)، والشعر
على وجه الخصوص يلتئم فيه النظم لفظا وتركيبا بالإيقاع بالصورة، ولا ينتقض بعضه مع
كله، أو يتنافر صوته مع صورته، أو يتباعد مبناه عن معناه..وهو ذاك ما تمثلته قصيدة
"إليك انتهى الأمر" لزرياب مكناس، الشاعر العربي المغربي محمد
شنوف، بما مثلته من تآلف الدال والمدلول، وتماسك الشكل والمحتوى، والتحام الطريقة
بالحقيقة، والتئام الجزء بالكل، في مقطوعة ترقى لأن تعلق مع المعلقات، نظرا
لسلامتها من العيوب وشدة اقتفائها معايير شعرية العمود، وتقطف بعض أبياتها كأمثال
سائرة أو حكم شاردة، نتيجة إيناعها واستوائها.. دونما الحد من حرية التعبير عن
المواجيد والمكابدات وتحيينها في قصيدة
تلتزم شكلا بمعايير الايقاع واللفظ والتصوير التقليدي، وتتنفس روح التجديد
محتوى وتعبيرا ومعنى.. كاسثمار الماء كصورة وعلامة غنية بالدلالات، مع تهذيب
وتشذيب جموحها الدلالي وفورانها المعنوي بما يلائم المقصدية ويوائم المقام.. مما
يرفع القصيدة إلى مرتبة عنوان الديوان من جهة، ويدل على التمكن والصنعة والإجادة في
نظم الشعر، مع الحرص البعيد عن الكلفة، والاتباع البعيد عن التقليد، والجدة
البعيدة عن التمحل، من جهة ثانبة، وهو كله ما يشكل مصدر التجربة الجمالية التي يعيشها
المتلقي في أحضان هذه القصيدة بلذة غير متناهية.. يلتئم فيها شمل الشاعر والنص
والمتلقي في فناء لحظة جمالية متعالية ومتفلتة من قيد كل عقال..
على
سبيل الإشارة والاختتام:
تتعالى
في العالم العربي أصوات شعرية، ترقى مرقى الطبقة الأولى، وتستحق الاعتراف بها
نقديا، بعدما فرضت نفسها شعريا، ولئن كان الحديث عن جغرافيا شعرية عربية فلا يمكن
الحديث عنها في انفصال عن منطقة المغرب العربي، وعن المغرب.. وضمن هذه الجغرافيا،
لا يمكن الحديث عن تضاريسها الإبداعية والفنية والثقافية، دون استحضار قمم الشعر
الشماء، بالوطن العربي الكبير، وفسح المجال أمامها، ومن هذه القمم، مغربيا الشاعر
محمد شنوف زرياب مكناس، الذي يعمد القصيدة العمودية بماء الحب، ويستعيد رونق
ونضارة وروعة الغزليات العربية الخالدة..
· كاتب
وباحث في الجماليات وتحليل الخطاب/ المغرب