حين ” خربشت ” قصيدتي الأولى اعترفت بأني شاعر أحد، ولمّا بلغت السادسة عشرة من عمري كان أندادي في الشعر المتنبي وأبو نواس وعنترة ربّما، ويوم بدأت أكتب القصيدة صار لي رفاق كالمنصف الوهايبي وأبي القاسم الشابي ..، وحين سافرت في الأرض وأكلت عديد الثمار الشعرية أصبح لي إخوة شعراء كحسين القاصد وعبد الله العريمي وفاطمة بن فضيلة..، وفي كلّ مرّة أفتح الباب جهارا لشاعر فحل وصار لي أصدقاء مبدعون بعدد لا يُحصى ..وتنازلت عن اعتقادي الراسخ بأنني شاعر أحد، بل أنتمي لمجموعة كبيرة من النفوس العظيمة ..ورضيت بما قدّر الله لي ..ولكن ماذا أفعل بهذا السيل الهادر الذي يبدأ اسمه ب : نمر سعدي …، وأنا على مشارف الستّين ..سأقول الحقيقة كما هي : إنّه الاستثناء والامتياز ..إنه حرارة الروح وهشاشة الجسد ..إنه الإنسان الشاعر…
بداية أشكر أنوار سرحان لربطي به بعد انفصال دام بعض الوقت ..، نظرا لسقوطي في فراش المرض وصبري الطويل على وعكتي الصحيّة ..التي بدأت أشفى منها ، وكنت قد نسيته تماما وكان أن اقترحت أنوار مجموعته الشعرية ” استعارات جسديّة ” فأصيبت ذاكرتي برجّة كبرى …هذا الرجل أعرفه ..وكان أن عدت إلى مراسلاتنا الثنائية فتذكرت أنه الشاعر الفذّ الذي انمحى اسمه من ذاكرتي ..فعدت إلى محاورته داخل النص وخارجه..
في قصيدته النثرية الطويلة نسبيا التي افتتح بها مجموعته ” ثعلب ينام في حدائق السرياليين” والمقسمة إلى أجزاء نراه يتنقّل من اليوتوب إلى فيروز إلى ظلّ الحبيبة إلى ” الشعراء أنبياء كذبة ” وإلى الحرّية التي نهفو إليها جميعا …، دون أن ينسى القصيدة ومدحها كما يجب ..يقول عنها :
” الشيء الوحيد الذي تفعله عندما تأتي هو أن تمدّ يدها النحيلة مثل عود ثقاب، وبدهشة طفل غجريّ تشعل وردة دمي المطفأة “
يكتب القصيدة الموزونة كما يكتب النثر..، يجرّ التفعيلة جرّا ويسحب خلفها جملة طويلة تتلوها أخرى ..دون اختيار أو تمييز أو ما شابه ذلك..، من لا يعرف الوزن يحسبه ناثرا جيّدا ..وهو لا أحد سوى نمر سعدي يقترف قصيدته بجنون وجموح وجمال..، أنصتوا إليه في قصيدة ” في اللوحة امرأتان ” كيف يتودّد لمن يحبّها ويعدّد ما ضيّع من حياته :
” قلت لها: اتبعيني مثل ذئب ضلّ ، أو كسهام نار في الفلاة، فإنّ هذا العام ضاع سدى ولم أغسل بلمعة شعرك العينين ؟ “
أحيانا يشدّنا سطر شعريّ ..أو تعبير مغاير للسائد فتضمّه إلى مقتطفاتك دون أي تفسير أو أيّ تبرير..، وتقول للآخر المتابع لنصّك : هذا القول هزّني ..فيطرب مثلك أو يدعك لنفسك ولأهوائك وهواجسك ..، هذا ما يقع لي وأنا أقرأ هذا المقطع في قصيدة بعنوان ” كم مرّة ستُحبّ ؟ ” ..ليتني كتبته قبلك يا نمر سعدي لأرتاح وأريح …:
” لم تكن أعمى لتذكر أو لتنسى، لم تكن أعمى ولكن كنت وحدك كالغريب، وكنت وحدك كانسحاب يديك من جسد الحبيب…”
في نصّ محكم وجميل عنوانه ” ماذا تريد من الحياة ؟ ” يجيب عن السؤال الخطير الذي يلقيه الشاعر على نفسه وهو سؤال الجدوى من كلّ هذا الطواف ببيت القصيدة وصنم الحياة..يجيب بصفة عفوية ويقول ” لا أدري ” ..” ولكني أحاول أن أكون وأن أغنّي “….
” ماذا تريدُ من الحياةِ أو القصيدةِ؟ قالَ لي أحدٌ، أجبتُ بلستُ أدري، ربَّما ما كانَ يبغي الآخرونَ، العاملُ البلديُّ والشرطيُّ، مأمورُ الجماركِ، نادلُ البارِ الوحيدُ وبائعُ الذُرةِ الشريدُ، وربَّما لا شيءَ، لا أدري، الحياةُ متاهتي الكبرى، القصيدةُ ليلُ هاويتي، ولكني أحاولُ أن أكونَ وأن أُغنِّي، أن أُحدِّقَ في فراغِ الكأسِ أحياناً، وأن أتوسَّلَ النسيانَ، لستُ أرى طريقاً لا تقودُ إلى القصيدةِ أو إليَّ…”
من الصعب تلخيص شاعر في حجم نمر سعدي في مقالة أو حتّى دراسة نقدية شاملة تحاور كلّ ما كتبه هذا المتمكن المنفلت في الآن نفسه ..، لقد وقعت في الفخّ يوم أردت ولوج عالمه الشعري ..فإنّه غزير الإنتاج وله مخزون ثريّ من الموضوعات المختلفة وهو مقترف لكلّ أشكال الكتابة الشعرية ..خلاصة القول : فلسطين أنجبت مرّة أخرى..أنجبت… شاعرا.