إنَّ العديد من المسارح الغربية عملت على التصدي للخطاب الغربي ضد شعوب العالم الأخرى كخطاب نقيض ارادت، من خلاله مجابهة هذا الخطاب وتأثيراته على الداخل الغربي، كطريقة لفضح الحقائق، التي أورثها النظام الكولونيالي على تفكير الشعوب الغربية ، ومن هذه المسارح ،التي سنركز على امثلة منها، المسرح السياسي عند (بسكاتور)، والمسرح التسجيلي عند (بيتر فايس) والمسرح الملحمي عند (بريخت)، والمسرح الحي في أمريكا .
إنَّ المخرج الالماني (ارفين بسكاتور) مارس المسرح لاعتقاده بضرورة توظيفه في التصدي للخطاب السياسي السائد في اوربا، إذ ركز في جهوده الاخراجية على اعطاء المسرح صبغة سياسية، مستخدما بعض التقنيات في هذا المجال ومنها ( الافلام السينمائية، والدمى، والقصاصات مزج الغناء بالرواة، والحوائط غير المرتفعة، والجرائد اليومية، والشرائح السينمائية الملونة، والاعلام الملونة …الخ) وبعض هذه التقنيات استخدمت لأول مرة على خشبة المسرح. فقد رفض بسكاتور في مسرحه الصيغ الجمالية السائدة آنذاك في العروض المسرحية لحساب الرؤية السياسية والاجتماعية، ولم يفسح المجال في مسرحه مكانا لدغدغة العواطف أو لتفجير الانفعالات الصاخبة، وإنما اعتبر مسرحه بشكله السياسي مكانا للتعليم والتنوير وإيقاظ وعي المتفرج. ومن أعماله المسرحية مسرحية (الريفو الأحمر) و (الرايات والاعلام)، التي أراد من خلالهما ان يقدمفكرة المسرح السياسي، وقدمه ونظره من ناحيتي الشكل والفلسفة، إنَّه لا يريد أن يلعب دور (الفنان) بل دور (السياسي)، عن وعي وتسليم بالحاجة الى التعريف بشكل واسع بالصراع الطبقي والمشاركة في قيادته، إنَّ هذا الموقف السياسي عند (بسكاتور) هدفه احتجاجي ضد الخطاب الغربي الذي يفرق بين طبقات المجتمع الغربي، والذي انعكس هذا الخطاب حتى في تعاملاتها الخارجية على باقي الشعوب ، فهي عقدة في النظام الغربي داخلياً وخارجياً أيضاً.
إنَّ المسرح التسجيلي يحمل ملامح رسالة سياسية كعرض، أمَّا النص المسرحي التسجيلي فهو لا يقوم على منطق الحكاية ، او رؤية ذاتية للعالم كما يفعل التعبيريون ، ولكنه يقوم على أمر مغاير هو عرض نقدي للعوامل الاجتماعية والاقتصادية في الحياة الاجتماعية بشكل مباشر في أوربا ، ومن الذين ساهموا في التأسيس للمسرح التسجيلي الالماني (بيتر فايس ) وهو مؤلف مسرحي يحمل الجنسية السويدية ، الف بعض القصص القائمة على التجريب وأخرج عدداً من الافلام الطليعية وحقق نجاحاً عالمياًعام 1964م عندما عرضت مسرحيته الأولى ( محاكمة مارا صاد) . وقد اجتذبت اهتمام مخرجين باروين في أقطار كثيرة ولا سيما بيتر بروك في بريطانيا وتتناول مسرحياته اللاحقة قضايا راهنة ذات أهمية دولية من أمثال ( انغولا) و( حوار فيتنام) عن الحرب الفيتنامية عام 1969م. كان موقف (فايس) يتجاوز حدود الاحتجاج الداخلي ضد الخطاب الغربي الكولونيالي ، مما حمل خطاب صبغة ما بعد الكولونيالية من خلال تناوله مواضيع تمس الشعوب الاخرى ونقل صوتها الى الداخل الغربي ، وخصوصاً شعوب أفريقيا ، وحرب الفيتنام ، الذي خاضها الاحتلال الامريكي ضد آسيا متمثلة بالفيتنام .
أمَّا (برتولد بريخت) الكاتب والمخرج الالماني ،فقد كان من المناهضين للخطاب الغربي، من خلال تقديمه مسرحية (في ظلمات المدينة) عام 1923، فيها انتقد الاستعمار الذي نجح في تحويل الشعوب المستغلة إلى وسائل حرب تستغل لحساب الاستعمار، وبطل هذه المسرحية (حمال) فقير في مستعمرات جلالة الملكة يخرج من داره في الصباح ليشتري سمكة صغيرة لزوجته فتقابله إحدى مجموعات فرق المدفعية في جيش جلالة الملكة (البريطانية) وتغريه بزجاجات البيرة والسيجار الهافانا حتى يقبل الانضمام إليها ليحل محل زميل مفقود من زملائهم أثناء النداء في الطابور ، وتستمر أحداث المسرحية لتجسد لنا كيفية تحويل هذا الحمال من رجل فقير خرج يشتري سمكة إلى جندي من جنود الملكة شغوف بشرب الدماء . إن (بريخت) وفي مرحلته التعبيرية صاغ عدد المسرحيات المناهضة للفكر الاستعماري ومنها (طبول في الليل) و (ماهوجوني) التي كان يعبر بهما عن حالة السخط وعدم الرضا من (بريخت) ، شأنه في ذلك شأن التعبيريين إلا إنَّه يبدو واضحاً أيضاً إن فكر (بريخت) يمتاز عن فكر التعبيريين بشيء جديد ، هذا الشيء هو الاهتمامات السياسية التي تدور من بعيد حول العلاقة بين الاستعمار والامبريالية من ناحية ، والشعوب المستعمرة الفقيرة من ناحية أخرى.كذلك أدان (بريخت) الحرب وما تؤول إليه من دمار وخراب والخاسر الأكبر هو الإنسان الفقير الذي يصبح وقود لتلك الحروب التي اشتعلت نيرانها من أجل مصالح لا إنسانية ، حيث قدم مسرحية (الأم شجاعة) صاحبة مقصف تديره لكسب العيش من بيع الطعام والشراب والمؤن للجنود المشتبكين في الحرب (حرب الثلاثين) ، ثم تفقد أولادها واحداً فآخر ، وتقع في حب طباخ هولندي ، وتخفي تحت جناحها قسيساً هارباً من الجيش ، حتى هذان يهجرانها في النهاية وتبقى وحدها تجر عربتها المغطاة ، بينما الحرب في اندلاعها إلى ما لا نهاية .
أمَّا في (امريكا) ، فقد ظهرت حركات مسرحية عديدة مناهضة للخطاب الكولونيالي الجديد في العالم الغربي ، ومنها (المسرح الحي ) ، التي ناضلت ضد الحرب الأمريكية في (الفيتنام) وضد تعامل أمريكا مع الشباب وسوقهم إلى محرقتها ، ومن مسرحياتهم التي كانت بمثابة إدانة للسياسة الأمريكية. مؤسسي هذا المسرح ،هما (جوديت مالينا وجوليان بك) ، حيث قدمت فرقة (المسرح الحي) مسرحيتين هما (أسرار وقطع أخرى صغيرة) ، إذ احتوت المسرحية على عدد من الإيحاءات منها مشهد الموت الجماعي ، والمشهد الذي يحتوي على أغنية كلماتها العبارات المكتوبة على الدولار الأمريكي ومشهد الأغنية الهندية ومشهد الهتافات التي يطلقها (جوليان بيك) ومن هذه الإيحاءات تتضح المشكلة التي يعيشها المجتمع الأمريكي في ظل السياسات الكولونيالية الساعية إلى إخضاع العالم بالقوة العسكرية وذلك على حساب الشباب الأمريكي. وأهم ما تركز عليه المسرحية هو مشكلة العذاب النفسي والدمار المادي والموت الذي تجلبه حرب فيتنام ،فالجندي الذي يقف انتباه في أول العرض يوحي (ولا أقل يمثل) بآلاف الشباب الأمريكيين الذين كانت تسوقهم حكومة (جونسون) في تصعيدها الدائم للحرب ، أما أغنية كلمات الدولار الأمريكي فهي تؤكد المفارقة بين دفع آلاف الشباب للموت في الحرب (خاصة حرب الفيتنام) وبين اكتناز أصحاب الأعمال للأموال كنتيجة لاستمرار هذه الحرب.