رامي أبو شهاب: لا ريب أنه ثمة في المشهد الثقافي المعاصر حمى كتابة، أو إبداع ـ مع تحفظي على كلمة إبداع، ومفاهيمها المعرفية – غير أنها ليست الكتابة التي يمكن أن توصف
بأنها تستند إلى فهم حقيقي لمعنى الأدب، ووظيفته، فالكتابة الشائعة هذه الأيام ليست سوى محاولة للثرثرة على حدود الأدب، وهوامشه، فهناك متخيل أو تصور بات متمكناً في وعي البعض – إذا كنا نعتقد بواقعية هذا التوصيف- بأن ما ينتجونه ينتمي إلى مجال الأدب، أو الفن.
وبعيدا عن مقولة سارتر ما الأدب؟ والمشكل الأيديولوجي، فإن الأفكار، والقيم الشعورية، والتجربة ربما تشكل في المجمل عوامل ما لتنشيط الفعل الإبداعي، ولكن هذه العوامل ليست سوى مشاعر أو رؤى يتشاركها معظم البشر الذي يمتلكون قدراً طبيعياً من الإحساس بالعالم، غير أن الكتابة ليست فقط كتاباً يصدر، وجنساً أدبياً نتخيره من بين العديد من الأجناس الأدبية، كي نتمكن من ولوج منصة الإبداع، كما أنها ليست لقباً يصبح من مستحقات الحضور الاجتماعي بوصف منشئه قد أصبح قاصا أو شاعرا أو روائياً، أو فناناً، كما أن الكتاب الصادر ربما لا يعني أحدا غير صاحبه، ومجموعة من الأصدقاء، الذين يمارسون دور جمهور محلي مما يعني أن الكتابة لم تعد ذلك الامتداد الواجب توفره من أجل تحقيق فاعلية التأثير في المتلقي، ولتكون مجالاً للإدراك والتغيير.
لقد أمست هندسة الثقافة نموذجا منظماً يحتاج إلى مهارات تنسيقية لإنتاج الأديب والمبدع، تبعاً لوصفة تستند إلى ناشر، وحفل إشهار، ومقالة في صحيفة، لتتحول إلى كاتب، أو أديب، في حين أن الجمهور المحلي، أي بمعنى المجموعة التي تتشارك معها الصداقة جزءاً من لعبة التلقي التي تمارس على الملأ، وبحضور وتغطية الصحافيين، في حين إن الاستناد إلى العمل المنتج لا تعدّ معياراً حقيقياً، وبهذا فقد أضحى الإبداع مختطفاً كونه لا ينهض على قيم معيارية حقيقية، فليس ثمة أمام اللعبة الإعلامية، أو حتى المؤسسة الأكاديمية من أسس لتقييم هذا الاسترسال في إطلاق الأعمال والشعراء والكتاب، وإغراق المشهد بهذه الثرثرة الكتابية، وبهذا فإن غياب رقابة نقدية، فضلاً عن تزييف وعي الذوق والتلقي أمسى سمة مشتركة لنموذج إنتاج الأدب أو الإبداع في هذه الأيام.
لا ريب في أن الكتابة ما هي موقف من الحياة، فهي ليست فعل شرح أو ممارسة لتقديم الحياة، وهنا استدعي، على سبيل المثال لا الحصر، بعض الشعراء والروائيين الذين جنحوا إلى حدود الهذيان بحثاً عن جوهر الحياة وكنهها، فهؤلاء لم يكونوا معنيين بتمثيلاتهم في وعي الآلة الإعلامية، إنما كانوا يعايشون الكتابة بوصفها تجسيداً للحياة التي يمقتونها، أو على العكس يعشقونها إلى حد الموت، إن الكتابة كما أراها موقفا متطرفا من العالم، يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى تهشيم الحقائق، والمسلمات عبر الخروج من منطقة التوازن إلى حدود تقويض المنطق، هي ليست نزعة رومانسية، بمقدار ما هي نتاج لقدر من الاضطراب الصحي لمن يرغب في أن يكون مبدعاً، فالعالم في نصوص جبرا إبراهيم جبرا ليس سوى صورة عن وعيه تجاه عالمه بكل ما ينطوي عليه من نزعات لفهم الحب والفن والوطن. في حين أن غسان كنفاني كان معنياً بموقف وقضية. ونجيب محفوظ كان يتأمل العالم بوعي فلسفي وتاريخي، في حين أن رامبو وبودلير نموذجان على الكتابة المتطرفة إلى حد الهذيان لإدراك حقيقة الحياة، إنه الموقف من نقض القيم، وليس فقط التصوير، وبناء عليه فهي ليست روح التجسيد بمقدار ما هي رغبة في ردم فجوة عميقة في النفس لا يمكن للواقع أن يتمكن من التعامل معها.
الكتابة هنا لا تستند إلى فعل استقرار كي تتمكن من التوسط بين الواقع والكتابة الإبداعية، أو أن تدرك فتنة أن تكون كاتباً. فالكتابة عبارة عن سد فراغ هائل في الروح والنفس لم تتمكن الحياة أو مقاربتنا الاعتيادية من تقديم الحلول اللازمة له، بحيث لا يمكن أن تجد ضالتك في التصورات الدينية، ولا حتى في التفسيرات الوضعية للحياة، فالشاعر أو المبدع عامة يقف على الحافة ليمضي إلى الجرف وحيداً، أن يمضي إلى تجربته التي لا نعتقد – نحن المتزنين – بجدواها بوصفه خرقا للمنطق، ولعل الروائيين العظماء حتى في أعظم أعمالهم كانوا يكتبون من نزعات لرفض القيمة الكامنة في الحياة بكل ما تحمله من أبعاد، ولنتأمل روايات دستويفسكي، سنجد أنها تنطلق من فراغ عميق يسعى صاحب “الجريمة والعقاب” إلى ردمه بكل ما أوتي من قوة لتفسير النفس البشرية المعقدة والشديدة الغرابة، إنه فقدان الأمل. وليس أدل على طبقات الألم مما نجده لدى همنغواي الذي كانت الكتابة له تعني نقيض الموت، فكان له أن ينتحر حين استشعر فراغا ما حوله.
إن الفنان والشاعر والمبدع ليس التمثيل اللامع القائم على شاشة أو على غلاف كتاب، أو خبر في صحيفة لا مقروءة. إنه ذلك الألم لمعنى أن تدرك أنك موجود في عالم لا تستطيع أن تدرك معناه، هي اشتراطات تبدو أقرب إلى نماذج اللامنتمي، غير أنها تعني بلا شك حقيقة أن تكون مبدعاً حقيقياً، وهذا ليس ترفاً، إنما هو قدر لا فرار منه، لقد مثل انتحار الممثل الأمريكي روبين وليامز دلالة على أن عالم المبدع الداخلي ما هو إلا سر من الأسرار التي لا يمكن للبعض أن يدركها، فمن عدّ نفسه أيقونة لمقاومة الاكتئاب، والدعوة إلى التفاؤل كان في عمقه يقاوم فناءه الداخلي، وفراغه من معاني الحياة، لقد كانت روحه منخورة.
لا شك في أن الأدباء والفنانين الحقيقيين هم الذين يقفون من العالم موقفا أقرب ما يكون إلى نصل السكين، ليس ثمة كتابة بلا دفء أو حرارة، لقد دفعت هزيمة حزيران/يونيو 1967 الروائي الأردني تيسير سبول إلى الانتحار، وهو الذي أبدع رواية “أنت منذ اليوم” التي كانت أقرب إلى قيم التجريب، والثورية – في الشكل والمضمون ـ ولعلها كانت أكثر حداثية من معظم نصوص اليوم التي ليست سوى ثرثرة اعتباطية. لقد كان فلوبير حاضراً في شخصية مدام بوفاري كي يعبر من خلالها عن شيء ما في داخله، لقد حملت الشخصية احتجاج فلوبير، وموقفه القيمي والشعوري من ذاته، ومجتمعه، هذه ليست سوى نماذج، في حين أن هنالك ما زال الكثير لسرده عن طبيعة الإبداع بوصفه حالة إدراك للعالم، ونفيه، لا حالة تموضع في العالم، لقد كانت الكتابة وسيلة للخروج من العالم بكل ما ينطوي عليه من حدود وضيق، بل إن بعض الكتابة قد أتت لتفضي إلى صورة فراغ ما يسكن النفس.
إن الدعوة هنا ليست إلى القيام بخرق النسق الطبيعي لذات المبدع، إنما نعني أن تنطلق الكتابة من وعي عميق بإشكالية العالم، فهي ليست مجرد كتابة على حواف الحياة، وسعياً لتمثل قيم الذات في غرورها الأبدي، وهنا علينا أن نختبر التجربة التي ربما كانت بعض عوامل الإنتاج الكتابي، أو الفني لبعض المبدعين، إذ سنجد أنها على صعيد الواقع تبدو شديدة الضآلة والهامشية على المستوى الفكري والقيمي، فليس ثمة موقف تجاه الجنون بوصفه التمثيل الأمثل، بمقدار ما يرغب بأن يكون شاهدا على الحدث، فهناك رغبة في الحكي، أو إنه الحكي الذي يمكنك من أن تضيف من خلاله إلى ذاتك لقب أديب أو فنان، ولكنك حقيقة لن تكون سوى خبر عابر في سديم الاستهلاك الإعلامي.
القدس العربي
بأنها تستند إلى فهم حقيقي لمعنى الأدب، ووظيفته، فالكتابة الشائعة هذه الأيام ليست سوى محاولة للثرثرة على حدود الأدب، وهوامشه، فهناك متخيل أو تصور بات متمكناً في وعي البعض – إذا كنا نعتقد بواقعية هذا التوصيف- بأن ما ينتجونه ينتمي إلى مجال الأدب، أو الفن.
وبعيدا عن مقولة سارتر ما الأدب؟ والمشكل الأيديولوجي، فإن الأفكار، والقيم الشعورية، والتجربة ربما تشكل في المجمل عوامل ما لتنشيط الفعل الإبداعي، ولكن هذه العوامل ليست سوى مشاعر أو رؤى يتشاركها معظم البشر الذي يمتلكون قدراً طبيعياً من الإحساس بالعالم، غير أن الكتابة ليست فقط كتاباً يصدر، وجنساً أدبياً نتخيره من بين العديد من الأجناس الأدبية، كي نتمكن من ولوج منصة الإبداع، كما أنها ليست لقباً يصبح من مستحقات الحضور الاجتماعي بوصف منشئه قد أصبح قاصا أو شاعرا أو روائياً، أو فناناً، كما أن الكتاب الصادر ربما لا يعني أحدا غير صاحبه، ومجموعة من الأصدقاء، الذين يمارسون دور جمهور محلي مما يعني أن الكتابة لم تعد ذلك الامتداد الواجب توفره من أجل تحقيق فاعلية التأثير في المتلقي، ولتكون مجالاً للإدراك والتغيير.
لقد أمست هندسة الثقافة نموذجا منظماً يحتاج إلى مهارات تنسيقية لإنتاج الأديب والمبدع، تبعاً لوصفة تستند إلى ناشر، وحفل إشهار، ومقالة في صحيفة، لتتحول إلى كاتب، أو أديب، في حين أن الجمهور المحلي، أي بمعنى المجموعة التي تتشارك معها الصداقة جزءاً من لعبة التلقي التي تمارس على الملأ، وبحضور وتغطية الصحافيين، في حين إن الاستناد إلى العمل المنتج لا تعدّ معياراً حقيقياً، وبهذا فقد أضحى الإبداع مختطفاً كونه لا ينهض على قيم معيارية حقيقية، فليس ثمة أمام اللعبة الإعلامية، أو حتى المؤسسة الأكاديمية من أسس لتقييم هذا الاسترسال في إطلاق الأعمال والشعراء والكتاب، وإغراق المشهد بهذه الثرثرة الكتابية، وبهذا فإن غياب رقابة نقدية، فضلاً عن تزييف وعي الذوق والتلقي أمسى سمة مشتركة لنموذج إنتاج الأدب أو الإبداع في هذه الأيام.
لا ريب في أن الكتابة ما هي موقف من الحياة، فهي ليست فعل شرح أو ممارسة لتقديم الحياة، وهنا استدعي، على سبيل المثال لا الحصر، بعض الشعراء والروائيين الذين جنحوا إلى حدود الهذيان بحثاً عن جوهر الحياة وكنهها، فهؤلاء لم يكونوا معنيين بتمثيلاتهم في وعي الآلة الإعلامية، إنما كانوا يعايشون الكتابة بوصفها تجسيداً للحياة التي يمقتونها، أو على العكس يعشقونها إلى حد الموت، إن الكتابة كما أراها موقفا متطرفا من العالم، يسعى بكل ما أوتي من قوة إلى تهشيم الحقائق، والمسلمات عبر الخروج من منطقة التوازن إلى حدود تقويض المنطق، هي ليست نزعة رومانسية، بمقدار ما هي نتاج لقدر من الاضطراب الصحي لمن يرغب في أن يكون مبدعاً، فالعالم في نصوص جبرا إبراهيم جبرا ليس سوى صورة عن وعيه تجاه عالمه بكل ما ينطوي عليه من نزعات لفهم الحب والفن والوطن. في حين أن غسان كنفاني كان معنياً بموقف وقضية. ونجيب محفوظ كان يتأمل العالم بوعي فلسفي وتاريخي، في حين أن رامبو وبودلير نموذجان على الكتابة المتطرفة إلى حد الهذيان لإدراك حقيقة الحياة، إنه الموقف من نقض القيم، وليس فقط التصوير، وبناء عليه فهي ليست روح التجسيد بمقدار ما هي رغبة في ردم فجوة عميقة في النفس لا يمكن للواقع أن يتمكن من التعامل معها.
الكتابة هنا لا تستند إلى فعل استقرار كي تتمكن من التوسط بين الواقع والكتابة الإبداعية، أو أن تدرك فتنة أن تكون كاتباً. فالكتابة عبارة عن سد فراغ هائل في الروح والنفس لم تتمكن الحياة أو مقاربتنا الاعتيادية من تقديم الحلول اللازمة له، بحيث لا يمكن أن تجد ضالتك في التصورات الدينية، ولا حتى في التفسيرات الوضعية للحياة، فالشاعر أو المبدع عامة يقف على الحافة ليمضي إلى الجرف وحيداً، أن يمضي إلى تجربته التي لا نعتقد – نحن المتزنين – بجدواها بوصفه خرقا للمنطق، ولعل الروائيين العظماء حتى في أعظم أعمالهم كانوا يكتبون من نزعات لرفض القيمة الكامنة في الحياة بكل ما تحمله من أبعاد، ولنتأمل روايات دستويفسكي، سنجد أنها تنطلق من فراغ عميق يسعى صاحب “الجريمة والعقاب” إلى ردمه بكل ما أوتي من قوة لتفسير النفس البشرية المعقدة والشديدة الغرابة، إنه فقدان الأمل. وليس أدل على طبقات الألم مما نجده لدى همنغواي الذي كانت الكتابة له تعني نقيض الموت، فكان له أن ينتحر حين استشعر فراغا ما حوله.
إن الفنان والشاعر والمبدع ليس التمثيل اللامع القائم على شاشة أو على غلاف كتاب، أو خبر في صحيفة لا مقروءة. إنه ذلك الألم لمعنى أن تدرك أنك موجود في عالم لا تستطيع أن تدرك معناه، هي اشتراطات تبدو أقرب إلى نماذج اللامنتمي، غير أنها تعني بلا شك حقيقة أن تكون مبدعاً حقيقياً، وهذا ليس ترفاً، إنما هو قدر لا فرار منه، لقد مثل انتحار الممثل الأمريكي روبين وليامز دلالة على أن عالم المبدع الداخلي ما هو إلا سر من الأسرار التي لا يمكن للبعض أن يدركها، فمن عدّ نفسه أيقونة لمقاومة الاكتئاب، والدعوة إلى التفاؤل كان في عمقه يقاوم فناءه الداخلي، وفراغه من معاني الحياة، لقد كانت روحه منخورة.
لا شك في أن الأدباء والفنانين الحقيقيين هم الذين يقفون من العالم موقفا أقرب ما يكون إلى نصل السكين، ليس ثمة كتابة بلا دفء أو حرارة، لقد دفعت هزيمة حزيران/يونيو 1967 الروائي الأردني تيسير سبول إلى الانتحار، وهو الذي أبدع رواية “أنت منذ اليوم” التي كانت أقرب إلى قيم التجريب، والثورية – في الشكل والمضمون ـ ولعلها كانت أكثر حداثية من معظم نصوص اليوم التي ليست سوى ثرثرة اعتباطية. لقد كان فلوبير حاضراً في شخصية مدام بوفاري كي يعبر من خلالها عن شيء ما في داخله، لقد حملت الشخصية احتجاج فلوبير، وموقفه القيمي والشعوري من ذاته، ومجتمعه، هذه ليست سوى نماذج، في حين أن هنالك ما زال الكثير لسرده عن طبيعة الإبداع بوصفه حالة إدراك للعالم، ونفيه، لا حالة تموضع في العالم، لقد كانت الكتابة وسيلة للخروج من العالم بكل ما ينطوي عليه من حدود وضيق، بل إن بعض الكتابة قد أتت لتفضي إلى صورة فراغ ما يسكن النفس.
إن الدعوة هنا ليست إلى القيام بخرق النسق الطبيعي لذات المبدع، إنما نعني أن تنطلق الكتابة من وعي عميق بإشكالية العالم، فهي ليست مجرد كتابة على حواف الحياة، وسعياً لتمثل قيم الذات في غرورها الأبدي، وهنا علينا أن نختبر التجربة التي ربما كانت بعض عوامل الإنتاج الكتابي، أو الفني لبعض المبدعين، إذ سنجد أنها على صعيد الواقع تبدو شديدة الضآلة والهامشية على المستوى الفكري والقيمي، فليس ثمة موقف تجاه الجنون بوصفه التمثيل الأمثل، بمقدار ما يرغب بأن يكون شاهدا على الحدث، فهناك رغبة في الحكي، أو إنه الحكي الذي يمكنك من أن تضيف من خلاله إلى ذاتك لقب أديب أو فنان، ولكنك حقيقة لن تكون سوى خبر عابر في سديم الاستهلاك الإعلامي.
القدس العربي