عن أنتلجينسيا : كما دأبت منذ سنوات، أقامت جمعية “ألق” الثقافية ندوتها الوطنية السنويّة حول القصّة القصيرة مؤخرا في تونس 2018. وهي فعالية انطلقت دورتها الأولى سنة 2016 بذات العنوان “الندوة
الوطنيّة للقصّة القصيرة في تونس” .على مدى يومين تناول فيها أكثر من خمسة عشر باحثا وأكاديميا قضايا القصّة القصيرة في تونس في حين استعرض أكثر من ستة قصاصين تجاربهم القصصيّة. في حين كانت الندوة الوطنية الثانية للقصّة القصيرة في تونس بعنوان: “القصّة القصيرة بين مقتضيات جنسها ومسارب الإبداع والتّجديد” وقد تناول فيها الباحثون في أكثر من خمس عشرة مداخلة مختلف الجوانب ذات الصلة بالموضوع. ولئن كانت النّدوة الوطنية الأولى في أفريل 2016 ذات مواضيع تتّصل بالقصّة عموما، في حين كانت النّدوة الوطنية الثانيّة في أفريل 2017 ذات صلة بالجوانب الفنية القصصية المحضة، فإنّ النّدوة الوطنية الثالثة للقصّة القصيرة في تونس التي نظمتها جمعية “ألق” الثقافية بدعم من المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بأريانة وبالشراكة مع جمعية أحبّاء المكتبة المعلوماتية بأريانة يوم 01 ماي 2018 بفضاء المكتبة المعلوماتية بأريانة تونس كان محورها مهمّا للغاية حيث تناولت النّدوة موضوعا شائكا لم يُسبق أن تمّ طرحه وتناوله بهذا العمق حيث كان محور النّدوة “القصّة القصيرة وسائر الفنون جدليّة الاستيعاب والتّوظيف”
وقد كانت جمعية “ألق” الثقافية قد أعلنت منذ نوفمبر 2017 عن موضوع النّدوة وفتحت باب الترشّح للمشاركة أمام الباحثين والأساتذة الجامعيين وأهل الاختصاص وبدأت في استقبال الملخصات ثم تلقّت المداخلات المقبولة كاملة محرّرة جاهزة للنشر قبل الندوة بحوالي خمسة عشر يوما. ولقد تميّزت هذه النّدوة الثالثة – التي أراد لها منظّموها وخاصة منسّقها ورئيس جمعية ألق الثقافية السيّد فتحي بن معمّر أن تكون بداية التحوّل نحو ندوة دولية- بحضور لا فت للشاعر والقاصّ والناقد المغربي عبد الله المتقّي الذي كانت له مداخلة قيّمة.
انتظمت النّدوة يوم الثلاثاء 01 ماي 2018 وقد اشتملت على أريع جلسات علمية. وقد انطلقت بكلمة لمديرة المكتبة المعلوماتية بأريانة التي رحّبت بالحضور وعبّرت عن فخرها باحتضان المؤسسة لمثل هذه الندوات الجادّة في محاولة تأسيس لحركة نقديّة جدّية وواعية. ثمّ تناول الأستاذ فتحي بن معمّر رئيس جمعية ألق الثقافية ومنسّق الندوة ليضع النّدوة في سياقها وليبرز دواعي اختيار الموضوع وحيثيات اختيار المداخلات وفلسفة تقسيم المداخلات على أربع جلسات علمية مثمّنا جهود كلّ الباحثين شاكرا أعضاء الجمعية على ما بذلوه ومختلف الشركاء والمتدخلين على الدّعم الذي وفرّوه لنجاح هذه النّدوة. ثم اعطى إشارة الانطلاق للجلسة العلمية الأولى التي كانت برئاسة الدّكتورة أنديرا راضي المدير الفنّي للجمعية وأستاذة التعبير الدرامي بالجامعة التونسية التي مرّرت الكلمة للأستاذ البشير الجلجلي ليبسط الأرضية التي تسير عليها مختلف المداخلات في الندوة من خلال تقديمه لمداخلة بعنوان”مجالات العبور من القصّ إلى الفنون الأخرى في الأقصوصة في تونس من خلال نماذج”. واستقصاءً لجدلية الاستيعاب والتّوظيف بين القصة القصيرة وسائر الفنون كانت المدخلة الثانية في الجلسة العلمية الأولى للمبدع المغربي عبد الله المتّقي بعنوان “السّرد المرئي، قراءة في تجارب قصصية تونسية” ، تناول من خلالها البعد التشكيلي في قصص محمد بوحوش، نورا الورتاني ، وفاطمة بنمحمود ، في حين أتحف الحضورَ الأستاذُ الدّكتور محمد آيت ميهوب أستاذ السرديات بالجامعة التونسيّة والقصاص والروائي التونسي الموهوب بمداخلة طريفة بعنوان “الشّابي قصّاصا، أوّل حوار أجناسي في الأدب التونسي” حيث أبهر الجمهور بحديث حول نصيين قصصييْن لشاعر تونس أبي القاسم الشّابي مبّينا هذا التأثر و الواضح في هاتين القصتيْن بالشعر وأساليبه ورقّة الشاعر ومذهبه. ولأنّ بين الشّعر والقصّة والأسطورة أكثر من وشيجة ورابطة فقد كانت المداخلة للأستاذ المتميّز محمّد الحبّاسي بعنوان “الأسطوري والشّعري في مجموعة أضاعوني للأزهر الصحراوي” استطاع من خلالها الباحث أن يبيّن باقتدار مدى استفادة القصّة القصيرة من الأسطورة والشّعر ومدى الامتزاج والتعالق بينها لتصبح القصّة أحيانا أسطورة أو اسطورية تتزيّى بلبوس الشّعر والقصّ فتأسر القارئ وتُمتع. ولأنّ القصّة ليست مزاوجة بين الأجناس فحسب فإنّ المداخلة الأخيرة في الجلسة العلمية الأولى للأستاذ الباحث عبد الستّار الجامعي بعنوان ” في بلاغة القصّة التونسية القصيرة، قراءة في الآليات التّداولية والحجاجية ضمن مجموعة “الحياة على حافة الدّنيا” لرشيدة الشارني نموذجا.” وقد استطاع الباحث من خلال قراءة استقصائية أن يبيّن مدى استفادة القصّة من هذه الآليات ومدى قدرة القاصّة على توظيفها واستيعابها لتخلق عالمها القصصي الذي لا يقف عند حدّ الإمتاع بل يركب بالقارئ كما بمنشئ النّص صهوة الإقناع.
بعد استراحة قصيرة انطلقت الجلسة العلمية الثانية برئاسة الأستاذ الحبيب قيش الباحث في تعلميّة السّرد في المدارس الثانوية التونسية الذي أعطى الكلمة للأستاذ عبد الرزاق السومري ليمهّد الطريق لغيره من المتدخلين بعده من خلال مداخلة نظريّة تأطيريّة بعنوان “سرديّة الأقصوصة الجديدة والفنون” والتي من خلالها استطاع أن يوضّح هذا الغدوّ والرّواح بين القصّة والفنون وهذا التّعالق الكبير القائم على تبادل الأدوار بينهما أحيانا، فلا مناص للقصّ من الفنون يتوسّل بها ويُثري ولا استغناء للفنون عن القصّ للحكي والسّرد وما الفنّ إلا ضرب من القصّ وما القصّ إلاّ ضرب من الفنّ. ولتأكيد عمق الصّلة بين الأقصوصة والفنون كانت مداخلة الأستاذ الباحث الجادّ عبد المجيد بلبحري بعنوان “شعرية التّوقيع في الأقصوصة التّونسية، ‘اعتناقات الطين والماء والنّار’ للكاتب التونسي فوزي الديناري” ولقد استطاع من خلالها الباحث استجلاء مواطن التّوقيع الشّعري في المجموعة القصصية وأن يكشف النّقاب عن مدى استفادة الأقصوصة من الشّعر إيقاعا وموسيقى ولغة ومجازا وسحرا. وفي محاولة للكشف عن مدى التقارب والتّشابه بين القصّة القصيرة باعتبارها شريطا لغويا قصيرا والفيلم فقد كانت مداخلة الأستاذ أحمد القاسمي غوصا في القصص لاستجلاء مواطن استيعاب القصّة لتقنيات السينما وتوظيفها من خلال قراءة سيميائية بعنوان “جدل يكسر المصباح” استطاع من خلالها أن يبيّن الكم الهائل الذي توفّره هذه الفنون للقصّ ليكون أمتع وأروع. غير أنّ أكثر أنواع حضور الفنون وتوظيفها واستيعابها نفاذا هي تلك التي تحضر باعتبارها جزءا من القصّ أو موضوعا له وذلك ما استطاع الحاضرون الاطلاع عليه من خلال مداخلة الأستاذة الباحثة المتميّزة والروائية المبدعة جميلة الشريف التي عنونتها بـ”القصّة ترى وجهها في كفّ فنّان، ‘الأنفاق’ لمحمّد أيتميهوب نموذجا” حيث كشفت عن تداخل عجيب بين الفنون في القصّة إلى درجة لا تسمح بالفصل أو بتيّن الحدود بينها. وهذا ما حدا بالباحث والأستاذ الجامعي إلى البحث في “تداخل الخطابات والفنون في الأقصوصة التونسيّة: خرافات نموذجا” وفيها بيّن هذا التّداخل وهذا الثّراء الذي تتوفّر عليه المجموعة من خلال الكمّ الهائل من الخطابات المتنوّعة والفنون المتشاكلة لكي تؤلّف كلاّ ممتعا آسرا ساحرا واصل الحاضرون تبيّنه من خلال مداخلة أخيرة في الجلسة العلمية الثانية للقصّاص والباحث في السرديّات الأستاذ رضا بن صالح من خلال مداخلته “في علاقة القصصي بالتّشكيلي تعاضد أم تضادد”.
بعد فسحة الغداء انطلقت الجلسة العلمية الثالثة بإدارة الأستاذ محمّد العشّي أستاذ اللغة العربية وآدابها الذي وبعد تأطير الجلسة أحال الكلمة للدّكتور ناجي الحجلاوي، الباحث الرّصين الدقيق ليتحدّث في جملة من القضايا ذات الصّلة بالموضوع من خلال مداخلة قيّمة بعنوان “جدل القمع والوضع في اقصوصة الانحناء لبسمة البوعبيدي” في حين تناول الدكتور عثمان أمين في مداخلته “شعرية تعالق الإنسان الصّفر مع الفنون” ليبيّن أصالة العلاقة بين القصّ وسائر الفنون باعتبار الإنسان حكاء بالسليقة. ليترك المجال للغوص في نموذج محدّد للدّكتور فتحي أولاد بوهدّة من خلال مداخلة بعنوان “تطبيق مستويات التحليل السّردي على أقصوصة ‘رجال بلا شمس’ لمحمّد أيتميهوب حيث غاص الباحث في تحليل التقنيات السردية بمختلف مستوياتها ليُظهر مدى تماسك البناء الفنّي في الاقصوصة ليختتم الجلسة العلمية الثالثة الدّكتور محمّد التّومي بمداخلة بعنوان: “التّعالق الأجناسي بين القصّة القصيرة وقصيدة النّثر،’الجمر في سراويلي لإبراهيم الدرغوثي نموذجا’ ومن خلالها استطاع أن يبيّن بجلاء هذه الصلة بين الجنسين من خلال تقنيات عديدة تنتشر هنا وهناك فتضفي على النّص رونقا وتجعله يتضوّع إمتاعا.
بعد الاستراحة التي كانت فسحة للتفاعل والنّقاش بين الحاضرين والمتدخّلين انطلقت الجلسة العلمية الرابعة برئاسة الدّكتور المتميّز محجوب عون. وقد اقتصرت الجلسة الأخيرة على مداخلتين فقط بعد أن تعذّر حضور متدخلين اثنين لظروف قاهرة، الأستاذ سمير بن علي بسبب سفر طارئ وكان سيتدخّل بورقة عنوانها “القصّة القصيرة والاقتباس السينمائي من خلا نماذج” والأستاذ حاتم السالمي الذي تغيّب بسبب ظروف صحية طارئة خضع خلالها إلى إجراء عملية جراحية وكان سيتدخل بورقة عنوانها “كيف نبني قصصيّة الأقصوصة والمراجع بالفنون”. بعد تأطير الجلسة أحال الدكتور محجوب عون الكلمة إلى الباحث الأستاذ عادل الزّارعي الذي تدخل بورقة عنوانها “موت الرواية وميلاد أقصوصة الأقصوصة” والتي من خلالها أبان عن مدى تطوّر القصّة وتأثّرها بمحيطها ذي الإيقاع المتسارع ممّا جعلها تتوسّل بكلّ ما يحقّق هذا الإيقاع المتسارع فيها من فنون. ثمّ أحيلت الكلمة للباحث الأستاذ عمر الساسي ليتحدّث حول أهمّ مراجع القصّ في كل العصور وهو الحكاية الشعبيّة من خلال مداخلة بعنوان “الحكاية الشّعبية أصلا للأقصوصة في المجموعة القصصيّة ‘غبش’ لفتحي جميل”
بعد النّقاش العام الذي أثرى المداخلات ودقّق بعضها من خلال التّعقيبات والاستفسارات والرّدود، أحيلت الكلمة من جديد إلى منسّق النّدوة ومهندسها رئيس جمعية ألق الثقافية الأستاذ الباحث والنّاشط المدني فتحي بن معمّر ليقدّم حوصلة للمداخلات وليشكر جميع المتدخّلين وكافة الساهرين على نجاح هذه النّدوة ويقدّم تهانيه للجميع بالمستوى الراقي والعالي الذي كانت عليه مختلف المداخلات. ثمّ أطلق وعدين:
الأوّل: أنّ أعمال هذه الندّوة الوطنية الثالثة للقصّة القصيرة بتونس ستطبع في كتاب
الثاني: أنّ هذه النّدوة السنويّة ستصير دولية بداية من دورتها الرابعة سنة 2019
وقبل أن يُعلن اختتام النّدوة بصفة رسمية ويدعو الجميع للاستعداد من اليوم للنّدوة الدّولية للقصة القصيرة في السنة المقبلة قام بمعيّة أعضاء الجمعيتيْن بتوزيع شهائد الشّكر والتقدير على جميع الأساتذة ومختلف المشاركين والساهرين على تنظيم النّدوة.