في روايته الصادرة حديثا بعنوان “لمعلم” يلجأ خليل خميس من خلال نمط الرواية السيرية إلى سبر أغوار فترة تاريخية مهمة في تاريخ بلدته والمنطقة العربية ككل، تمتد ما بين أربعينات القرن الماضي حتى السبعينات. وتعد الرواية هي السادسة للكاتب في فن الرواية بالإضافة إلى تجربة وحيدة في القصص القصيرة ليكون ما كتبه إلى الآن سبعة كتب.
تعد هذه الرواية التجربة الثانية للروائي العماني في الرواية السيرية بعد رواية سابقة بعنوان “لن أحمل البندقية”، وعنها يقول “جاءت رواية ‘لمعلم‘ لأجل توثيق مرحلة معينة من التاريخ العماني عايشتها هذه الشخصية بكل تفاصيلها وبالتحديد في القرن العشرين، أي ما بين 1945 و1970، وهي مرحلة خصبة ومهمة في التاريخ الحديث لمنطقة شبه الجزيرة عامة والسلطنة بصفة خاصة، كما أنّ بعض أحداثها التراجيدية قد تتشابه مع الأحداث الحاصلة في الأقطار العربية، لأجل ذلك أردت قراءة هذه المرحلة قراءة تحليلية من خلال هذه الشخصية التي ساهمت أسرتها العريقة في وضع بصماتها السياسية والعلمية والثقافية في التاريخ العماني فخرجت الرواية لتحكي الجوانب الإنسانية والسياسية والاجتماعية والثقافية بلسان حال ‘لمعلم’ وهي الشخصية التي ارتكزت عليها بنية الرواية”.
“لمعلم” الذي اختاره الكاتب عنوانا لروايته، جاء من اللهجة العمانية الدّارجة حيث يُطلق على المُصلح الاجتماعي ومعلم الأطفال والمؤدب في الكتاتيب اسم “لمعلم” بإسقاط الألف، وقد اشتهرت شخصية الرواية بهذا اللقب فأصبح الجميع لا يعرفها إلا به، ومن ثم جاء اختياره لأن تحمل الرواية نفس المسمّى
توظيف التاريخ
يعمد خميس في أعماله الروائية إلى مساءلة الواقع والتاريخ في بلده عمان وسبر أغوار فترات مهمة في التاريخ العماني. يوضح الكاتب أنه بجانب تركيزه على الجانب القطْري أو المحلي في رواياته، ثمة فسيفساء من التنوّع في تناول الكثير من القضايا خارج عُمان كرواية “انتظار” التي تتناول المأساة السورية المخضّبة بالدماء والغربة، وأيضا مجموعته القصصية “عاشق القمر” التي ضمّت بين جنباتها مجموعة من الأقصوصات عن القضية الفلسطينية.
ويلفت الكاتب إلى أن توظيف التاريخ في أعماله الروائية يمثل هامشا من المناورة وتمرير الكثير من النقد والفكر اللذين من الصعب التعبير عنهما تصريحا، لكن التاريخ أيضا يستهويه كثيرا ويرى أننا نمتلك مخزونا ضخما في المنطقة العربية من التاريخ يمكننا أن نستخرج منه دررا من الإبداعات الروائية القيمة، خاصة إذا تم ربطه بالواقع، وهذا ما حاول جاهدا تجسيده في بعض رواياته التي ترشف من عبق التاريخ كرواية “بيعة الروح” و”لن أحمل البندقية” وإحدى ثلاثيات “ثلاثية الصمت” وأخيرا رواية “لمعلم”.
السير أو التاريخ الكلاسيكية وإنما ليحكيها الكاتب بطريقته وأسلوبه ويفكك محتواها ثم يقوم بتجميعها وترميمها بطريقة ذكية تخترق العقول والقلوب معا، وعلينا أن ننتبه إلى أن التاريخ ليس هو البياض الناصع أو المقدّس الذي لا يمكن الاقتراب منه أو مناقشة محتواه، علينا أن نضع أصبعنا على الجوانب المظلمة ونقول: هنا الخلل، وعلى الجوانب المشرقة ونقول: هذا هو الصحيح، كفانا تقديسا للتاريخ كأننا نعبد صنما”.
ينوه خميس بأن الآلية التي تحكم اختياره للفترات التاريخية تعتمد على قوّة الحدث وأهميته، فمثلا من ضمن اختياره للحقبة التاريخية في روايته الأخيرة “لمعلم” أنّه في فترة الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي ونتيجة للمشاكل السياسية والاقتصادية التي كانت تعاني منها عُمان؛ هاجر الكثير من العمانيين للبحث عن لقمة العيش، لقد توزعوا على بعض الأقطار العربية ودول الخليج العربي والهند وشرق أفريقيا وهناك لم تُثنهم جمرة الغربة وآلامها بل استطاعوا أن يضيفوا الكثير إلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هؤلاء الناس الذين تغرّبوا رغم حداثة سنهم ومن ضمنهم شخصية الرواية يعطون دروسا قيّمة وطاقة إيجابية هائلة للأجيال الحالية المصابة بداء الإحباط والكسل والسلبية.
“لن أحمل البندقية” رواية تتعرض لعهد السلطان سعيد بن تيمور، وفي “بيعة الروح” تدور الرواية في عصر اليعاربة، وفي “ثلاثية الصمت” يستعرض الكاتب حقبة ماضية من التاريخ أيضا؛ وهنا يشير إلى أن التاريخ أو توظيف التاريخ يبعد الكاتب العربي عن الوقوع في فخ المباشرة وكذلك المتابعات والملاحقات السياسية والاجتماعية والأمنية أحيانا، ويضيف الكاتب “سيجد التاريخ نافذة له للتعبير عن الواقع المرير، وهي عملية صعبة جدا لأنّ الكاتب بحاجة إلى توثيق معلوماته من مجموعة مصادر ومراجع تاريخية ثم يقوم بتدويرها وربطها بالواقع ولو بخيوط خفية يفهمها القارئ الذكي، ومن أصعب الأمور في التوثيق الجانب الشفهي، ففي رواية ‘لن أحمل البندقية’ استمرت جلسات الاستماع للشخصية التي وظفتها في الرواية بما لا يقل عن تسعة أشهر ثم الرجوع إلى مصادر أخرى للتأكد من تلك المعلومات وإكمال الناقص منها”.
|
جنون كتابي
يرى خميس أن الروائي مثل الشاعر ومثل أي كاتب يمكن أن يستفزّه موضوع أو حدث ما ليحفز قلمه على الكتابة قائلا “لا أبالغ إن قلت إن الجنون الكتابي، إن صح التعبير، يرافقني أنّا ذهبت، أذكر أنّي ذات مرّة قد ذهبت إلى مانيلا عاصمة الفلبين لأمر ما والذي يحتاج إلى بضعة أيام قليلة ثم أعود، لكني وجدت في اليوم الأخير ما يستفزّ قلمي فلم أبرح مانيلا لمدة شهرين حتى انتهيت من كتابة رواية ‘انتظار’، الكتابة هي مهنة المتاعب كما يُقال، فلو علم القارئ التعب والمشقة والإرهاق الذي يعانيه الكاتب حين يكتب أي كتاب أو مقال لرفع له القبّعة احتراما وتقديرا، وأقولها بكل شفافية الكتابة في الوطن العربي لا تطعم صاحبها إلا ما يسد الرمق وربما لا تطعمه شيئا، لكن يكفي أنّ الكاتب يشعر أنّه أزال صخرة كأداء ضمن الصخور التي يشعر بها على صدره حينما ينتهي من كتابة ما وهذه المتعة الأكبر”.
ويستطرد “أؤمن بأنّ الكاتب له دور تنويري وحداثي لا يمكن إنكاره، لذلك من يقرأ التاريخ ويتأمل في الوقت الحاضر سيجد كيف أنّ السلطات السياسية حاولت، ولا تزال، استمالة الكاتب أو ردعه، أي تضعه بين الترغيب والترهيب، لكن لا أرى أنّ الكتابة هي المسؤولة الوحيدة عن كل شيء في المجتمع”.
لا يمكن الفصل بين ذات الكاتب وعمله، فالكاتب، كما يرى خميس، كتلة من المشاعر والأحاسيس ومجموعة من التجارب والخبرات لا يمكن أن ينفك عنها، وشخصية الإنسان فيها الكثير من المجاهل التي يشعر بها المرء ويخوض فيها، وحين يمزج هذا الأمر مع الخيال والمثيولوجيا في العمل الكتابي يولد الإبداع، وأشك في أي كاتب يقول إن نظام الهالة التي تحيط به، كما يسميها علماء النفس، لا تتداخل مع سيلان قلمه؛ فذات الكاتب دائما ما تقفز إلى الأحداث بأقنعة مختلفة وطبعا بنسب متفاوتة.
يُقيّم الروائي العماني المشهد الروائي في بلده بقوله “مازال بخير بل ويتطور من حين إلى آخر، لقد ظهر الكثير من الروائيين والقاصين الشباب والشابات رفدوا الساحة الثقافية المحلية في الفترة الأخيرة بمجموعة جميلة من إصداراتهم، وهذه ظاهرة صحية أتمنى استمرارها وأتمنى في الوقت ذاته دعمها من مختلف الأطراف”.