لماذا لا نُخرج
أسِرتنا خارج بيوتنا لنقضي ليلة تحت نجوم السماء المتلألئة ؟ ما الذي يجعلنا نجزع
حتى ننكمش كل الانكماش داخل أكواخنا ؟أهو الخوف من الظلمة أم من ظلم العباد؟ هذا
السؤال كان يراودني و أنا مازلت صغيرا ،
إن لم أقل السؤال الوحيد الذي علق في ذهني
و أنا أسترجع ذكريات طفولتي. لا يهم ما في الأمر من شاعرية و حس إنساني في الرغبة
بالعيش في أمان وسلام و توق إلى الحرية و الإنعتاق من بعض القيود ؛ وهي على الأقل ،
ما يمكن أن أفسر بها دلالة هذه الأسئلة اليوم، لا حينها! فكل ما يهمني الآن هو التساؤل حول مدى كون هذه الأفكار و التي
تصاحبها دائما مشاعر تعرف استمرارا عند صاحبها ؟ أم أنها لم تعد لها وقع في حياته ،و بالتالي أصبحت مجرد
ذكرى من زمن غابر؟ و من ثم التساؤل عن أفكارنا عموما :هل تعرف تقدما مستمرا أم
أنها تتحول إلى غيرها عبر قطيعة أو طفرة ؟
في تاريخ العلوم بالخصوص ، هناك إشكالية معروفة عند الدارسين له ، وهي المتعلقة
بالكيفية التي تتقدم بها هذه العلوم نفسها
على المستوى التاريخي ؛ فمن يؤمن بـأن العلوم عامة تتقدم بشكل تراكمي و تطوري ، أي
أن كل فكرة تنبني على التي قبلها تصححها ثم تجددها ، و من يعتقد بأن العلوم تتقدم
عبر قطيعة مع الأفكار العلمية السائدة سابقا( البراديغم ) ومن ثم الايمان بأفكار
جديدة مغايرة تماما لما قبلها . ليس حديثنا هنا له علاقة بقضية تقدم العلوم ، ولكن مجرد محاولة
منا استعارة الطريقة التي تقدمنا بالإشارة
إليها حول الكيفية التي تتطور بها هذه العلوم ، إن كانت تصدق على أفكار الانسان ؟ فهل تحافظ أفكارنا و مشاعرنا على نفَس تطوري
أم أنها تتحول في لحظة من اللحظات و بكيفية مفاجئة ، إلى أفكار ومشاعر مختلفة
تماما مع التي قبلها؟
قد يحاججك كل طرف بأدلة من الواقع أو حتى من التاريخ البشري ليؤكد على أطروحته التي يرى أنها من الممكن
تعميميها في قضية تطور الأفكار، فأصحاب النظرة التطورية سيستشهدون بأعظم رجالات
العلم - مادمنا أثرن قضية تاريخ العلوم - "جاليليو" كمثال ،
والذي عرف منذ صغره بولعه و شغفه بالرسم ،خصوصا في ما يتعلق بتقنيات الضوء و الظل
و دراسته للأجسام
ثلاثية الأبعاد؛ هذه المهارات تطورت لديه بشكل ساعدته على صنع التلسكوب، و الذي سيكتشف من خلاله و جود نتوءات
على سطح القمر تشبه التلال و الجبال، في تعارض تام مع أفكار السلطة الكنسية آنذاك؛
وغيرها من الأمثلة كثيرة يمكن استحضارها هنا ، وكأننا عندما نتحدث عن تطور الأفكار
نكون أمام سلسلة طويلة و غير منقطعة تسير وفق خط مستقيم لا يعترضه حاجز و لا مانع ، و حتى وإن حصل ذلك، فهو مجرد حدث عارض.
أما أصحاب النظرة التي تؤمن بالقطيعة ،سيقدمون
أمثلة كذالك من الواقع لا حصر لها؛ كالذي يعتنق أفكارا دينية أو سياسية ، تجده يتحول إلى
نقيضها فيبادر في الدفاع عنها بشراسة ضد تلك الهوية التاريخية التي كان يحملها ما
قبل القطيعة ، كأن يتحول اليساري إلى اليميني أو يتحول الملحد إلى مؤمن أو العكس...
و ما يتبع ذلك من تبدل المشاعر و الأحاسيس .لا نقصد بذلك ، التحول التدريجي عند
البعض لأسباب مفهومة و معقولة عن طريق التعمق في البحث عن
الحقيقة أو ما شابه ذلك ، فذلك هو عين التطور والتقدم ، بل ما يطرأ أحيانا من تغير جذري و قطيعة
كاملة لأسباب مجهولة و غير معروفة حتى عند ذويها وأصحابها ،إن لم نقل
لأسباب فوق طبيعية . وفي هذا الإطار يمكن
ملامسة إحدى القضايا الأساسية في الحياة الدينية للفرد المسلم ألا و هي" التوبة "، و التي تعني
الإنابة و العودة من طريق كان محفوفا
بالمعاصي و الذنوب و الاثام إلى طريق الطهر و الاستقامة و الهدى ، أي الإمتناع عن
فعل كل ما يخالف الشرع في أحكامه سواء على
مستوى العقيدة أو العبادة أو الأخلاق نحو التمسك بمنهج سليم و قويم يرضى عنه الخالق. التوبة في الفلسفة الاسلامية هي
نوع من القطيعة مع المبادئ والأفكار التي كان يحملها الفرد قبل أن يقرر العدول
عنها ليلتزم نفسيا وعقليا بالفكرة الجديدة ثم يتم ترجمتها على مستوى الفعل ؛ إنها
بداية لحياة جديدة مخالفة تماما للتي كانت قبلها . ولنا في السيرة مثال مشهور للصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ إن
التحول الجذري الذي أصاب عمرا جدير بالاهتمام ، فقد كان عازما
على قتل النبي صلى الله عليه و سلم في لحظة من اللحظات ، ثم بعد ذلك يأتيه بعد حين
مستسلما خاضعا معلنا إسلامه أمامه ، بل داعيا
إياه إلى الخروج للطواف على الكعبة معلنا عن دخول الاسلام مرحلة جديدة و هي
مرحلة الجهر بالدعوة ، منهيا بذلك مرحلة
السرية ، حدث هذا كله، بمجرد أن قرأ بعضا من الآيات من القرءان الكريم في بيت أخته
. إنها القطيعة مع أفكار الوثنية من عبادة أصنام
ووأد للبنات وتكريس للظلم ، إلى
فكرة الوحدانية و الدفاع عن كرامة الانسان و الدعوة الى قيام العدل.
إن كانت الأفكار
عموما ، كما رأينا سابقا، يمكن أن تعرف إما استمرارا عند صاحبها و
إما قطيعة و تحولا بصفة فجائية ، فبإمكانها كذلك أن تعرف على نحو ما الأمرين معا
عند نفس الشخص . ففي دراسة متميزة قام بها الدكتور الشريف طاطاو عن الفيلسوف
المسلم روجي غارودي ،توصل إلى أن مسار غارودي الفكري و مشروعه الفلسفي عرف تلك
الصيغتين السابقتين المختلفين في حياته الفكرية ، فمن ناحية شاهد غارودي نوعا من التحول على مستوى اعتناقه للأفكار
الدينية ؛ فخلافا لوالديه الملحدين اعتنق المسيحية في مذهبها البروتستانتي ، وهذا يعني
حسب غارودي إقرارا بأن الإيمان بالله هو وحده من
يمد الحياة نوعا من المعنى. لكن هذا المعنى الذي وجده في المسيحية، لم يكن يلبي كل
الحاجيات الضرورية للإنسان ،مادامت تشبع فقط البعد الروحي وأن للإنسان أبعادا أخرى
يحتاج إلى الاعتناء بها ؛ مما اضطر في مرحلة مقبلة لاعتناق الماركسية كردة فعل على
الامبريالية الرأسمالية التي تسببت في دمار الانسانية و خرابها . غير أن غارودي لن
يقف عند الماركسية كمحطة أخيرة في مساره الفكري، رغم أنه لم يتخلى عنها كلية،
لنجده مرة أخرى يعتنق الاسلام كملجئ أخير يحتضنه ، على اعتباره يمثل بالنسبة إليه
فلسفة للحياة بما يملك من حلول لمشكلات الإنسان الاجتماعية و الاقتصادية و
السياسية وغيرها،و ذلك تم بعد لقائه للمفكر المغربي و الزعيم السياسي علال الفاسي
الذي اكتشف معه الأبعاد الحضارية في الإسلام.
إن كان هذا هو
الجانب المتحول في حياة غارودي الفكرية، فإن هناك جانبا آخرثابت في مساره ،حسب الشريف طاطاو، احتفظ فيه على نفس المبادئ
و القناعات رغم كل تلك التحولات و الانعطافات التي شاهدنا سابقا، و هذا الجانب الثابت
يتمثل في نزعته الانسانية المتجلية في العدالة والحرية وتحقيق كرامة الانسان في
كامل أبعاده ، إن غارودي آمن بقضية الإنسان في كل مرحلة من مراحل حياته، حتى اكتمل
مشروعه الإنساني و أصبح قائما بذاته عند اعتناقه الاسلام عام 1962م.
من خلال كل ما سبق يتبين أن قضية تطور الأفكار قضية صعبة الاستيعاب و
التحكم في خيطها الناظم لما رأينا من تجارب مختلفة ومتنوعة .أما إذا عدنا الى تجربتنا الشخصية خاصة فيما يتعلق بشأن
الفكرة التي كانت تراودني منذ الصغر؛ يمكن أن أقول، أن هناك على الأقل نوع من الاستمرار في تلك المشاعر الانسانية الجياشة وتقدمها و التي تنزع دوما إلى رغبة في عيش مشترك قوامه السلم و
الأمان و المحبة و التعاون بين بني البشر، طبعا كأي إنسان يؤمن بالتكريم الإلهي لهذا النوع ؛
أما فيما يتعلق بقضية إخراج الأسِرة خارج البيت ليلا، ففكرة تبدو أنني قاطعتها منذ
زمن، ليس لأني لم أرغب في قضاء ليلة تحت
النجوم ، بل لكوني أصبحت عاجزا على حمل سريري خارج البيت!
بارك الله فيك
ردحذف