تشترك الفلسفة والعلوم، على الرغم من خلافاتهما العلمانية، في هدف رئيسيٍّ مفادهُ فهمُ العالم ووجودنا فيه. في زمننا، لعب كانط دوراً كبيراً في قراءتنا لما كتبه داروين.
فإذا كانت فلسفة كانط نفسه تتلخص في أسئلة أربع: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ما يجب أن أفعل؟ ما عساي أن أنتظر؟ وما هو الكائن الإنساني؟- وكانت الأسئلة الثلاثة الأولى تقودنا إلى السؤال الرابع، كما أشار كانط نفسه أكثر من مرة، فما من شكٍ، إذاً، أن المشكلة الأساسية للفلسفة ترتبط بعلم تطور الأحياء.
يعود اليوم الناشرون للاهتمام بالمسألة العميقة والحيوية للطبيعة الإنسانية وذلك عبر إصدار كتبٍ متنوعة تتناول ماضي الجنس البشري (إدوارد ويلسون، آليس روبرتس، سانغ هي لي)، إضافة إلى الكتب التي تتناول مستقبلهم المحتمل (ماكس تيغمارك). سنتحدث عن هذا كله، ولكن أولاً سنتطرق إلى عملٍ أكثر شمولاً وتفرداً، وإن كان أكاديمياً، إلا أنه موجهٌ، على أية حال، إلى جميع أنواع الطلاب، بما في ذلك القارئ العام: إنه كتاب (ثلاث عشرة نظرية عن الطبيعة الإنسانية) لمؤلفه ليزلي ستيفنسون بالتعاون مع ثلاثة مؤلفين آخرين. نتعلم في هذا الكتاب، تمثيلاً لا حصراً، أنَّ كونفوشيوس لم يكن متفائلاً مثلما كان يقدِّم نفسه في بعض الأحيان ذلك أنه قال: "على الرغم من أنَّ جميع البشر عاقلون بالقوة، إلا أنَّ هذا نادراً ما يحدث. فالبشر كلهم موجودون في حالة باعثة على الأسى". كونفوشيوس ليس إلا البداية فحسب. يتنقل العمل، بطريقة منهجية وبدمٍ بارد، إلى الهندوسية الإبانشادية التي حددت، بشكلٍ صحيح، الوحدة العميقة لجميع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان. ثم البوذية، التي رفضت فكرة أن يكون الإنسان ذات مستقلة ثابتة ومستمرة. بعد ذلك يأخذنا العمل إلى أفلاطون وتركيبته الثلاثية للروح الخالدة، ثم أرسطو، فالإنجيل، فالإسلام، فالعصور الوسطى، كانط، ماركس، فرويد، سارتر وأخيراً داروين. (تماماً وفق هذا الترتيب).
الجديد في هذا الكتاب هو الفصل الذي كتبه الفيلسوف شارلوت ويت والذي يتناول النظريات النسوية للطبيعة الإنسانية. ندرك مدى الخطر الناجم عندما نطلق أحكامنا على الماضي بعدسة الحاضر، ولكن حقيقة الأمر هي أن كل مراجعة لتاريخ الإنسانية تقوم بها باحثة نسوية ستكشف لها مدى غباء وقصر نظر الفلاسفة الكلاسيكيين، وذلك بسبب أفكارهم المسّبقة غير المفهومة. فها هو روسو، على سبيل المثال لا الحصر، يقول: " وقد تم إثبات أن الرجال والنساء ليسوا ولا يمكن أن يكونوا مخلوقين ولهما الطبيعة نفسها"، مشجعاً بذلك على فكرة أن نوع التربية لن يكون متساوياً بالنسبة إلى الجنسين. وجميعنا يتذكر ما قاله أرسطو في المرأة أنهن "ذكور مشوّهة"، وأنَّ النساء لا يمكنهن الوصول إلى ذروة قدراتهن الإنسانية.
يقول ويت: "آخذين بعين الاعتبار هذا الإرث التاريخي، كان من المعقول أن نطرح سؤال ما إذا كان مفهوم الطبيعة الإنسانية يمكن أن يضيف شيئاً للنظرية النسوية". إنه أمر معقول، لا شك في ذلك، لا سيما أننا لا نزال نعيش في ظل سلطة أرسطو حول هذه القضية. في الواقع، بدأت العمل على حل هذه الطامة الفلسفية الزائفة، في حياة روسو نفسه، رائدة الحركة النسوية المفكرة ماري وولستونكرافت. ففي كتابها (دفاعاً عن حقوق المرأة)، دحضت ماري ما قاله روسو وقدمت حججها لصالح الطبيعة العقلانية للمرأة مطالبةً المساواة في التعليم والحقوق السياسية بين الجنسين، على الرغم من سوء تعليم المرأة؛ الأمر الذي دفعَ المحافظين إلى إطلاق لقب "ضبع بتنّورة "عليها.
في عصرنا الحالي ظهرت ذرية جديدة من الموسوعيين الذين ينتمون إلى حقل العلوم، ولربما كان عميد هؤلاء العباقرة إدوارد ويلسون. ولد ويلسون في بيرمنغهام، ويعتبر اليوم أهم مرجع في علم الأحياء في جامعة هارفرد. تعود شهرته بين الأوساط العلمية إلى عام 1975 عندما نشر كتابه (علم الأحياء الاجتماعي، التركيبة الجديدة)، وهو فرع جديد يبحث في الأساس الجيني للسلوك الإنساني. يطرح الكتاب لأول مرة فكرة أنَّ المبادئ البيولوجية الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الحيوانية يمكن استقراؤها عند البشر. لم يسر هذا الطرح المؤسسة الأكاديمية ولا بعض الأكاديميين المتعصبين لمثل هذه الأفكار من أمثال غولد وليونيتن، لكن الوقت سرعان ما أثبت صواب ما لاحظه ويلسون. أما كتاب ويلسون الأخير تحت عنوان (أصول الإبداع البشري) والذي حمل نبرة نقدية أدهشت النقاد، فيضع فيه العلم والإنسانيات على قدم المساواة لاستجلاء وشرح هذه الظاهرة. يبرهن العبقري ويلسون أن الإبداع هو المزية البيولوجية الوحيدة التي تفصل الجنس الإنساني عن بقية الأحياء، ثم يعالج الموضوع من منظور العلم؛ الذي يدرس كل ما هو ممكن. ثم يدرس الموضوع من وجهة نظر الإنسانيات؛ التي تدرس كل ما يمكن للعقل البشري فهمه وتصوره. قد يخطر في بال القارئ أن العلوم الإنسانية، بطبيعة الحال، تحتل مساحة فكرية أوسع بكثير من العلم، ولكن هذا ليس صحيحاً. فواحدة من الدعائم الأساسية لعلم الفيزياء هي ميكانيكا الكم أو المكيانيكا الكوانتية، والتي تذهب بعيدا جداً عمّا يمكن لعقلنا البشري إدراكه وتصوره. حتى إنّ تعريف هذا الفرع، حقيقة، عصي الفهم على الحدس البشري، والفضل في وصلونا إلى هذا الفرع يعود إلى الرياضيات وإلى المراقبة الدقيقة للعالم. إن هذا الفرع هو أساس عالمنا التكنولوجي القائم على الحوسبة والاتصالات العالمية.
وهنا لا بدّ لنا أن نأخذ بعين الاعتبار ما قاله ميلتون "العقل له مكانه الخاص، وهو نفسه يستطيع أن يجعل من السماء جحيماً ومن الجحيم سماء". وفي هذا الصدد يقول ويلسون "إن هذا التطور المشترك في تركيبة الدماغ ساهم في أن تحررَ اللغةُ عقل الإنسان ليكون مبدعاً، وبالتالي ليتخيل وليدخل في عوالم غير محدودة لا زمانياً ولا مكانياً". إلا أن ويلسون يحذر من أن إبداعاتنا الإنسانية الجديدة شُيدت على المشاعر الدقيقة نفسها التي اختبرها أسلافنا الرئيسيون (بشر وحيوان)، وبالتالي، من هذا التمازج والتجمع خرج أفضل وأسوأ أنواعنا المتناقضة.
منذ أيام كوبرنيكوس والعلم يدفعنا أكثر وأكثر إلى الابتعاد عن الجنة الأرضية التي تصورها الشامانيون القدماء. لطالما عشق جنسنا البشري اعتبار نفسه نواة الخلق، غير أننا اليوم نعرف أن أرضنا هذه ليست مركز النظام الشمسي، وأن النظام الشمسي نفسه ليس مركز مجرة درب التبانة، وأن درب التبانة ليست أكثر من مجرة مبتذلة بين عدد لا محدود من المجرات التي تطوف في هذا الكون الشاسع. حتى إن كوننا نفسه لا يبدو أنه فريدٌ من نوعه، بل يبدو كنسخة محتملة من وجودٍ متعدد الأكوان لا نهائياً. إن هذا الافتراضات ليست كفيلة بإصابتنا بالجنون فحسب، بل تعني أيضاً إذلالاً لا شك فيه لتعالينا الكوني أو الميتافيزيقي.
ولكن لطالما كانت هناك ذريعة، وغالباً ما تستند هذه الذريعة على إدراك عدم احتمالية أننا قد تطورنا. هذا هو المسار الذي اختارته عالمة التشريح والأنثروبولوجيا البريطانية آليس روبرتس في كتابها (لا احتمالية الموجود الخارقة. الماضي والمستقبل). لكي يوجد الإنسان، كان عليه أن يحدث تسلسلٌ من الأحداث الطارئة التي تُعتبر احتمالية حدوثها نادرة جداً. تستعرض لنا الكاتبة أهم هذه الأحداث بدقة عالمة تشريح.
تقول الكاتبة: "قد يبدو لكم سؤالاً غريباً، ولكن هل توقف أحدكم مرةً وفكّر لماذا لديه رأسٌ؟ أن يكون لك رأسٌ يعتبر مطلباً أساسياً بين الفقاريات: سمكة، برمائيات، زواحف، طيور أو حيوان ثديّي. العديد من اللافقاريات أيضاً لها رؤوس، ولكن بعضها لا يملك. من أجل الإجابة على هذا السؤال، سيكون من المفيد جداً أن نعرف في أي لحظة طور أجدادنا هذا العنصر التشريحي". ها نحن هنا نعود مرة جديدة إلى منهج تطور علم الأحياء للإجابة عن أسئلة فلسفية أساسية.
لقد رتبت روبرتس كتابها ليبدو وكأنه رحلة عبر جسم الإنسان وعبر الزمن كذلك. إن كل جزء من جسدنا له أصل تطوري، أو في الواقع عدة، وقد تراكمت واحدة تلو الأخرى إلى أن تم توليد نتيجة من لا احتمالية مذهلة: أصل الجمجمة والحواس؛ الطريقة التي تحولت فيها مجموعة من الأقواس الخيشومية إلى الحنجرة وإلى مفاصل الفكين التي تسمح لنا اليوم بالكلام؛ التنظيم المجزأ للجسم (الفقرات والأضلاع) وعلاقتنا العميقة مع الذباب والحشرات الأخرى والمفصليات؛ الرئة والقلب؛ الجهاز الهضمي؛ الأعضاء التناسلية؛ الأطراف وكل شيء آخر. غير أن ما يعزينا، حقيقةً، هو هذا الشعور المريح من اللا احتمالية. "لا يهم مدى تأقلمك إن وقع عليك نيزك" تقول روبرتس في إشارة منها إلى نيزك تشيكشولوب الذي سقط قبل 66 سنة في شبه جزيرة بوكوتان في خليج المكسيك وتسبّب في انقراض الديناصورات، مسهلاً الطريق أمام تنوع الثديات البدائية في ذلك الحين.
"لو لم يصطدم نيزك تشيكشولوب بالأرض، ربما كان من غير المرجح ظهور البشر على كوكب الأرض" تقول الكاتبة. على أية حال نحن لا نعرف إلا قصة واحدة للحياة في الكون، وهي قصة الأرض، وفي هذه الظروف لا توجد طريقة لحساب احتمالية هذا الأمر. الزمن وحده هو الذي سيحدد ما إذا كانت الحياة-تحديداً الحياة العاقلة- حدث محتمل أم محض معجزة لا أكثر ولا أقل.
حتى هنا كان الماضي. أما المستقبل، أو على الأقل المستقبلات المحتملة، فيتعامل معها الفيزيائي ماكس تيغمارك (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) في كتابه (الحياة ويب 3.0. أن تكون إنساناً في عصر الذكاء الصناعي). إن أي شخص يقرأ صحف اليوم قد يتساءل عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية لهذا التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، أي لمجموعة النظم المصممة ليس للاستغناء عن الإنسان في المجالات الفكرية فحسب، وإنما لتجاوزه أيضاً. تيغمارك، مدير معهد المستقبل وواحدٌ من بين عشرة أشخاص يمكن أن يغيروا العالم، سيكون مرشدنا ودليل أحلامنا في هذه الرحلة الهامة. يقول تيغمارك إن أي كتاب يصدر قد يكون آخر كتاب يكتبه الإنسان، لذلك أدعوكم، أيها البشر، إلى قراءته.
فإذا كانت فلسفة كانط نفسه تتلخص في أسئلة أربع: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ما يجب أن أفعل؟ ما عساي أن أنتظر؟ وما هو الكائن الإنساني؟- وكانت الأسئلة الثلاثة الأولى تقودنا إلى السؤال الرابع، كما أشار كانط نفسه أكثر من مرة، فما من شكٍ، إذاً، أن المشكلة الأساسية للفلسفة ترتبط بعلم تطور الأحياء.
يعود اليوم الناشرون للاهتمام بالمسألة العميقة والحيوية للطبيعة الإنسانية وذلك عبر إصدار كتبٍ متنوعة تتناول ماضي الجنس البشري (إدوارد ويلسون، آليس روبرتس، سانغ هي لي)، إضافة إلى الكتب التي تتناول مستقبلهم المحتمل (ماكس تيغمارك). سنتحدث عن هذا كله، ولكن أولاً سنتطرق إلى عملٍ أكثر شمولاً وتفرداً، وإن كان أكاديمياً، إلا أنه موجهٌ، على أية حال، إلى جميع أنواع الطلاب، بما في ذلك القارئ العام: إنه كتاب (ثلاث عشرة نظرية عن الطبيعة الإنسانية) لمؤلفه ليزلي ستيفنسون بالتعاون مع ثلاثة مؤلفين آخرين. نتعلم في هذا الكتاب، تمثيلاً لا حصراً، أنَّ كونفوشيوس لم يكن متفائلاً مثلما كان يقدِّم نفسه في بعض الأحيان ذلك أنه قال: "على الرغم من أنَّ جميع البشر عاقلون بالقوة، إلا أنَّ هذا نادراً ما يحدث. فالبشر كلهم موجودون في حالة باعثة على الأسى". كونفوشيوس ليس إلا البداية فحسب. يتنقل العمل، بطريقة منهجية وبدمٍ بارد، إلى الهندوسية الإبانشادية التي حددت، بشكلٍ صحيح، الوحدة العميقة لجميع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان. ثم البوذية، التي رفضت فكرة أن يكون الإنسان ذات مستقلة ثابتة ومستمرة. بعد ذلك يأخذنا العمل إلى أفلاطون وتركيبته الثلاثية للروح الخالدة، ثم أرسطو، فالإنجيل، فالإسلام، فالعصور الوسطى، كانط، ماركس، فرويد، سارتر وأخيراً داروين. (تماماً وفق هذا الترتيب).
الجديد في هذا الكتاب هو الفصل الذي كتبه الفيلسوف شارلوت ويت والذي يتناول النظريات النسوية للطبيعة الإنسانية. ندرك مدى الخطر الناجم عندما نطلق أحكامنا على الماضي بعدسة الحاضر، ولكن حقيقة الأمر هي أن كل مراجعة لتاريخ الإنسانية تقوم بها باحثة نسوية ستكشف لها مدى غباء وقصر نظر الفلاسفة الكلاسيكيين، وذلك بسبب أفكارهم المسّبقة غير المفهومة. فها هو روسو، على سبيل المثال لا الحصر، يقول: " وقد تم إثبات أن الرجال والنساء ليسوا ولا يمكن أن يكونوا مخلوقين ولهما الطبيعة نفسها"، مشجعاً بذلك على فكرة أن نوع التربية لن يكون متساوياً بالنسبة إلى الجنسين. وجميعنا يتذكر ما قاله أرسطو في المرأة أنهن "ذكور مشوّهة"، وأنَّ النساء لا يمكنهن الوصول إلى ذروة قدراتهن الإنسانية.
يقول ويت: "آخذين بعين الاعتبار هذا الإرث التاريخي، كان من المعقول أن نطرح سؤال ما إذا كان مفهوم الطبيعة الإنسانية يمكن أن يضيف شيئاً للنظرية النسوية". إنه أمر معقول، لا شك في ذلك، لا سيما أننا لا نزال نعيش في ظل سلطة أرسطو حول هذه القضية. في الواقع، بدأت العمل على حل هذه الطامة الفلسفية الزائفة، في حياة روسو نفسه، رائدة الحركة النسوية المفكرة ماري وولستونكرافت. ففي كتابها (دفاعاً عن حقوق المرأة)، دحضت ماري ما قاله روسو وقدمت حججها لصالح الطبيعة العقلانية للمرأة مطالبةً المساواة في التعليم والحقوق السياسية بين الجنسين، على الرغم من سوء تعليم المرأة؛ الأمر الذي دفعَ المحافظين إلى إطلاق لقب "ضبع بتنّورة "عليها.
في عصرنا الحالي ظهرت ذرية جديدة من الموسوعيين الذين ينتمون إلى حقل العلوم، ولربما كان عميد هؤلاء العباقرة إدوارد ويلسون. ولد ويلسون في بيرمنغهام، ويعتبر اليوم أهم مرجع في علم الأحياء في جامعة هارفرد. تعود شهرته بين الأوساط العلمية إلى عام 1975 عندما نشر كتابه (علم الأحياء الاجتماعي، التركيبة الجديدة)، وهو فرع جديد يبحث في الأساس الجيني للسلوك الإنساني. يطرح الكتاب لأول مرة فكرة أنَّ المبادئ البيولوجية الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الحيوانية يمكن استقراؤها عند البشر. لم يسر هذا الطرح المؤسسة الأكاديمية ولا بعض الأكاديميين المتعصبين لمثل هذه الأفكار من أمثال غولد وليونيتن، لكن الوقت سرعان ما أثبت صواب ما لاحظه ويلسون. أما كتاب ويلسون الأخير تحت عنوان (أصول الإبداع البشري) والذي حمل نبرة نقدية أدهشت النقاد، فيضع فيه العلم والإنسانيات على قدم المساواة لاستجلاء وشرح هذه الظاهرة. يبرهن العبقري ويلسون أن الإبداع هو المزية البيولوجية الوحيدة التي تفصل الجنس الإنساني عن بقية الأحياء، ثم يعالج الموضوع من منظور العلم؛ الذي يدرس كل ما هو ممكن. ثم يدرس الموضوع من وجهة نظر الإنسانيات؛ التي تدرس كل ما يمكن للعقل البشري فهمه وتصوره. قد يخطر في بال القارئ أن العلوم الإنسانية، بطبيعة الحال، تحتل مساحة فكرية أوسع بكثير من العلم، ولكن هذا ليس صحيحاً. فواحدة من الدعائم الأساسية لعلم الفيزياء هي ميكانيكا الكم أو المكيانيكا الكوانتية، والتي تذهب بعيدا جداً عمّا يمكن لعقلنا البشري إدراكه وتصوره. حتى إنّ تعريف هذا الفرع، حقيقة، عصي الفهم على الحدس البشري، والفضل في وصلونا إلى هذا الفرع يعود إلى الرياضيات وإلى المراقبة الدقيقة للعالم. إن هذا الفرع هو أساس عالمنا التكنولوجي القائم على الحوسبة والاتصالات العالمية.
وهنا لا بدّ لنا أن نأخذ بعين الاعتبار ما قاله ميلتون "العقل له مكانه الخاص، وهو نفسه يستطيع أن يجعل من السماء جحيماً ومن الجحيم سماء". وفي هذا الصدد يقول ويلسون "إن هذا التطور المشترك في تركيبة الدماغ ساهم في أن تحررَ اللغةُ عقل الإنسان ليكون مبدعاً، وبالتالي ليتخيل وليدخل في عوالم غير محدودة لا زمانياً ولا مكانياً". إلا أن ويلسون يحذر من أن إبداعاتنا الإنسانية الجديدة شُيدت على المشاعر الدقيقة نفسها التي اختبرها أسلافنا الرئيسيون (بشر وحيوان)، وبالتالي، من هذا التمازج والتجمع خرج أفضل وأسوأ أنواعنا المتناقضة.
منذ أيام كوبرنيكوس والعلم يدفعنا أكثر وأكثر إلى الابتعاد عن الجنة الأرضية التي تصورها الشامانيون القدماء. لطالما عشق جنسنا البشري اعتبار نفسه نواة الخلق، غير أننا اليوم نعرف أن أرضنا هذه ليست مركز النظام الشمسي، وأن النظام الشمسي نفسه ليس مركز مجرة درب التبانة، وأن درب التبانة ليست أكثر من مجرة مبتذلة بين عدد لا محدود من المجرات التي تطوف في هذا الكون الشاسع. حتى إن كوننا نفسه لا يبدو أنه فريدٌ من نوعه، بل يبدو كنسخة محتملة من وجودٍ متعدد الأكوان لا نهائياً. إن هذا الافتراضات ليست كفيلة بإصابتنا بالجنون فحسب، بل تعني أيضاً إذلالاً لا شك فيه لتعالينا الكوني أو الميتافيزيقي.
ولكن لطالما كانت هناك ذريعة، وغالباً ما تستند هذه الذريعة على إدراك عدم احتمالية أننا قد تطورنا. هذا هو المسار الذي اختارته عالمة التشريح والأنثروبولوجيا البريطانية آليس روبرتس في كتابها (لا احتمالية الموجود الخارقة. الماضي والمستقبل). لكي يوجد الإنسان، كان عليه أن يحدث تسلسلٌ من الأحداث الطارئة التي تُعتبر احتمالية حدوثها نادرة جداً. تستعرض لنا الكاتبة أهم هذه الأحداث بدقة عالمة تشريح.
تقول الكاتبة: "قد يبدو لكم سؤالاً غريباً، ولكن هل توقف أحدكم مرةً وفكّر لماذا لديه رأسٌ؟ أن يكون لك رأسٌ يعتبر مطلباً أساسياً بين الفقاريات: سمكة، برمائيات، زواحف، طيور أو حيوان ثديّي. العديد من اللافقاريات أيضاً لها رؤوس، ولكن بعضها لا يملك. من أجل الإجابة على هذا السؤال، سيكون من المفيد جداً أن نعرف في أي لحظة طور أجدادنا هذا العنصر التشريحي". ها نحن هنا نعود مرة جديدة إلى منهج تطور علم الأحياء للإجابة عن أسئلة فلسفية أساسية.
لقد رتبت روبرتس كتابها ليبدو وكأنه رحلة عبر جسم الإنسان وعبر الزمن كذلك. إن كل جزء من جسدنا له أصل تطوري، أو في الواقع عدة، وقد تراكمت واحدة تلو الأخرى إلى أن تم توليد نتيجة من لا احتمالية مذهلة: أصل الجمجمة والحواس؛ الطريقة التي تحولت فيها مجموعة من الأقواس الخيشومية إلى الحنجرة وإلى مفاصل الفكين التي تسمح لنا اليوم بالكلام؛ التنظيم المجزأ للجسم (الفقرات والأضلاع) وعلاقتنا العميقة مع الذباب والحشرات الأخرى والمفصليات؛ الرئة والقلب؛ الجهاز الهضمي؛ الأعضاء التناسلية؛ الأطراف وكل شيء آخر. غير أن ما يعزينا، حقيقةً، هو هذا الشعور المريح من اللا احتمالية. "لا يهم مدى تأقلمك إن وقع عليك نيزك" تقول روبرتس في إشارة منها إلى نيزك تشيكشولوب الذي سقط قبل 66 سنة في شبه جزيرة بوكوتان في خليج المكسيك وتسبّب في انقراض الديناصورات، مسهلاً الطريق أمام تنوع الثديات البدائية في ذلك الحين.
"لو لم يصطدم نيزك تشيكشولوب بالأرض، ربما كان من غير المرجح ظهور البشر على كوكب الأرض" تقول الكاتبة. على أية حال نحن لا نعرف إلا قصة واحدة للحياة في الكون، وهي قصة الأرض، وفي هذه الظروف لا توجد طريقة لحساب احتمالية هذا الأمر. الزمن وحده هو الذي سيحدد ما إذا كانت الحياة-تحديداً الحياة العاقلة- حدث محتمل أم محض معجزة لا أكثر ولا أقل.
حتى هنا كان الماضي. أما المستقبل، أو على الأقل المستقبلات المحتملة، فيتعامل معها الفيزيائي ماكس تيغمارك (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) في كتابه (الحياة ويب 3.0. أن تكون إنساناً في عصر الذكاء الصناعي). إن أي شخص يقرأ صحف اليوم قد يتساءل عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والفلسفية لهذا التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، أي لمجموعة النظم المصممة ليس للاستغناء عن الإنسان في المجالات الفكرية فحسب، وإنما لتجاوزه أيضاً. تيغمارك، مدير معهد المستقبل وواحدٌ من بين عشرة أشخاص يمكن أن يغيروا العالم، سيكون مرشدنا ودليل أحلامنا في هذه الرحلة الهامة. يقول تيغمارك إن أي كتاب يصدر قد يكون آخر كتاب يكتبه الإنسان، لذلك أدعوكم، أيها البشر، إلى قراءته.