أما عن "بغرير
المغاربة"، فهو عربي قح بدليل ما ورد في بعض المعاجم العربية، منها معجم "المعاني"
و"قاموس المعجم الوسيط" اللذان يغرفان "البغرير" بأنه:
"رغيف يحضر بخليط الدقيق بالماء والبيض وقليل من السمن والملح"... وهي
وصفة جامعة مانعة لما يحضر عندنا بالمغرب ونسميه كذلك "البغرير". ولعل
في هذا أبلغ رد لمن يريدون أن يشككوا في "عروبة" الدارجة ويعتبرونها
مزيجا من لهجات وجدت بالمغرب حتى قبل وصول العرب والعربية إليه.
أما عن "بغرير
عيوش" فهو بالأحرى "حريرة" اختلطت فيها العديد من الأهواء والأهداف
والمرامي تصب كلها في ما يعادي الانتماء
العربي الإسلامي لهذا البلد وأهله وتعمل على تقويض هوية عقائدية وأخلاقية تكونت
وترسخت عبر قرون من التواجد والتعايش بين أعراق وعقائد ولهجات وثقافات متعددة
ومختلفة، وهو ما حرص دستور المملكة على التأكيد عليه في ديباجته. "بغرير
عيوش" ليس هو ذاك الرغيف الجميل الذي يزين موائدنا صبيحة الأعياد أو
الاحتفالات أو الاستقبالات العائلية. "بغرير عيوش" هو فقط قنطرة لتمرير
"بغريرات" أخرى تهدد أخلاق المغاربة ومعتقداتهم وما تعارفوا عليه منذ
زمن بعيد بأنه مناف لشرع الله والأخلاق والطبيعة البشرية السليمة، كل ذلك بدعوى
الحداثة والحداثة منه بريئة.
هذا ما جعل العديد من الناس
تنزعج، بحسن نية، من "بغرير عيوش" نظرا لنوايا الرجل المعلنة والمعروفة
سابقا عن الدين واللغة والجنس وغير ذلك من المجالات المحببة لديه ولشيعته، وبدون
أن يعرف أغلب المعترضين أن بعض الكلمات الدارجة المدرجة في المقررات هي عربية قحة
وأن في ذلك جهل مدقع من عيوش ورهطه بتاريخ هذا البلد ولغاته وتراثه الثقافي. ولكن
ردة الفعل الشعبية الرافضة والمتهكمة التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي خير دليل
على أن الناس رأوا في ذلك تطبيقا لما سبق أن دعا له عيوش من ضرورة إحلال الدارجة بدل العربية الفصحى خصوصا في التعليم الابتدائي،
وكان رفضهم لذلك تلقائيا.
"عيوش" ومن يدور في
فلكه يشتغلون ضمن أجندة محددة وخطة محبوكة، وما تم مؤخرا هو دليل على أن موقعهم في
هرم القرار قد يتجاوز وزير التعليم والوزير الأول وكافة المسئولين عن تحديد
واعتماد المقررات الدراسية للتعليم العمومي. إذ كيف يعقل أن يتم ذلك ويخرج إلى
العلن في ظل حكومة لها أغلبية معروفة مرجعيتها العقائدية والتي لا تلتقي بتاتا مع
ما ينادي به ويدعو له "عيوش". وبالتالي نقول للسيد الوزير الأول :
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
------ وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم
ومما يدل على خبث من كانوا
وراء العملية أن الكلمات الدارجة التي أقحمت في المقررات الدراسية لا تشكل في حد
ذاتها أية مشكلة. فكلمات "البغرير" و "المسمن" و
"البريوات" ليست لها ولم تكن لها مرادفات باللغة الفصحى، ولو تم التركيز
عليها لغويا لوجدت لها جذور في اللغة العربية ولتم التأكيد على أنها عربية خالصة.
ثم إنها من صميم ما يتداول خلال الحديث اليومي في الحياة العادية للمغاربة، ولا
ضير في تواجدها في نصوص بالعربية إذا كان ذلك ضروريا سواء بيداغوجيا للتعليم أو
ضمن نص إبداعي وهو كثير ومتداول منذ أمد طويل.
بماذا يمكن إذن تفسير الهبة
الشعبية الرافضة لهذا الأمر والتي أجمع الناس على أنها من فعل "عيوش"
رغم أنه لم يتم الإعلان رسميا عن أي علاقة للرجل بالأمر. ولكن خرجاته الإعلامية
الأخيرة وخصوصا عن عدم قدسية اللغة العربية مثل القرآن وغير ذلك من الترهات تزكي
هذا الاستنتاج التلقائي للرأي العام الوطني بالمغرب بأن عيوش ومن يدور في فلكه هم وراء
هذه الفعلة.
لفهم جانب من مرامي وأهداف
وطريقة عمل عيوش وأتباعه، هذا مقال سابق عن الموضوع كنت قد نشرته منذ سنتين تحت
عنوان "عيوش، كليم السلطان"، بعد خرجة إعلامية له في ظروف مشابهة...
عجمان في 7 سبتمبر 2018
====================================
عيوش ....... "كليم السلطان"
كان لا بد للخرجة الإعلامية
الأخيرة للمشهر نورالدين عيوش بخصوص مجانية التعليم وتركيبة المجلس الأعلى للتعليم
من أن تفرز إلى العلن، إضافة إلى مختلف ردود الفعل، التساؤلات الحقيقية
التي كان يتداولها الجميع بشأنه همسا:
-
هل حقا يتكلم عيوش باسم الدوائر العليا في هذا البلد كما
يحب له أن يوحي بذلك؟
-
وحتى إذا لم يكن الأمر رسميا، هل لدى هذه الدوائر تعاطف
ودعم لأفكار وآراء هذا الرجل؟
-
ما هو تكوين عيوش الأكاديمي الذي يخول له التنظير في مسائل
تهم مصير البلد برمته؟
إلى
غير ذلك من تساؤلات عديدة رافقت كل الخرجات الإعلامية للسيد عيوش.
المشكل بالأساس ليس فيما
يطرحه عيوش من مواقف وأسئلة تكون في غالبها ذات بعد استقرائي للرأي العام وجس لنبض
المجتمع المغربي ومعرفة رأي مكوناته الأساسية حول القضايا التي يطرحها أو يوحى
إليه بطرحها، وهو بالتالي لا يقوم سوى بعمله الرسمي كصاحب وكالة للتواصل والإشهار
تختص من بين ما تقدمه من خدمات بمهمة استطلاع الرأي ومعرفة الاتجاهات السائدة في
المجتمع أو بعض شرائحه حول قضايا معينة. وهو بالتأكيد لا يقوم بذلك مجانا أو بدافع
الصالح العام، بل يرسل فواتيره إلى من يهمه الأمر لاستخلاص مستحقاته عن آخر سنتيم.
ولعل أبلغ دليل على ذلك حملة "2007 دابا" التي لم يعرف إلى الآن حجم
تكاليفها وما نصيب وكالة عيوش منها. هذه الحملة التي كانت تهدف أساسا إلى رفع
مستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات التشريعية سنة 2007 وخصوصا لدى الناخبين
الشباب، ولكن نتائجها جاءت مخيبة للآمال، بل كارثية حسب المتتبعين للشأن الانتخابي
بالمغرب لأنها كانت أدنى نسبة مشاركة عرفها التاريخ السياسي الحديث بالمغرب. ولم
يطالب أي أحد، دولة أو أحزابا أو مجتمعا مدنيا، من المشرف عن هذه الحملة وقتها
السيد نورالدين عيوش بتقديم إيضاحات حول نجاعة حملته وطريقة تواصله مع الناخبين
وتفسير فشله الذريع، بل حتى الأحزاب المغربية التي لها تاريخ عريق في العمل
النيابي بالمغرب، جلس زعماءها وكأن على رؤوسهم الطير في صفوف متراصة أمام السيد
عيوش لكي يلقنهم مبادئ التواصل والعلاقات العامة في مجال السياسة لجلب أكبر عدد من
الشباب إليهم وبالتالي للانتخابات.
لماذا لم يتكلم آنذاك أي واحد
من هؤلاء الساسة وزعماء الأحزاب عن هذا الإخفاق؟
لماذا لم يطلب أي أحد من
وكالة السيد عيوش تقريرا عن مهمته وأسباب فشلها؟
كل هذا حدث فقط لأن السيد
نورالدين عيوش يوحي من خلال حديثه العام والخاص أنه لا يتحرك من تلقاء نفسه وبأنه
أداة لإرادة عليا تستعمل وتستخذم مهاراته التواصلية لإيصال بعض الرسائل أو الإطلاع
على المطالب. وقد تأكد للجميع بعد النتيجة الكارثية لحملة "دابا 2007"
أن باع السيد عيوش في علوم التواصل والتسويق السياسي لا تتجاوز شعارات التهريج
والاحتفالية التي تطبع وصلات الإشهار التجاري بالمغرب بدون أية منهجية أو حرفية في
التواصل السياسي.
وهذا بالفعل هو المشكل
الأساسي مع السيد نورالدين عيوش. إذ ليست طبيعة أو محتوى المواضيع التي يطرح هي
التي تشغل بال الناس، لأن بعضها يكون بالفعل من مواضيع الساعة، بل الطريقة المغلفة
التي يضمنها بعض نظرياته بحيث يعطي الانطباع بأنها من أعلى عليين، وبالتالي غير
قابلة للنقاش أو الطعن. وقد عاينت هذا الالتباس المقصود في خطاب السيد عيوش أثناء
حملة "2007 دابا" في لقاء عقده مع طلبة المعهد العالي للتجارة وإدارة
المقاولات بالدارالبيضاء، تأكد لدي فيه بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل يخاف الجدل
والنقاش ويهرب منهما إلى تضمين خطابه تشفيرات واضحة إلى أن ما يقوله يشاركه فيه
أولو الأمر في هذا البلد وبالتالي لا مجال لنقاشه. وقد كان تعريفه وتحليله لمفهوم
النخبة وتكوين النخب في المجتمعات بصفة عامة في هذا اللقاء سطحيا ومجرد إسقاطات
لتعريفات ونظريات متداولة في المجتمع الغربي وخصوصا فرنسا التي شكلت المرجعية
الفكرية للسيد عيوش خلال كل أطوار المحاضرة والنقاش. وتساءلت بيني وبين نفسي عن
المستوى الأكاديمي لهذا الرجل الذي يعيث في النظريات السياسية والاجتماعية عبثا
بسطحية مستفزة. وخلال النقاش العام الذي
تلا المحاضرة، كان السيد عيوش دائما يكثر من عبارات: "قال
لي..."، "قلت له...."، "قيل لي....." ، "قالوا
لي"، "قلت لهم....."، وذلك بطريقة ماكرة توحي لجمهور المستمعين على أن الرجل ما هو إلا
رسول يبلغ ما سمعه وما طلب منه إبلاغه للناس. سألت الرجل خلال هذا النقاش عن صلاحية إسقاط تعريفات جاهزة ومستقاة من
الحياة السياسية الفرنسية على الواقع السياسي المغربي مع البون الشاسع بينهما،
وخصوصا فيما يتعلق بميكانيزمات إنتاج النخب سواء داخل المجتمع أو الأحزاب السياسية
نفسها والتي تفتقد، في حالة المغرب، إلى ممارسات ديمقراطية داخل هذه الأحزاب تسمح
بإفراز نخب جديدة، فبالأحرى داخل المجتمع بصفة عامة. كان رده نوعا من السفسطة
اللغوية تيقنت معها أن صاحبنا يريد فقط أن يقول للشباب الحاضرين ما معناه: انخرطوا
في الأحزاب، وشاركوا في الانتخابات لأن أولي الأمر يريدون منكم ذلك.
بعد هذا اللقاء الوحيد
المباشر بالسيد عيوش، ونتيجة حملته الكارثية بعد الانتخابات، توقعت أن يطالب
المجتمع السياسي وخصوصا زعماء الأحزاب الرجل بتفسير لما حدث، وبأن تتم محاسبته عن
هذا الإخفاق بالنظر إلى الأموال الطائلة التي صرفت على حملته، ولكن ذلك لم يحدث.
وتلك إحدى خصائص الاستثناء المغربي.
الهدف الحقيقي وراء دعوة
"الدارجة":
ثم كانت قضية
"الدارجة" التي هي بكل تأكيد بالون اختبار لمعرفة رد فعل المجتمع حول
هذه المسألة، والتي أثارت ومازالت تثير ردودا أغلبها مستنكرة. إلا أن أغلب هذه
الردود لم تتطرق إلى نقطة أساسية أعتقد أنها الحافز الأساسي الذي يحرك السيد عيوش
كمهني في الدعاية والإشهار، وهي التي تهمه أكثر مما يدعيه من قلق واهتمام بمستوى
التعليم الأساسي العمومي. وهكذا فإنه إذا تفحصنا كل الإعلانات التي تنتجها وكالة
السيد عيوش سواء المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، لن نجد فيها مطلقا أي مكان للغة
العربية الفصحى. بل وأصبحت ظاهرة كتابة الإشهار التجاري باللغة الدارجة على
اللوحات الإعلانية التي تملأ فضاء المدن شيئا عاديا. كما أن جل حوارات الأفلام
الدعائية التي تذاع على التلفزيون هي بالدارجة ونادرا ما تتم إذاعة أو نشر إشهار
باللغة العربية الفصحى. لذا فإن السيد عيوش له مصلحة كبيرة، تجارية بالأساس، في
توسيع قاعدة المتلقين لرسائله الإشهارية، لأن عدد المشاهدين أو المستمعين في عالم
الاتصال والإعلام يعتبر عاملا مهما في تحديد نجاح أي رسالة إشهارية وبالتالي
مردوديتها المالية. فالقضية لها بعد تجاري لا غبار عليه. ولأن الشركات التجارية
الخاصة تبحث من خلال الإشهار والحملات الإعلانية إلى التعريف بمنتوجها لدى أكبر
عدد ممكن من المستهلكين فإنه يمكن تفهم استعمال "الدارجة" كلغة تخاطب في
الوصلات الإشهارية المرئية والمسموعة وحتى المقروءة لهذه الشركات، ولكن ما لا يمكن
تبريره هو قيام بعض المؤسسات والإدارات الحكومية بنشر إعلانات مدفوعة الأجر في
لوحات إشهارية تملأ فضاء المدن المغربية أو على صفحات الجرائد والمجلات بلهجة
هجينة تحتقر اللغة الرسمية للدولة، وفي مخالفة صريحة لبنود الدستور الذي حدد
اللغات واللهجات المعتمدة في البلاد. وبالتالي من الطبيعي أن تتم المطالبة بتجريم
هذا الخرق السافر لمقتضيات الدستور من طرف بعض المؤسسات الرسمية وسن قانون يمنع
ذلك ويعاقب عليه.
البعد البيداغوجي
ل"الدارجة":
اللهجة "الدارجة"
وسيلة تخاطب وتواصل شفهي بامتياز، فهي سهلة ومرنة ولا تحتاج لتعقيدات النحو والصرف
لاستعمالها مع جميع الشرائح الاجتماعية ومن مختلف الأعمار والمستويات الثقافية.
وقد كان لانطلاق المحطات الإذاعية الخاصة في المغرب واعتمادها اللهجة الدارجة في
مخاطبة المستمعين، وخصوصا قراءة الأخبار والبرامج الحوارية، الدور الكبير في
انتشار استعمالها في المجال السمعي والبصري بصفة خاصة. هذا النجاح الباهر
والانتشار الواسع سمحا لقطاعات عديدة من الناس كانت شبه مقصية تماما من الفضاء
الإعلامي أن تشارك فيه مشاركة فعلية وفعالة، خصوصا بالهاتف، في مختلف البرامج
الحوارية التي تشكل الحيز الأكبر من فترات البث لدى هذه المحطات. هذه الوضعية وما
ترتب عليها من فورة إشهارية أسالت لعاب الشركات التجارية للتواصل مباشرة وبلهجة
بسيطة مع قطاعات واسعة من المستهلكين وزبنائها المحتملين، ودفعت البعض من وكالات
الإشهار إلى اعتماد نفس اللهجة حتى في الإعلانات المكتوبة مع استعمال الحروف
العربية، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى استخدام لغة هجينة اختلطت فيها الحروف العربية
واللاتينية والأرقام على شاكلة ما يكتب في الرسائل القصيرة الهاتفية أو على
الأنترنت. وهنا يكمن المشكل الذي يهدد اللغة العربية الفصحى وذلك باستبدالها في الكتابة
بلهجة عامية، وجدت أساسا للتخاطب والتواصل الشفهي فقط. بل حتى الاستعمالات
الإبداعية للدارجة في بعض الأعمال الأدبية مثل الروايات والمسرحيات وغيرها هي
مبررة لغويا وإبداعيا لأنها داخل نسق طبيعي لا يرمي إلى تدمير مكانة العربية
الفصحى عن قصد وسبق إصرار، بل يزيد من جمالية المنتوج الأدبي. ولا ننسى أن أحد أهم
الفنون الشعرية والغنائية في التراث المغربي هي مدونة بالدارجة وذلك لحفظها
وتوثيقها للدراسة والنشر. ويتعلق الأمر بشعر "الملحون" المغربي الذي هو
نسخة راقية من الدارجة تكاد تضاهي في العديد من جملها وصورها الشعرية ما جاءت به
أمهات قصائد القريض العربي الفصيح.
أما في المجال التعليمي،
فلابد من الإشارة إلى أن استعمال الدارجة في التعليم بصفة عامة هو أمر شائع منذ
زمن طويل. بل أن العديد من رجال التعليم اكتشفوا مزايا الدارجة كوسيلة تخاطب سهلة
تمكن من شرح أعقد النظريات العلمية وتبسيطها للتلاميذ. وتكاد تكون أغلب الحوارات
العادية التي تدور داخل الأقسام على اختلاف مستوياتها بين المعلم أو الأستاذ
المغربي والتلاميذ والطلبة تكون بالدارجة، بينما يتم تدوين الدرس باللغة العربية
الفصحى أو الفرنسية حسب نوعية الموضوع. وعليه فإنه صحيح من وجهة نظر بيداغوجية أن
الدارجة تساهم في تفسير وشرح بعض الدروس، ولكن الطلبة يكونون قد اكتسبوا خلال
التعليم الأساسي ما يكفي من أدوات اللغة الفصحى لكي يفهموا بعد ذلك الدرس خلال
كتابته وتدوينه. وبالتالي، فإن السيد عيوش لم يأت بجديد حول استعمال الدارجة في الفصول
الدراسية، ولكن خطورة دعوته تكمن في أنه يطلب بإحلال الدارجة محل العربية خلال
التعليم الأساسي وبالتالي إنتاج أجيال لا تفهم ولا تقرأ سوى لغة الإشهار
والإعلانات المتداولة حاليا. وإذا
كان المقصود باستعمال الدارجة في الخطاب العمومي هو إدماج من لا يعرف القراءة
والكتابة، فما هو الداعي إلى كتابة "الدارجة" مادام أن الكتابة موجهة
أساسا للذين يعرفون القراءة والكتابة وبالتالي يمكن الكتابة لهم بلغة عربية فصحى
مبسطة وسهلة، إلا إذا كان الغرض من هذه الدعوة شيء آخر لا يعلن عنه أصحابه.
ويستند العديد من أمثال السيد عيوش في دعواهم
إلى المستوى الحالي المتدني للتعليم العمومي لتبرير مطلبهم بإعادة النظر في
استعمال اللغة العربية، وهي دعوى حق يراد بها باطل، لأنه لا يختلف اثنان في أن
المستوى العام للتعليم العمومي من الابتدائي إلى الثانوي عرف تقهقرا مريعا نتيجة
اعتماد مقاربة سياسوية في تعريب تدريس المواد العلمية بالتعليم العمومي، وهذا ما
جعل اللغة العربية مشجبا علقت عليه مسئولية هذا التدهور، وهذا في حد ذاته تجني
واضح إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار الظروف والملابسات السياسية التي صاحبت هذا القرار
الجائر الذي ألحق بالتعليم العمومي تدميرا هائلا.
التعريب في التعليم العمومي،...... بين البيداغوجية والديماغوجية
كان التعريب، بصفة عامة، أحد المطالب الرئيسية التي
رفعتها الحركة الوطنية بالمغرب أثناء الحماية الفرنسية كجزء من مقاومة المحاولات الاستعمارية لطمس الهوية
الوطنية وفرض هيمنة لغة وثقافة المستعمر.
وبعد الاستقلال، ظل مبدأ التعريب حاضرا دائما
في أدبيات ومطالب القوى السياسية الوطنية كتأكيد على استكمال التحرر الوطني ورمز
للسيادة الوطنية، وتم على إثر ذلك تعريب بعض مصالح الإدارة العمومية، بينما ظل
أغلب القطاع الخاص وخصوصا التجاري والصناعي والمالي والخدماتي يستعمل الفرنسية
كلغة عمل أساسية نظرا لارتباطاته المهنية مع الأسواق الأوربية وفرنسا بالخصوص،
ولأن الشركات الفرنسية أو فروعها كانت ماتزال تهيمن على الاقتصاد المغربي بصفة
عامة.
وقد احتكرت بعض القوى السياسية مطلب التعريب، وجعلت منه
عصب لائحة مطالبها السياسية في مفاوضاتها مع الحكم، واقتصر مطلب التعريب في هذه
الفترة على مجال التعليم دون غيره من المجالات الأخرى كالصناعة والتجارة والأبناك
والخدمات بصفة عامة. وفيما اعتبر آنذاك
صفقة سياسية، التحق الحزب الذي حمل لواء التعريب بالحكومة، وكانت وزارة التعليم من
ضمن الحقائب الوزارية التي نالها، وتم بالفعل إقرار تدريس جميع العلوم باللغة
العربية إلى غاية الباكالوريا، على أن تتم دراسة وإقرار تعريب التدريس الجامعي
لاحقا، وهو ما لم يتم إلى يومنا هذا، ويبدو أنه لن يرى النور أبدا.
من خلال تتبع المراحل التي قطعها مسلسل التعريب بصفة
عامة ، وتدريس المواد العلمية على الخصوص ،
وبالنظر إلى النتائج الكارثية التي ترتبت عنه فيما يخص مستوى التعليم العمومي الذي
لايختلف اثنان على ضعف وانحدار مستواه بشكل مريع منذ بداية التجربة ، فإنه يبدو أن
الأمر لم يكن أكثر من مطلب ديماغوجي لبس قناع الوطنية وحماية الهوية من أجل أهداف
سياسوية على حساب مصالح شرائح عديدة من الأطفال والتلاميذ الذين سيجدون أنفسهم
محاصرين بتعليم ابتدائي وثانوي لا يؤهلهم لولوج معاهد علمية عليا بالمغرب فبالأحرى
بالخارج ، بل لا يمكنهم حتى من الأدوات
الضرورية لولوج سوق العمل في مستوى
الباكالوريا كما هو الحال بالنسبة للعديد منهم.
فالنظام التعليمي العمومي المطبق حاليا يفرز أغلبية
لاتحسن لا العربية ولا الفرنسية، مما اضطر العديد من الآباء ذوي الدخل المحدود إلى
توجيه أبنائهم نحو التعليم الخاص، والذي كان في وقت من الأوقات ملجأ للذين لفظهم
التعليم العمومي، الذي أعطى لهذه البلاد خيرة أطرها وأدبائها ومفكريها. بل حتى
مجانية هذا التعليم والتي كانت مكسبا ناضل من أجله مناضلون وحقوقيون منذ فجر
الاستقلال، أصبحت الآن موضع شك وتساءل بعدما راج من أخبار حول توصية المجلس الأعلى
للتعليم بإلغائها.
وبالتالي فإن بعض فصول المؤامرة على اللغة العربية،
والتي هي فعلا رمز هويتنا وانتمائنا، تهدف بشكل مبطن إلى جعلها مشجبا تعلق عليه
مسئولية انحدار مستوى التعليم العمومي.
ورغم هذه الرمزية المقدسة للغة العربية، ولأن ظروف إقرار
تعليم المواد العلمية بالعربية تم دون مراعاة استحالة تعريب التعليم العلمي
بالجامعة، ولأن الارتباطات الاقتصادية الدولية للمغرب واستحقاقات العولمة وثورة
مجال المعلوميات والاتصال تجعل من الصعب بل من المستحيل التفكير في تعريب القطاع
الخاص بكل مكوناته. فإن مواصلة تعليم المواد العلمية باللغة العربية في المرحلتين
الابتدائية والثانوية دون الجامعية يعد عملية إقصاء ممنهجة لأجيال عديدة من الشباب
المغربي وخصوصا أبناء العائلات الفقيرة والمحدودة الدخل والتي لن تستطيع تغطية
تكاليف تعليم أبنائها بالقطاع الخاص الذي أصبحت تكاليف الالتحاق به تؤرق بال حتى
ذوي الدخل المتوسط وبعض شرائح الأطر العليا، نظرا لغياب أي إطار قانوني ينظم ويقنن
مستوى أسعار ولوج بعض المعاهد الخاصة، التي تعرف زيادات موسمية صاروخية دون الرجوع
إلى أية مرجعية قانونية أو مسطرية رسمية.
لكل هذه
الاعتبارات وغيرها، فإنه كان الضروري أن تتم إعادة النظر في تدريس العلوم باللغة
العربية في التعليم العمومي، على اعتبار أن ما كان مبرمجا منذ الأول بتعريب تعليم
نفس المواد بالجامعة لن يتم أبدا، ولأن الظروف السياسية تغيرت بشكل أصبحت معه
القوى السياسية التي راهنت على هذا المطلب سابقا، في وضع لا يسمح لها بفرضه أو
بالمساومة عليه، ولأن مستوى التعليم العمومي حاليا ينذر بكارثة تربوية ستزيد من
تأزم أوضاع أجيال عديدة من التلاميذ وترمي بأغلبهم إلى براثن الجهل والبطالة، ومن
ثم إلى مزالق أخرى قد تهدد الأمن والسلم الاجتماعي
للوطن كله. وهذا ما دفع بالسلطات الوصية على التعليم العمومي بأن تعيد تدريس
المواد العلمية باللغة الفرنسية كما كان الحال عليه قبل إقرار التعريب
"التعسفي" لها.
المؤامرة..... فصول
ويبدو جليا لكل متتبع للتقلبات والتطورات التي عرفها
التعليم العمومي بالمغرب، وخصوصا الأساسي والثانوي منه، أن دعوى إدماج الدارجة في
التعليم العمومي تأتي في نفس السياق السياسي والاجتماعي الذي عرفته عملية تعريب
تعليم العلوم فيما قبل المرحلة الجامعية، فإنها ترمي من بين ما ترمي إليه إلى
إضعاف التعليم العمومي وتبخيسه لدفع الآباء قسرا إلى توجيه أبنائهم نحو التعليم
الخاص، وهو الهدف الذي سطر له، مع الأسف، حتى بعض الوزراء المنتمين للتيارات
السياسية المحسوبة تقليديا على اليسار المغربي، والتي كانت دائما ترفع شعار تطوير
التعليم العمومي والنهوض به. بل كانت دعوى تخفيض النفقات في ميزانية التعليم هي
النبراس الوحيد الذي اتبعه بنجاح كل الوزراء على اختلاف مذاهبهم السياسية عملا
بنصائح بعض المؤسسات المالية الدولية. وكنتيجة لهذه السياسات اللاشعبية تدهور
التعليم العمومي واضطر الآباء إلى توجيه أبنائهم إلى المدارس الخاصة طمعا في تعليم
أفضل يؤهلهم لارتياد جامعات ومعاهد عليا خارج المغرب، علما بأن تلاميذ التعليم
العمومي الحاصلين على الباكالوريا أصبحوا مطالبين باجتياز امتحان لاختبار مستواهم
في اللغة الفرنسية قبل التسجيل في أي جامعة أو معهد عال بفرنسا، وسارت على نفس
المنوال أغلب الدول التي يتوجه إليها الطلبة المغاربة للدراسة الجامعية.
فاقد الشيء .... لا يعطيه.
وفي النهاية، فإننا لا نملك سوى الاعتراف مع
"عيوش" بضرورة تخليص المجلس الأعلى للتعليم من بعض الرواسب التي تعيق
عمله، وأن تكون المعايير المحددة لاختيارهم مبنية أساسا على المهنية والخبرة
والتجربة الطويلة في الميدان. وبالتالي نطرح سؤالا بسيطا على السي "عيوش"
: ما هي مؤهلاته الأكاديمية وخبرته
وتجربته التربوية التي تؤهله لتبوء مقعد في هذا المجلس.
كيف يسمح لنفسه بالتطاول على أعضاء المجلس الأعلى
للتعليم، ويطعن في أهليتهم؟
هل يمكن للسيد "عيوش" أن تتوفر فيه الشجاعة
الأدبية بأن ينشر على الملأ سيرته الأكاديمية منذ حصوله على البكالوريا للتأكد من
أهليته للخوض في مسائل التعليم وتدريس الدارجة وتأليف قواميس لها؟
المأساة في كل هذا، أن كل هؤلاء الذين تطاول عليهم السيد
"عيوش" لن يحركوا ساكنا، كما فعل سابقا الزعماء السياسيون الذين جلسوا
أمامه كتلاميذ لتلقي مبادئ التسويق السياسي. ونسي كل هؤلاء مقولة قديمة تعلمناها
في المدرسة العمومية، وهي تقول: "فاقد الشيء لا يعطيه" .
عزيز رزنارة
الشارقة 11 ديسمبر 2016