"مقامات الاحتراق"
وسيمفونية العشق "قراءة مشاهداتيّة" في قصص سناء الشعلان
بقلم : حاتم عبد الهادي السيد
عضو اتحاد كتاب مصر/ رئيس رابطة الأدباء العرب
وعبر المقامات:"المتن والهامش"، تحيلنا إلى إحالات
واصفة، وتوضيحات متتابعة، ثم تنتقل بنا إلى حياتنا، ذواتنا/مجتمعاتنا/العالم، وكأنها
تخاطب الروح الإنسانية من خلال سردها الغنى، المكتنز، الشاهق، الابيجرامي، الاختزالي،
التراكبي، وعبر الانزياحات تحيلنا إلى فضاءات وإشاريات لخلف ظاهر النص السردي، وكصوفيّة
عاشقة، تعبر بنا حدائق الوجد إلى مقامات العشق، حيث الحبيب/العاشق الذي يعرف
تفاصيل خبيئتها، وجغرافيا الجسد وتضاريسه الشائقة، إلاّ أنّه بعد أن يمضى ليلته
معها نراه ينسلّ في هدوء، ليذهب بعد ذلك الى فراش زوجته ، متعطشاً لممارسة الحب
أيضاً ، وكأنه مقرر حياتي، زير نساء كبير، تقول: "أمضى ليلة في حضن سمرائه
الصغيرة، لا يذكر تماماً أين قابلها، لكنه يحفظ جيداً جغرافيا جسدها، شرب منها حتى
الثمالة، وانسل من جانبها، ليسدر في فراش زوجته التي طال انتظارها له، التصق بها، وقال
بحروف الارتواء الولهى:" أنا عطشان إليك" (المجموعة،ص:8).
إنّها تتحرق شوقا للقياه ، تحترق لذهابه في نفس الوقت
عبر لغة الجسد الايروتيكية المموسقة تكمل
مقاماتها الصغيرة، الابيجرامية التي تختزل مواقف مجتمعية كثيرة، وتعرض لنا صوراً
مشاهداتية للتقارن، والتضام، والتقارن على حدّ تعبير "سوزان سونتاج"، وقراءاتهاالجديدة.
ومن مقام
الشوق، إلى مقام الموت:(موت الأم)، الى مقام الغياب:(حيث الأب الذى يبحث عن ولده
الوحيد الغائب، وعندما وجده في صورة أخرى لم تسره، وجدناه يعود من جديد ليبحث عن
ابنه الذي وجده، ثم إلى مقام:التمنيّ، الزهد، الخيانة، التضحية، الحياء، الوفاء، ومقام
الحرمان، الغيرة، الشرف، التجربة، الحقائق، الاجتهاد، الصفاء، الاخوّة، مقام الثورة،
مقام التوحد. وعبر هذه الإشراقات والسّرد المكثف، الابيجرامي للأحداث المتغايرة، المتقاطعة
، تقدم لنا /سناء الشعلان، الساردة، مواقف مجتمعية وصوراً مشاهداتية لنتقارن، ونتضام
معها، نتوحّد عبر المواقف الإنسانية الكبرى.
ثم نراها تنتقل بنا من صحراء الى سماوات، كصوفيّ عابدة، أو كفراشة في حديقة الجمال الإنساني: من
المقامات الى الأسفار، وكأنها تطرح صوفية جديدة تخصّها، وحدها، عبر المشاهداتية ، والوصف
السيميائي، دون أن تتدخل في مسيرة السرد المتنامى، وفى هذه الأسفار تبتكر/ الشعلان
شكلانية جديدة لمسرد حكاياتها القصصية، فالمقامات كانت موزعة – من قبل – على تسع
عشرة مشهداً تغايرياً، والأسفار مثل (سفر الجنون) موزع على عدة أقسام فرعية: الجسد
المجنون، قلب مجنون، عنبر رقم (9)، لحظة عقل، ليلة ماطرة تقريبا، خطوة واحدة، مسابقة
شعرية، فقدان توازن، الحالة المرضية رقم (100)، سفر الجنون، وهى عبر المقامات
والأسفار:"رآها تذيّلهما بعبارات ضمنية، احالية.فالمقامات تنسبها الى
"سمعان الأطرش"، الذي وصفته بأنه: "كان سيعطى .. لو سمع".
وفى قصتها:" هدية الإله" تؤكد هذه التجديدية
الشكلانية، الإحالية، فتضيف إلى العنوان جملة :" قراءة في مخطوطة سفر
العاشقين"، ثم تردف لنا في التذييل :( تحقيق فضيلة العلامة إنسان بن إسان بن إنسان
أطال الله بقاءه) وكأنها تتخلى عن شخصية الراوى العليم لتحيلنا – عبر المفارقة الدالة-الى
تهويمات وإحالات تخصّ "إنسان بن إنسان"، وكأنها تحكى قصة الإنسانية،
إلاّ أنّها بلغة تمايزية، وبإشارية دالة وجدناها تقدم التغايرية عبر سرد راق مهذب،
تقول عن المرأة أنها كائن عجيب، خلقها الإله
في لحظة تجلى، وتظل تسرد لنا ماهية المرأة فتقول، كفيلسوفة عارفة بخبايا الذات، بخبيئة
الأسرار: "إنّ الإله قد خلقها في لحظة تجلّ ورضا، وعلى أنه جعلها خلاصة إبداعه،
وشبيه كل مخلوقاته، فأخذ من البحر هديره، ومن السماء كرمها، ومن الأرض حنانها، ومن
الشجر حنينها، ومن الشمس وهجها، ومن الوحوش غضبتها.. ومن الزهور أريجها، ومن الماء
عذوبته، ومزجها جميعا، ونفث فيها من روحه، فكانت المرأة.وأهداها للرجل الأول، الذي
لا تذكر الأسطورة شيئا عنه سوى أنه كان كثير التذمّر، ولا يقدّر هدايا الإله، ويعيش
وحدة خرافية."( المجموعة القصصية ،ص:60).
ومع إنصافها للمرأة، ووصف جوهر خلقها، نراها تقرّ بأنّ
الإله أهداها للرجل منذ بدء التكوين، وتصف ذكوريته بأنه كثير التذمر، فهو كائن
وحيد يعيش وحدة خرافية، إلى أن جاءته المرأة، فاكتمل نصف التفاحة الرائعة .
ومع هذه النظرة المحايثة للرجل، وذلك السرد الخطابي، نراها
تؤكد تقريرية مقصودة، وربما كان هذا سمت بعض مسرودات القصص لديها، لكنها – فيما
يبدو وأحسب- أنها تفعل ذلك بوعي، وقصديّة، أو لربما تريد تأكيد حقيقة ما، وهذا
لعمري قد يخرج السرد عن مسيرته المتنامية، عبر هارمونية اللغة السلسلة المنهمرة من
شلال فيزيقى، فيزيائي، غاية في السموق والروعة كذلك. ولكننا عبر - تيار الوعي –، يمكن أن نلمح إدهاشية قصديّة الحقيقة التقريرية
التي تتغيّاها، فكانت المفارقة، والإزاحة في إبداء وجهة نظرها، نظر الراوي/
الساردة، عبر لغة شاعرة، وإلاّ لما عاد الرجل ليطلب من الإله أن يأخذ هديّته، بعد
أن نغّصت عليه حياته، وكأنها تستعيد قصة الخلق الأولى، حيث : "آدم وحواء"، وخروجه من الجنة بسبب
المرأة. لكنها هنا تسرد ذاتها المهراقة على بوابات العالم التخيليية التي أحالتنا
اليها، عبر المثيولوجيا، فجاءت الرموز الرياضية ( مخطوطة ح / ب1)، ثم تلتها بأخرى
تالية، التي ذيلتها بعبارة: "تستكمل هذه المخطوطة ما سقط من المخطوطة الأولى
.( المجموعة القصصية،ص63).
إنّها تحيلنا إلى التشكيل البصري، القصص التفاعلية، المشهدّية
التى تستدعى هوامش، وتذييلات وشروح، وانزياحات، وتضمين، وتناصّ يعبّر عن الذات
المأزومة، عبر الشخوص، ليصبح الهامش متناً، ويصبح المتن هامشاً، وكأنها تصنع
عالمها/عالمنا عبر كاميرا الذات لديها، وعبر موضوعة المرأة ، ومواضعات الرجل، وتموضعات السرد المكتنز، المحمّل بطاقات وحمولات
دلالية، وجمالية، لابراز جماليات الأنثى عبر سرد يسير بدينامية/ ميكانيكية، وعبر هارموني ينتظم مسيرة الحكايات، وعبر
البساطة / العقلانية/ التقريرية/ والموضوعات الحالمة أيضاً . كما تستخدم الكاتبة
التقنيات الجديدة لشكلانية القصة القصيرة جداً، الى جانب الابيجراما التى تتتابع
كمتوالية سردية مونقة، تالية شعرية إشراقية، وإن
بدا السرد كلاسيكياً، الإّ أنه يحمل روح النصيّة، عبر بلاغة الواقعي، الحياتي،
العقلاني، والنفسي كذلك.
انها / سناء الشعلان ،
ابنة الأردن، التي حملت جغرافيا المكان والذات، وأحالتنا إلى التاريخ، عبر الزمان والمكان واللغة، إلى سرديتها الشاهقة،
وعبر التفاصيل الصغيرة لسرد محايث، رقيق، حالم، ومهيب لمسيرة الأنثى، التى تصوّر
الحياة ، تتعايش معها، تطبطب عليها، تصفها،
تتدخل في تفاصيلها، تغايرها، تناظرها، تتسق معها، تندغم داخلها، وكأنها تقدم لنا
تنويعات على إيقاعات السرد الإنسانى، كما نراها طوال الوقت شهق للحب، تتشهاه، تتغياه، تستنطق وجوده، تنشده عبر الكون
والمجتمع، والعالم ، والحياة .