ـ 1 ـ
في ذات فصل ربيعي زاهر ...
كانت بداية
تلك الرحلة الطويلة ، عبر سمْت مترب ، تتيه بين عرصات الزيتون السامقة ، ذات
الحبات العملاقة .
بين خلجان آيت عبو الحبيبة ركنت ناقلة جند على
ضفة قبيلة آيت لحسن ، بعدما أدخلها السائق ذو البنية القوية تحت عريش ممتد من شجر
الكليبتوس . من خلف تلك الهضاب الواجمة استفاقت ريح قوية ، أوشكت أن تقتلع الأشجار
من طابورها الممتد كحزام يفصل شمال آيت عبو عن جنوبها . في ذات الخلجان مساحات
كبيرة من البنفسج بلونها الزاهي ، وأدخنة الأفران تشق عنان السَّماء ، بدخانها
الأبيض النـَّاصع كالثلج. فعندما تغفو آيت عبو من سبات ليلي ظل يتربص بها ،
تستيقظ مذعورة من الكرى الشتوي ؛ فتطوي أطياف الزمن على الأغصان و الأشجار الذابلة
الأوراق .
من
مداخلها الشمالية ؛ سمت يقطع أحواض البتولة ، التي ألفها الناس في فصل الربيع ،
يقتاتونها دون أن ينضب لها معين . تلك المساحات الكبيرة من مغروسات شجرة الدوم ، التي
تصحنت في قعر الوادي ، تظهر من بعيد كشريط يفصل القرية إلى عذوتين . وفي مخرجها الجنوبي ضريح سيدي أحمد البوهالي
المعلق في السَّماء كتميمة ربانية مشدودة إلى غيمات هاربة . فهو محجُّ العديد من
القبائل المنتشرة غرب الضريح ؛ آيت الخنشة ، آيت أزباير ، آيت أوفريز ، آيت فراز
... عندما تظهر فلول الرمان في هوابطِ و منحدرات شعاب آيت عبو يستقبل
الناس نهاية الحول ؛ لأن فاكهة الرمان بحبوبها الحمراء تأذن بالرحيل إلى
الضريح ، كموسم التزاوج و التعارف بين كل القبائل .
ينظر ذو العينين الزرقاوين إلى القافلة ، وهي
ذاهبة في أفول المنعرجات ، يبتلعها صمت المكان المنذور لرحلة أبدية إلى هذا الضريح الملفوف في قطن الوجع و الحنين .
يحمل الجمعُ كل ما يروي الظمأ طيلة أسبوع ؛ من مأكل و مشرب و أغطية . بل يوفون بالنذر
ويأتون بالشياه و الأبقار ، كي تتم عملية النحر على أعتاب الضريح ، فتسيل وديان
الدماء في الشعاب والممرات كالطوفان
القاني . لا يحدها سوى كثبان رملية موجودة
شرق قبيلة آيت الخنشة الصامدة في وجه الريح ، الذي لا يبرح المكان ، وأزيزه استوطن
الدور وأقام في فلوات واطئة .
في صعود من
عين بوتمسيردين إلى البيت تحت ظلة شجرة الكليبتوس ، كان ذو العينين الزرقاوين يبحث
عن صندوق جلبه معه من ثكنة بلميلودي العسكرية بالقنيطرة . وضع أمامه الأوتاد و
الفرش من الدوم اليابس ، وسرح الخيمة من وبر الخرفان ، تفوح منها رائحة عطنة ساخنة
، بفعل رطوبة قليلة تسربت إليها داخل الصندوق العرعاري الصلب . هيأ الأدهم ذي
القوائم الرقطاء الراحلة ووضع عليه اللوازم ، و نادى على همة عيسى ، فقطعا
معا في سكون الليل المقمر ،أحراشا مالحة وواجمة
، كي يلتحقا بالركب إلى الضريح .
هذه الرحلة
كانت تنتظرها حدوم الغسالي ، وهي ممددة تحت العريش ، التي
تفوح منه رائحة الفستق الساخنة . حملت دلوا من البئر المليء بالماء ؛ لتروي ظمأ
العنزة الرابضة في فناء الدار . وأمام هذه اللوحة الفنية ، كانت السماء الزرقاء تشرب
غيوما و رياحا ناعسة جهة الشمال ، حاملة معها تقلبات المنازل و
الفصول .
أغلقت حدوم الغسالي باب الفناء المتداعي
، فأحدث صريرا قويا كعادته ، ومن خصاصاته المتهالكة يظهر أنها أعادت كل شيء إلى
مكانه ، بعد بحث خبيب عن كل ما يلزم هذه الرحلة ، التي حفرت أخاديد في الذاكرة .
ابتعدت عن الدار حتى ابتلعتها شعاب و ممرات ضيقة في اتجاه ضريح عَمَّر ، في آيت
عبو الحبيبة ، ما يزيد عن قرنين من الزمن ؛ فأصبح كقلادة تسح ما تسح من مُزنات
معلقة بين السَّماء و الأرض . في جوف ضباب كثيف ، يظهر الحشد الغفير ويختفي ؛ كرنفالا ضخما من الرجال و النساء والأطفال ، ملفوفين في سحابات قطنية من سديم
غبار مسحوق كالطحين ، يشقون طريقهم نحو الضريح .
ـ 2
ـ
أرخى
ذو العينين الزرقاوين ستار خيمته الوبرية ، تاركا أمامه ساحات تعج بقطعان البهائم
، وما جادت به ، هذه الأرض السخية من عطايا ؛ التين و الزيتون و الرمان المشروخ
والمعتـَّق كحبات الكرز الأحمر . يتقربون بها من أحفاد تسيل البركة من أناملهم
الطاهرة .
ـ يقول ذو
الجلباب الصوفي بفم أثرم هزمه الزمن :
بماء نمير تسيل
اثنتا عشـْرة عينا من تحت خيمة أحفاد سيدي أحمد البوهالي . يزينون مجالسهم بالذكر والتعاويذ
، وبعض الأبخرة المرطـّبة للمكان ، قد جلبوها من مقامات زكية في الشرق الأقصى .
فعندما تلج
الضريح ، من بابه الخلفي ، يقول ذو الإصبع الأعْجـَر
ـ تصادفك قطط تحمل ذاكرة المكان ـ الضريح ؛ ما بين
الأسود و المحجَّل و المرقط والأشهب و الأشمط
والرمادي و الأعور الشرس . إلى جانب ، ذلك ، غرفة مظلمة كعلبة سوداء ذات طاق واطئة
مقوسَّة . لها إفريز ، من التوتياء ، تشرب أقواس السحاب المطيرة ، غمرها الصدأ
البني . فكلما هبَّ نسيم عليل في الوديان
، والخلجان أو لامس النجف الأشرف ، تحدث التوتياءُ صوتا يشبه أنين الموتى في قبور تحلقت
حول الضريح منذ الأزل ، معلنة عن دورة الزمن في قبيلة آيت عبو .
يقول المعتوه
، وهو رجل يسيل اللعاب على شفتيه الناشفتين ، بتلكؤ :
إنني أعدو ،
في خفة الوشق ، كلما عنَّ في سماء الضريح دخان يشق العنان، يشي ذبيحة قد كست
الصحون المطيَّنة لحما و عظما . فعندما أتسلق عاليا عند قبة الضريح ، تظهر القبور بدون
شواهد كرؤوس اليتامى صلعاء ، تطل على حفر لا تكف عن الامتلاء . إنها قبور
كانت ولازالت وكرا لكلاب ضالة ، تحفر
أوجرتها تتبع الأجساد الفانية .
لملم ذو العينين الزرقاوين أغراضه ، بعدما سحت
سماء آيت عبو بأولى قطرات المطر ، لتغسل كل ما تركته القبائل في الساحة الوطيئة ،
كي تتجدد من زمن إلى زمن .