-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

قصة قصيرة "وجعُ ضريح" ذ . رشيد سكري


                                        ـ 1 ـ
    في ذات فصل ربيعي زاهر ...
كانت بداية تلك الرحلة الطويلة ، عبر سمْت مترب ، تتيه بين عرصات الزيتون السامقة ، ذات الحبات العملاقة .
بين خلجان آيت عبو الحبيبة ركنت ناقلة جند على ضفة قبيلة آيت لحسن ، بعدما أدخلها السائق ذو البنية القوية تحت عريش ممتد من شجر الكليبتوس . من خلف تلك الهضاب الواجمة استفاقت ريح قوية ، أوشكت أن تقتلع الأشجار من طابورها الممتد كحزام يفصل شمال آيت عبو عن جنوبها . في ذات الخلجان مساحات كبيرة من البنفسج بلونها الزاهي ، وأدخنة الأفران تشق عنان السَّماء ، بدخانها الأبيض النـَّاصع كالثلج. فعندما تغفو آيت عبو من سبات ليلي ظل يتربص بها ، تستيقظ مذعورة من الكرى الشتوي ؛ فتطوي أطياف الزمن على الأغصان و الأشجار الذابلة الأوراق .
   من مداخلها الشمالية ؛ سمت يقطع أحواض البتولة ، التي ألفها الناس في فصل الربيع ، يقتاتونها دون أن ينضب لها معين . تلك المساحات الكبيرة من مغروسات شجرة الدوم ، التي تصحنت في قعر الوادي ، تظهر من بعيد كشريط يفصل القرية إلى عذوتين  . وفي مخرجها الجنوبي ضريح سيدي أحمد البوهالي المعلق في السَّماء كتميمة ربانية مشدودة إلى غيمات هاربة . فهو محجُّ العديد من القبائل المنتشرة غرب الضريح ؛ آيت الخنشة ، آيت أزباير ، آيت أوفريز ، آيت فراز ... عندما تظهر فلول الرمان في هوابطِ و منحدرات شعاب آيت عبو يستقبل الناس نهاية الحول ؛ لأن فاكهة الرمان بحبوبها الحمراء تأذن بالرحيل إلى الضريح ، كموسم التزاوج و التعارف بين كل القبائل .
  ينظر ذو العينين الزرقاوين إلى القافلة ، وهي ذاهبة في أفول المنعرجات ، يبتلعها صمت المكان المنذور لرحلة أبدية  إلى هذا الضريح الملفوف في قطن الوجع و الحنين . يحمل الجمعُ كل ما يروي الظمأ طيلة أسبوع ؛ من مأكل و مشرب و أغطية . بل يوفون بالنذر ويأتون بالشياه و الأبقار ، كي تتم عملية النحر على أعتاب الضريح ، فتسيل وديان الدماء في الشعاب  والممرات كالطوفان القاني  . لا يحدها سوى كثبان رملية موجودة شرق قبيلة آيت الخنشة الصامدة في وجه الريح ، الذي لا يبرح المكان ، وأزيزه استوطن الدور وأقام في فلوات واطئة .
في صعود من عين بوتمسيردين إلى البيت تحت ظلة شجرة الكليبتوس ، كان ذو العينين الزرقاوين يبحث عن صندوق جلبه معه من ثكنة بلميلودي العسكرية بالقنيطرة . وضع أمامه الأوتاد و الفرش من الدوم اليابس ، وسرح الخيمة من وبر الخرفان ، تفوح منها رائحة عطنة ساخنة ، بفعل رطوبة قليلة تسربت إليها داخل الصندوق العرعاري الصلب . هيأ الأدهم ذي القوائم الرقطاء الراحلة ووضع عليه اللوازم ، و نادى على همة عيسى ، فقطعا معا في سكون الليل المقمر ،أحراشا مالحة  وواجمة ، كي يلتحقا بالركب إلى الضريح .
هذه الرحلة كانت تنتظرها حدوم الغسالي ، وهي ممددة تحت العريش ، التي تفوح منه رائحة الفستق الساخنة . حملت دلوا من البئر المليء بالماء ؛ لتروي ظمأ العنزة الرابضة في فناء الدار . وأمام هذه اللوحة الفنية ، كانت السماء الزرقاء تشرب غيوما و رياحا   ناعسة جهة الشمال ، حاملة معها تقلبات المنازل و الفصول .                                                  
 أغلقت حدوم الغسالي باب الفناء المتداعي ، فأحدث صريرا قويا كعادته ، ومن خصاصاته المتهالكة يظهر أنها أعادت كل شيء إلى مكانه ، بعد بحث خبيب عن كل ما يلزم هذه الرحلة ، التي حفرت أخاديد في الذاكرة . ابتعدت عن الدار حتى ابتلعتها شعاب و ممرات ضيقة في اتجاه ضريح عَمَّر ، في آيت عبو الحبيبة ، ما يزيد عن قرنين من الزمن ؛ فأصبح كقلادة تسح ما تسح من مُزنات معلقة بين السَّماء و الأرض . في جوف ضباب كثيف ،  يظهر الحشد الغفير ويختفي ؛  كرنفالا ضخما من الرجال و النساء  والأطفال ، ملفوفين في سحابات قطنية من سديم غبار مسحوق كالطحين ، يشقون طريقهم نحو الضريح .
                                           ـ 2 ـ      
    أرخى ذو العينين الزرقاوين ستار خيمته الوبرية ، تاركا أمامه ساحات تعج بقطعان البهائم ، وما جادت به ، هذه الأرض السخية  من عطايا ؛ التين و الزيتون و الرمان المشروخ والمعتـَّق كحبات الكرز الأحمر . يتقربون بها من أحفاد تسيل البركة من أناملهم الطاهرة .
ـ يقول ذو الجلباب الصوفي بفم أثرم هزمه الزمن : 
بماء نمير تسيل اثنتا عشـْرة عينا من تحت خيمة أحفاد سيدي أحمد البوهالي . يزينون مجالسهم بالذكر والتعاويذ ، وبعض الأبخرة المرطـّبة للمكان ، قد جلبوها من مقامات زكية في الشرق الأقصى .
فعندما تلج الضريح ، من بابه الخلفي ، يقول ذو الإصبع الأعْجـَر
ـ  تصادفك قطط تحمل ذاكرة المكان ـ الضريح ؛ ما بين الأسود و المحجَّل و المرقط  والأشهب و الأشمط والرمادي و الأعور الشرس . إلى جانب ، ذلك ، غرفة مظلمة كعلبة سوداء ذات طاق واطئة مقوسَّة . لها إفريز ، من التوتياء ، تشرب أقواس السحاب المطيرة ، غمرها الصدأ البني  . فكلما هبَّ نسيم عليل في الوديان ، والخلجان أو لامس النجف الأشرف ، تحدث التوتياءُ صوتا يشبه أنين الموتى في قبور تحلقت حول الضريح منذ الأزل ، معلنة عن دورة الزمن في قبيلة آيت عبو .
يقول المعتوه ، وهو رجل يسيل اللعاب على شفتيه الناشفتين ، بتلكؤ :
إنني أعدو ، في خفة الوشق ، كلما عنَّ في سماء الضريح دخان يشق العنان، يشي ذبيحة قد كست الصحون المطيَّنة لحما و عظما . فعندما أتسلق عاليا عند قبة الضريح ، تظهر القبور بدون شواهد كرؤوس اليتامى صلعاء ، تطل على حفر لا تكف عن الامتلاء . إنها قبور كانت  ولازالت وكرا لكلاب ضالة ، تحفر أوجرتها تتبع الأجساد الفانية .
  لملم ذو العينين الزرقاوين أغراضه ، بعدما سحت سماء آيت عبو بأولى قطرات المطر ، لتغسل كل ما تركته القبائل في الساحة الوطيئة ، كي تتجدد من زمن إلى زمن .                                     

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا