كتاب "
مظاهر يقظة المغرب الحديث" من تلك الكتب التي تتحول قراءتها إلى كتابة
ثانية؛فالمؤلف ،رحمه الله ،"يورط" قارئه منذ البداية ،في عالمه ،ليظل
متلبسا بالوثيقة التاريخية –الحاضرة حضورا مكثفا – يوظفها في تأسيس الخلاصات
،والمشاركة في
إعادة بناء مرحلة ،لا يزال تأثيرها فاعلا في مغرب اليوم.
تنهي الكتاب
،وهو لا ينتهي، وقد وقر في نفسك أنك لم تقرأ تاريخا جافا ،وإنما رحلت عبر الزمن
،لتعاود ،مع أسلافك، ممارسة الحياة في القرن التاسع عشر ،وأوائل العشرين،بكل
ملابساتها.
وحينما
تُنضِج الكتابة التاريخية ،القراءة إلى هذا المستوى ،فان أقل ما يقال فيها أنها
مدرسة ،ليس للتاريخ فقط ،وإنما للتربية على المواطنة أيضا.
كلما أعدت
قراءة هذا العرض ،الذي أنجزته سنة1990 لمجلة "بصمات .ع:5/جامعة الحسن
الثاني.المحمدية"،إلا وشدني الحنين إلى معاودة قراءة الكتاب ،وتحريض القراء
عليه.
وإذ أفعل
اليوم - مرقمنا العرض الورقي - تفرض علي
يقظةٌ أخرى نفسها؛يقظة مغرب ما بعد كورونا ؛وأتساءل :هل هي ممكنة بعد كل هذا
الخراب الاقتصادي القهري ،والعنت الاجتماعي،والرهبة من الغد ؟
يجيبني
المرحوم المنوني ،من خلال كتابه المرجعي القيم : نعم انها ممكنة ؛فما دام المغرب قد استيقظ من قرون من السبات،فكيف لا
يستيقظ من غفوة ثلاثة أشهر؟
الطور الثاني:1860-1900
يضعنا
المؤلف،في مدخل هدا التطور،أمام نضج مزدوج:نضج الأزمة الشاملة اثر معركة تطوان
1860؛ و هي الأزمة التي لاحت نذرها، خصوصا، بعد احتلال الجزائر، ونضج المشروع الإصلاحي
التجديدي الرسمي، الذي ابتدأ في الطور الأول، على شكل إرهاصات فكرية شعبية، فرضها
تطور الأحداث.
بخصوص إسقاطات
حرب تطوان ، يسجل المؤلف:
ـ زوال الهيبة ـ نهائيا ـ عن بلاد
المغرب.
ـ استفحال التطاول الأجنبي، والتنافس
حول المغرب.
ـ كثرة الحمايات التي نشأ عليها ضررٌ
كبير.
ـ تأزم الاقتصاد المغربي.
وبخصوص ما
قابل هذه الإسقاطات من مبادرات تجديدية رسمية ،على عهد السلطانين محمد الرابع و
الحسن الأول ـ يقول المؤلف : حقا إنهما بذرا البذور الصالحة ، ووضعا اللبنات الأولى
لاصطلاح الحالة بالمغرب ، ولو ساعدتهما الظروف ، وساعدت الذين أتوا بعدهما لتحول
المغرب ، من ذلك التاريخ ، إلى امة لها مكانتها و مقامها.
وعبر محطات
متعددة م ص 42 إلى ص 492ـ نقف مع المؤلف على شتائل هده البذور وهي تحاول جاهدة
الصمود لملابسات وضع داخلي ينحو نحو التأزم المطبق ، وبراثن أطماع خارجية مكشوفة.
تنظيم الجهاز الحكومي: حرص كل من السلطانيين
محمد الرابع و الحسن الأول على تنظيم الحكومة و توسيعها لتشتمل على عدة وزارات بدل
الوزارة الواحدة/ الصدارة.
و نظرا لخصوصيات
المرحلة و الأدوار المنوطة بالخارجية ، فقد ركز المؤلف على الإصلاحات التي مست هده
الوزارة ، من حيث الشكل و الجوهر ؛ ليصل إلى تحديد أهداف السياسة الخارجية
المغربية ، وقتذاك ، في الآتي:
ـ المحافظة
على حدود المغرب التاريخية.
ـ مقاومة
التدخل الأجنبي؛و من مظاهره الأولى مشكل الحمايات .
ـ تطوير
علاقات المغرب مع بعض الدول : مصرـ الدولة العثمانية.
في موضوع الحدود
نقف مع المؤلف ،عبر شواهد، على مغربية شنقيط ،وبيعة تندوف للسلطان محمد بن عبد
الرحمن ، على لسان علامتها الشيخ محمد المختار بن الأعمش الجكني، كما نلمس الجهد الذي
بُذل ،خصوصا على عهد السلطان مولاي الحسن الأول
ـ للحفاظ على إقليم توات.
تجديد الجيش : من المنطقي أن تكون أول مؤسسة أصابها
الانهيار هي الأولى التي مسها الإصلاح، وهدا ما يؤكده المؤلف حينما يقول : بعد
موقعة اسلي بدأت المحاولات الأولى لتجديد الجيش المغربي أيام السلطان عبد الرحمن ،
حيث نظمت في عهده بعض فرق من الجيش ،على نسق نظام الجيش التركي الحديث.
ومن
المفارقات الدالة أن يواجَه هدا التجديد بمعارضة من بعض الجهات ، مما دفع بالسلطان
محمد بن عبد الرحمن ـ عقب حرب تطوان ـ إلى استفتاء مجموعة من العلماء في شانه؛
ليشرع ، بعد ذلك ،في توطيده وتوسيع دائرته ، و هدا ما سار عليه ـ بعزم ـ السلطان
الحسن الأول، إذ كان يباشر عرضه و ترتيبه
بنفسه ، و استجلب له المدربين من انجلترا و فرنسا و اسبانيا.
وبعد أن
يطوف بنا المؤلف عبر محطات أخرى : إحياء الأسطول ، بناء المعامل الحربية ، إصلاحات
بالشواطئ و بناء التحصينات، وهي مظاهر يقظة مرتبطة بتجديد الجيش ، يصل بنا إلى
جانب له أهميته أيضا ؛و يتعلق الأمر بتطوير بعض الصناعات من خلال إنشاء عدد من
المعامل يذكر منها المؤلف : معمل السكر بمراكش، بذل فيه مؤسسه محمد الرابع المال
الطائل ، و جلب له اختصاصيين من اروبا لبنائه ، معمل القطن بمراكش أيضا، وردت على
المغرب أدواته أوائل دولة الملك محمد الرابع عام 1279 هج أو قبله؛ و طاحونة بخارية
استجلبها محمد الرابع عام 1279ه/1862م ، و نصبها لفائدة السكان بمدينة طنجة.
وبموازاة
هدا التحول المحدود ، الذي يحذو نحو مكننة بعض الصناعات يسجل الكاتب ـ بعد استنطاق مجموعة من الوثائق كعادته ـ ما
حصل من تقدم نسبي في تجارة المغرب الخارجية ،على هذا العهد، نتيجة لتقدم المواصلات
في الخارج أو للتسهيلات لمحلية.
ومن
المؤشرات الدالة على هدا الانتعاش التجاري ، و ما دره على المغرب من نفع ،يذكر
المؤلف :
ـ مشاركة
المغرب ، بمنتجاته التقليدية ، في معارض باريس: الثاني 1867، الثالث 1878 ،
والرابع 1889.
- بعض مظاهر
اليسر التي بدت على حواضر المغرب في عهد محمد الرابع .
ـ إقدام
السلطان الحسن الأول على" رفع المكوس
في سائر الأبواب بالمدن و القرى المغربية
كلها".
و ترتبط يهدا
الموضوع قضايا حيوية أخرى :
تجديد العملة ، تشريع لموظفي الديوانات ، تنظيم
البريد ؛خاض فيها المؤلف من خلال مرجعية رسمية في اغلبها ، باعتبار طبيعة هده
القضايا.
ونسجل بخصوص
العملة أنه رغم محاولات تجديدها (محمد الرابع، الحسن الأول) للحفاظ على قيمتها بموازاة العملات الأجنبية ،
فقد "آلت محاولة الإصلاح إلى فساد ؛لكن الإصلاح أتى من الداخل و الفساد هجم
من الخارج".ص118.
بعد هدا
المستوى من الطور الثاني ، حيث تم التركيز على مظاهر يقظة المغرب الحديث في
الميادين التي يغلب عليها الطابع الإداري ؛ ينتقل بنا المؤلف إلى مستوى آخر يغلب
عليه الطابع التثقيفي ،و تبرز فيه المساهمة الشعبية أو تطغى على بعض الميادين .
يتعلق الأمر ب:
ـ الانبعاث في ميدان التعليم : استهدف هدا
الانبعاث الذي يعود الفضل فيه اغلبه إلى السلطان محمد الرابع، إنعاش دراسة العلوم
الرياضية و العسكرية و تقريبها من الدراسات الحديثة .
ـ الترجمة العربية : نظرا لأهمية حركة الترجمة ـ
كدليل على انفتاح المغرب في هذا الطور ـ لم يتعامل معها المؤلف كمجرد مكون من
مكونات الانبعاث في ميدان التعليم ، بل افرد لها حيزا خاصا أحاط فيه برجالاتها و
مجالاتها العلمية .
عقب هدا
يستعرض عددا من الموضوعات الفلكية الجديدة" ساهمت بدورها في هده الانبعاثة "،
و"زمرة من الفلكيين المبتكرين و المؤلفين في هده الفترة " ليتتبع إنتاج
من أربعة من أعضاء البعثات العلمية إلى الخارج ـ كدليل على حكمة هدا التوجه
الانفتاحي
ـ في مجالات
: الطب ، الرياضيات ، الجغرافيا و الرحلات .
ويبقى
المؤلف مع أفراد البعثات فيما عنونه ب "خرط و تقنيات حديثة" ليؤكد إن
منهم من برع في رسم الخرائط و التصاميم المعمارية ، ومنهم من أتقن صناعة الساعات
الحائطية.
وعلى غرار
اهتمامه المتميز بموضوع الترجمة يخص المؤلف الطباعة الحجرية الفاسية بعرض مسهب ؛
يستهله بالحديث عن نشأة الطباعة و شيوعها ، و ظروف وصول المطبعة الحجرية إلى
المغرب 1281ه/ 1864 على يد قاضي تارودانت محمد الطيب بن محمد
السوسي التملي الروداني ، الذي أهداها، بعد تشغيلها مدة وجيزة لحسابه، للسلطان
محمد الرابع ، لتصبح مؤسسة حكومية تحمل اسم المطبعة السعيدة .
بعد هده
البدايات ، التي تم فيها طبع عدد من الكتب ، أولها الشمائل المحمدية للترمذي ،
تحولت المطبعة الحجرية الأولى إلى مؤسسة فردية بيد أبناء الأزرق بفاس .
وابتداء من
سنة 1310ه تبدأ منشورات مطبعة أخرى في الظهور؛وهي المطبعة الجديدة لابن عبد المولى
، و شيئا فشيئا تتسع الدائرة.
ويختم
المؤلف حديثه عن الطباعة بإيراد أربعة عشر ملحقا ، تتكامل في تقريب القارئ من سير
عمل المطابع الأولى ، في أدق تفاصيله.
من الحديث
عن الطباعة التي تأثر فيها المغرب بالشرق
العربي ، يقربنا المؤلف من مناخ ثقافي متميز له دلالته .
يتعلق الأمر بالانعكاس المباشر لآثار النهضة
الغربية على كتابات بعض المثقفين المغاربة في هدا الطور ؛ يختار منهم اسمين بارزين
: أبو اسحاق التادلي ت 1894 و أبو العباس الناصري ت 1897.إن التأثر بالنهضة الاوروبية
شيء، و الانقياد، بدافع نفعي ،لحماية الدول الأجنبية شيء آخر، مخالف تماما ؛ وقد
عانى المغاربة ـ سلطة وشعبا ـ أيما عناء من أمر هده الحمايات التي تهافت عليها
البعض . لقد سجل المؤلف مواقف عدد من علماء المغرب ـ عبر خطبهم وكتاباتهم ـ ضد هدا
الوضع المفارق ، واقتصر على ذكر:
الحاج
العربي بن علي المشرفي الفاسي الفهري ت 1896 ، صاحب الخطبة المعنونة ب: إيقاظ
السكارى المحتمين بالنصارى.
وبموازاة
هده المواقف وغيرها ، المؤسَّسة على استشعار الخطر المحدق بالدين و الوطن ،ظهرت
كتابات شعبية أخرى تحث على الاستعداد للمواجهة المنظمة تنظيما حديثا ، تعزيزا للإجراءات
التجديدية التي أقدم عليها ،في هدا المجال، السلطان محمد الرابع بالخصوص.
ستفضي هده
الكتابات سواء ما تعلق منها بالحمايات أو بالجيش النظامي ،وكدا تغلغل النفوذ الأجنبي
إلى بروز الدعوة إلى الجهاد ، بتافيلالت أولا ؛وبموازاتها ظهر اتجاه جنح أصحابه إلى
الحلول السليمة ، متأثرين بواقع المغرب ،سياسيا وعسكريا واجتماعيا. ص 348.
و لا تكتمل
للمؤلف الإحاطة بمظاهر اليقظة ،في هدا الطور، دون الحديث عن ظهور الصحافة المغربية
بالمغرب ، ممثلة أولا في جريدة المغرب الأسبوعية، التي يرجع تاريخ صدور أول عدد
منها ـ بطنجة ـ إلى يوم الأربعاء 14 رمضان عام 1306/15 مايو 1889.
وعن "صدى
حرب تطوان في الأدب المغربي" نقرا مع المؤلف عددا من النصوص، النثرية
والشعرية و الزجلية ، تبكي ما حل بالمغرب ، وتستنهض الهمم "لإعلاء كلمة الله
سِراعا ".
وفي المحطة الأخيرة
من هدا الطور "طلائع المعارضة الشعبية "، نقتنع مع المؤلف ـ من خلال
مرجعياته وخلاصاته ـ بان مصدر تذمر المغاربة ، في هده المرحلة ، لم يكن خارجيا
دائما بل داخليا أيضا ، فقد استنكروا ضريبة المكس، مند تشريعها على يد السلطان
محمد الثالث ، واتخذ هدا الاستنكار شكل ثورة شعبية ـ بفاس ـ ضد احد الأمناء عام
1873.
ونظرا
لارتباط هده الثورة ـ مرتين ـ بفريق الدباغين ، يسجل المؤلف أن الأمر يتعلق ب:"
أول ثورة عمالية يشهدها المغرب الحديث" .
وتورد
مرجعيات المؤلف أسماء عدد من العلماء الدين جاهروا بتحريم المكوس ، وأزروا
المتضررين منها، دون توان ولا خوف . من هؤلاء العلماء : محمد بن المدني كنون ت
1302 ، أبو اسحاق إبراهيم التادلي ، المولى عبد الملك الضرير ، محمد العلوي
المدغري ، الطالب بنسودة ، عبد الله بن إدريس الحسني ، وعبد الواحد ابن المواز.
ينتهي الجزء
الأول بكلمة ختامية منصفة ، ومحرضة على استكمال البحث في الموضوع ؛ فالمؤلف يصرح بأنه
لم يتمكن من الوقوف على عدد من المؤلفات ؛ كما يتوقع إن تكون هناك انجازات أخرى لإفراد
البعثات الدين لم يذكر لهم أثرا .
ويلفت الانتباه أيضا إلى أن عددا من الوثائق لا
يزال بحوزة الخواص ، وعددا منها لايزال بحاجة إلى تنظيم ، بالمؤسسات العامة؛ ويضاف
إلى هدا ما قد يوجد من مستندات لدى الدول المستقبلة للبعثات الطلابية.
وكمن يستيقظ
من كابوس ليواجه واقعا أقسى منه، تفجر هده الخاتمة سؤالا يبدو أن الكاتب تحاشاه ـ
على مدى كل المحطات ـ تاركا المرجعيات تؤسسه وتنضجه في ذهن القارئ :
ما هي الأسباب
التي أدت إلى فشل هده المحاولات الإصلاحية ، وفي طليعتها حركة البعثات التي اتجهت
للدراسة في ارويا ؟ .
تحدد
المرجعيات عدة أسباب ، يستعرضها المؤلف ليخلص إلى القول :
وأخيرا لا ننسى واقع المغرب ـ في هدا الظرف بالذات
ـ أمام التدخل الأجنبي ، وقد كان له آثار بعيدة في شل المحاولات التقدمية أيا كان
نوعها . ص 387.
عرض الجزء الثاني:
يتبع